رمان الوجوه العابرة

رمان الوجوه العابرة

1 reviews

رمان الوجوه العابرة

التقيا أول مرة في مكتبةٍ صغيرة قرب المحطة. كانت سلمى تمدّ يدها لكتابٍ كان يوسف قد سبقه إليها بجزء من ثانية. تراجعا معًا، وابتسم كلٌ منهما للآخر بتلك الابتسامة الحذرة التي تشبه فتح نافذة في شتاء بارد. اقترح يوسف أن يقرآه بالتناوب في المقهى المقابل، فوافقت وهي تنظر إلى الساعة كمن يمنح الزمن استراحة قصيرة.

جلسا قرب النافذة، والمدينة تمرّ على الرصيف كموكبٍ من الوجوه العابرة. قرآ بصوتٍ خافت وتبادلا التعليقات، ثم انتقلا من الكتاب إلى ما يشبه الهامش الطويل لحياتين لم تتقابلا من قبل: عمل يوسف في الميناء موقتًا حتى يجمع ما يكفي للسفر بمنحة دراسية، وسلّمته سلمى خجلها مثل كوب ماء لا ينسكب، تحب الرسم وتدرّس أطفال الحيّ خطوطًا مستقيمة كي لا تخاف أيديهم من الورق الأبيض.

منذ ذلك اليوم صار المقهى موعدًا يوميًا لا يحتاج إلى ترتيب. كان يوسف يقول إن المكان يعرف خطواتهما، وإن النادل صار يسأل عن “الفصل الذي وصلا إليه”. في إحدى الأمسيات، خرجا إلى الحديقة القريبة، زرعا نواة رمانٍ في تربةٍ رطبة خلف المقعد الأخير، وتعاهدا أن يقيسا الزمن بظلّ الشجرة حين تكبر. ضحكت سلمى: “ظلال الرمان حمراء، حتى وهي على الأرض”. قال يوسف: “سنرى”.

حين جاءت المنحة، بدا الفرح مثل نافذة مفتوحة على البحر. وعدها أن يعود في الخريف الأول، وأن لا يجعل الغياب أكثر من فصلٍ واحد في كتابٍ لا يريدان له نهاية. ترك لها الكتاب الذي جمعهما أول مرة، وطلب أن تكتب له في هوامشه كل ما يفوت عليه: المطر، أسماء الأطفال الجدد، وأخبار النواة المدفونة. كتبت سلمى. كتبت كثيرًا. كانت تضع الرسائل بين الصفحات، ترسل بعضها وتخبئ بعضها الآخر كي يجدها حين يعود.

في المدينة البعيدة، كان يوسف يكتب بدوره: صورٌ للثلج الأول، مواعيد الامتحانات، وخوفه من الليل حين يهدأ كل شيء إلا رغبته في الصوت الذي يعرفه. كانا يعيشان على جسرٍ من كلمات، وكل رسالة تصل تشدّ حبال الجسر، تجعل خطواتهما عليه أكثر ثقة.

في أواخر الصيف، بدأت الأخبار عن اضطرابٍ في البحر. الريح تغيّر مزاجها، والمراكب الصغيرة تتردّد في الخروج. قال يوسف في مكالمةٍ سريعة إنه سيأتي على متن العبّارة التي تخرج فجر الخميس، وإن الخريف لا يكتمل من دونه. أغلقا الخطّ وترك كلٌ منهما قلبه معلّقًا بين سماءٍ وسقف.

فجر الخميس، صارت النشرة خبرًا واحدًا طويلًا: عاصفة مباغتة في عرض البحر، وعبّارة مفقودة الإشارة. هاتفت سلمى الميناء حتى بحّ صوتها. قالت لهم الاسم والموعد، قالوا لها انتظري. في المساء تحوّلت العبّارة إلى قائمةٍ من أرقامٍ لا أسماء لها. لم تقل سلمى كلمة. حملت الكتاب وذهبت إلى الحديقة. حفرت بأصابع مرتجفة قرب النواة القديمة، كأنما تريد أن تستخرج من التراب صيغةً أخرى للغيب.

مرّت أسابيع بلا يقين. كانت المدينة تواصل حياتها، والوجوه تعبر كما كانت، لكن المقهى صار كرسيًّا فارغًا وطاولة تعرف يدًا واحدة. أعادت سلمى قراءة ما كتبه بين الصفحات، وكتبت آخر رسالة ولم ترسلها: “إذا عدتَ متأخرًا عن الخريف، سأغفر لك. الأشجار تفعل ذلك كلّ عام.”

في الشتاء، ظهرت براعم صغيرة مكان النواة المنسية. انتصبت سلمى أمامها كمن يتلقّى اعترافًا دافئًا من الأرض. صارت تأتي كل صباح تحمل ماءً وكلمة. كبرت الشجرة ببطء، واستوى ظلّها على المقعد الأخير. كانت سلمى تقول للظلّ “يوسف” كلما مرّت، وتخاف أن تنطق الاسم بصوتٍ عالٍ فتجرح الهواء.

في الذكرى الأولى للعاصفة، ذهبت إلى الشاطئ. حملت معها الكتاب وحبّة رمانٍ من السوق، تشبه ما تمنّت يومًا أن تقطفه من شجرتها. جلست على صخرةٍ قريبة من الماء، فتحت الكتاب عند أول صفحة تقابلا عندها، فوجدت ورقةً صغيرة التصقت بالحافة: إيصالٌ قديم من المقهى، بخطّ يوسف على ظهره: “لا تُثقلي قلبك بالاحتمالات، يكفي أن نصدّق النهار حين يجيء.” ابتسمت كأنها تسمع صوته، ثم أغلقت الكتاب ببطء.

قسّمت حبّة الرمان نصفين، أسقطت نصفها في البحر، وتركت النصف الآخر عند قدمَيها. لم تتمنَّ أمنية، ولم تسأل البحر جوابًا. اكتفت بأن رأت الماء يحمل الحَبَّ بعيدًا، كأنّه يوزّع قلبًا صغيرًا على أمواجٍ لا تعود. قامت، نفضت الرمل عن فستانها، ومشت.

في الطريق إلى الحديقة، مرّت بالمقهى. الكرسيّ الفارغ كان على حاله، لكن النادل بدّل فنجان الورد بفنجانٍ أبيض. ابتسمت له من وراء الزجاج، وأكملت السير. عند المقعد الأخير، كان ظلّ الشجرة أطول قليلًا من الأمس. جلست تحت الظلّ وقالت: “عدتُ وحدي.” ولم تزد.

في المساء، أعادت الكتاب إلى رفّ المكتبة قرب المحطة، حيث بدأت الحكاية. تركت بين صفحاته الرسالة التي لم تُرسل، وخرجت. كانت المدينة تمشي على الرصيف كعادتها، والوجوه تعبر. أمّا ظلّ الشجرة، فكان يتسع في غيابٍ لا يقيسه أحد.

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

2

followings

2

followings

2

similar articles