روايه المسافر الجزء الاول

روايه المسافر الجزء الاول

0 reviews


تصاعد رنین المنبه بكل استفزاز، وكأنه یعلن اعتراضه الشدید على كسلي وسهري
المبالغ فیه.. اخرسته بلكمه خطافیه بقبضة یدي الیمني طرحته أرضًا لأحاول بعدها
إكمال نومي اللذیذ ثانیة.. ثم تذكرت إلتزامي بمواعید العمل.. حینها اضطررت

متأففًا أن استیقظ للحاق بذلك العمل اللعین..
كان الجو ذلك الصباح باردًا بعض الشئ، ولكنه ذلك البرود المحبب الذي یبعث
على الإرتجاف والانتشاء في نفس الوقت.. وبالرغم من انتمائي لفصیلة موالید شهر
دیسمبر المعروف بدرجات الحرارة شدیدة الإنخفاض.. إلا ان ذلك لم یجعلني من
محبي فصل الشتاء بتاتًا.. انا أمیل للصیف بحرارته ودفئه.. وكم تكون فرحتي
واستمتاعي عندما تلمس الشمس بأناملها الحارة بشره خدي الابیض المشرب
بالحمرة.. تلك البشرة التي ورثتها عن والدتي - رحمها االله -.. لم أرها في حیاتي
قط، ولكني رأیت صورها مع والدي - رحمه االله أیضًا -.. كم كانا سعیدین بالرغم
من عدم وجود ابن تحتضنه أیدیهم.. وسبحان االله.. وقت أن جئت للدنیًا أخیرًا..

رحلت هي وتركتني وحیدًا..
قمــت مــن على ســریري متكاســلاً، متجــهًا نحــو دورة المیاة.. قضــیت حــاجتي
ثــم اغتســلت وتوضــأت وصــلیت فروضــي.. بالطبع لا یوجــد مــن یقطــن
معــي تحــت ســقف هــذا البــیت لیجــهز لــي طعــامي، لــذلك لا یوجــد فــي
جــدولي الیومي مـا یسـمي بالإفطار.. ولكن لا مشكلة.. إن قطعتین من الحلوي او
تلك المقرمشات المشبعه بالزیوت ومكسبات الطعم ومستقبل مشرق حافل
بالكولیسترول لقادرة على منحي ما یكفي من طاقة للوصول الى عملي نشیطًا

متیقظًا..
احتسیت كوب النسكافیه المعتاد، وأنا استمع لجزء من بالیة كسارة البندق الشهیرة
للموسیقار الروسي تشایكوفسكي.. كم أحب تلك المقطوعة.. استماعي للموسیقي
الكلاسیكیة هوایة محببة منذ الصغر، كان الفضل الاول والاخیر فیها لجدي والد
أمي رحمها االله.. هو السبب في جعلى عاشقًا لكل ماهو قدیم.. الموسیقي الكلاسیكیة
او قراءة كتب التاریخ او مشاهدة الافلام القدیمة.. یجالسني فیطوف بحكایاته في

ازمنة قدیمة فیها الناس أفضل مما هم علیه الآن بكثیر..
اكتشفت أني قد اندمجت في الموسیقي وأضعت ربع ساعة كاملة من وقتي الثمین..
لا سیما أنى متأخر بالفعل على موعد العمل.. هرعت الى الشارع لألحق بأتوبیس

النقل العام الذي سینقلني الى محل عملي خلال ساعة كامله بسبب ازدحام الطرق..
نفس الطریق.. نفس المحلات.. نفس الزحام.. اغلب وقتنا یضیع في الزحام.. كم من
ساعات مرت في اشارة مرور حمراء.. او منتظرًا في طابور من السیارات الحانقة

بسبب شجار سخیف بین قائدي سیارتین لم تلمس احداهما الاخرى اساسًا!!

ً

 

اشعر احیانًا اننا كمواطنین مصریین لدي اغلبنا من مخزون وقته الكفایة التي تتیح
له البحث عن اي سبب ولو تافه لیضیع وقته من خلاله.. اللهم ارحمنا برحمتك فأنت

ارحم الراحمین..
وكالعاده.. لم یجد الركاب من حولي في الاتوبیس أفضل من الحدیث في شئون
السیاسة وأحوال البلد لتزجیة الوقت الضائع من عمرهم في علبة الصفیح تلك..
لكني كالعاده ایضًا كنت جاهزًا.. اخرجت سماعات الاذن من جیب بدلتي، وضعتهم
في اذني.. سأحلق في سماء موتسارت وبیتهوفن بعیدًا عن تلك الفوضي والزحام
المبالغ فیه.. ستداعب اصابع شوبان وباخ أذني المرهفة كما تداعب القطه أطفالها..

خذوني بعیدًا من هنا ارجوكم.. فأنا لا أطلب إلا السكون والسلام..
بعــد ســاعه مــن النشــوي والســكینة.. اضطررت للخــروج منــها لبــدء حیــاتي
الیومیــة الرتیبــة مــع زملائــي ورؤســائي فــي العمل.. اجتــازت قــدمي عتبــة
مبنــي المحطــة الاذاعیــة التــي اعمــل بــها.. فأنا اعمــل مقــدمًا فــي الــرادیو
بإحــدي المحطــات الاذاعیــه الخاصة.. مازلت في بدایة طریقي ولكن لدي بعض
المستمعین الأوفیاء ویبدو أن ذلك كافیًا بعض الشئ لیقتنع المدیر بإستمرار برنامجي
المتواضع.. یقبع برنامجیبین كومة من البرامج التي تذیع وتقیّم الأغاني الجدیدة..
والقدیمة.. والجدیدة التي صارت مع مرور الوقت قدیمة.. والقدیمة التي وجدها
البعض قابلة للسماع حالیا فجعلها تبدو كالجدیدة.. برنامجي الذي یدور حول
موضوعات عدیده مقتبسة من تاریخنا.. اتناول تلك الموضوعات مع ضیفي في
صورة محاورات خفیفة شیقة وأنهي الحلقة بتوعیه المستمعین بضرورة الإهتمام
بالتاریخ.. فلا مستقبل بدون تاریخ.. ولكن هیهات.. من یسمع لا یصغي ومن یصغي

لا یعتبر ومن یعتبر لا یهتم أحد بإعتباره ذلك..
أدلف الى غرفة الاستراحة فأقابل عم خالد.. ذلك العامل البسیط طیب القلب الذي
نال الشیب من رأسه ولكنه لم یقترب من قلبه.. فظل محتفظًا بنقاء القلب وصفاء
الروح وكأنه طفل برئ.. یتفنن في خدمتنا وإدخال البهجة على قلوبنا ویقابل من
یراه ببشاشة فطریة لا تكلف فیها ولا ریاء.. ترتسم البسمة على وجهه بالرغم من
وفاه ابنه الوحید المجند في كمین شرطة منذ فترة لیست بالطویلة.. لذلك فهو محبوب

من جمیع العاملین بالمحطة.. ذهبت الیه لألقي علیه تحیه الصباح كعادتي..
 

- ازیك یا عم خالد.. عامل ایه یا راجل یا طیب؟
- الحمد الله یا استاذ أدهم.. كفایة اننا شفنا حضرتك

- یا راجل یا بكاش.. فاكرني هصدق كلامك الحلو دا؟
- االله وحده یعلم یا استاذ أدهم بعتبرك في معزة ابني محمود االله یرحمه

- االله یرحمه یا عم خالد.. ابنك مات وهو بیأدي واجبه.. واللي قتله في الكمین
حسابهم عند ربنا.. وما ربك بظلام للعبید

- ونعم باالله یا استاذ أدهم ثم مسح دمعه فرت من عینه بسرعه وأردف قائلاً:

 

- اجهزلك النسكافیه بتاعك زي كل یوم؟
اجبته اكید یا عم خالد.. دانا مش بتمزج الا من النسكافیه اللي بتعمله بإیدیك الحلوین

دول
ابتسم عم خالد واتجه الى مكانه بالكافیتریا لیبدأ اعداد النسكافیه لي كما طلبت..

اختــرت احــد المقاعـد الوثـیرة المـوجوده بالإسـتراحة.. واتجـهت الیـه لأجـهز
أوراقـي اسـتعدادًا لحلقتـي التـي سـیتم تسـجیلها بعـد سـاعة.. في حلقـة الیوم سـوف
اسـتضیف أحـد كبـار المؤرخـین السـیاسیین المعـروفین فـي السـاحة حـالیا ویـدعي
محمـود الشربیني.. لم أقابله شخصیًا من قبل.. ولكني شاهدته في إحدي البرامج
التلیفزیونیة من قبل.. وبالرغم من محاولات المذیعة الملطخة بالاصباغ وقتها أن
تجاریه في الحوار، فشلت كل محاولاتها، فقد كان ذلك الرجل صعبًا بحق في
المناقشة، یمثل كلامه الثقیل المحمل بالمعلومات التاریخیة المؤكده سلاحًا رادعًا
لكل من یفكر في اخذ ناصیة الحوار منه.. وقتها كم شعرت بالشفقة على تلك المذیعه
الشابة التي لا تعرف حتى متي قمنا بحرب اكتوبر 1973 ولكنها بالتأكید تعلم متي
طلقت تلك الفنانة المشهورة زوجها بعد ان علمت بخیانته مع موظفة مكتبه.. او
تحفظ كلمات اخر اغنیة لذلك المطرب المعروف والذي تتهافت فتیات الفیدیوكلیب

تحت قدمیه بالرغم من ان اكبرهم قد تكون في سن حفیدته..
الیوم هاهو یأتیني محمود الشربیني بنفسه لیكون ضیفًا في برنامجي المتواضع..
بالطبع لم یأت احترامًا لاسمي أو مكانتي.. ولكنه اتي بعد كثیر من التوسلات التي
بذلها مدیر المحطة الاستاذ ممدوح زهران من اجل ان یفكر الاستاذ محمود فقط في
اتخاذ قراره بأن یحضر او یحجم عن الحضور.. لقد كانت الاعلانات أهم ما یفكر
فیه الاستاذ ممدوح.. ووجود الاستاذ محمود الشربیني في محطته الاذاعیة كفیل
بجعل المستمعین على أهبة الاستعداد لسماع حواراته الكلامیة مع المحاور الذي
یستضیفه، لا ما یقوله في تاریخنا الملئ بالاحداث المشوقة.. فالمشاهد او المستمع
الآن یهتم بالشجار الذي ینشب بین الضیوف وبعضهم البعض او بین الضیوف
والمحاور أكثر من اهتمامه بالخبر المطروح في الحلقة.. وبالطبع فإن الاستاذ
محمود الشربیني في تلك النقطة.. له نصیب الأسد.. بل نصیب قطیع من الأسود

بأكمله..
قطــع حبــل افكــاري صــوت نحنحــة انثویــة، وقبــل ان ارفــع رأســي لأراهـا
علمـت انـها هي.. انـها أروي.. حبـیبتي وخطـیبتي اخـیرًا منـذ شـهرین.. إنها
المـلاك المجسـد فـي هیئـة انسـان.. هادئة دائمًا، مبتسـمه دائمًـا، بشـرتها بیضـاء
كـالمرمر، وفـي عینیـها الخضراوتین تضطرم نیران انوثتها.. تخفي شعرها
الحریري المنسدل تحت حجاب ملتزم زاد من جمالها.. كانت تلك أروي محبوبتي

التي فتحت ثغرها الباسم لتنطق بصوت عذب:
- ایه اللي واخد عقلك كده یا حبیبي؟

لأ

 

- لأ مفیش.. كنت بحضر ورق الحلقة.. سیبك انتي من الورق وعقلي.. قولیها تاني
كده والنبي

قالت أروي بدلال: اقول ایه؟
اصطنعت التوسل وقلت: والنبي یا انسة.. إلهي ما یوقفك في ضیقة ویجعل لك في

كل خطوة ولاد الحلال
ضحكت أروي بضحكتها الطفولیة والتي تعلم انها تخلب لبي عندما تضحكها..

وقالت بصوت خفیض:
- وطي صوتك یا أدهم.. خلي بالك احنا في الشغل..

ثم مالت على برأسها واكملت:
- حاضر.. یا حبیبي

نظرت في عینیها الخضراوتین وقلت: یاااه.. نفسي اسمعها منك على طول..
ومسمعش غیرها طول عمري.. جاوبتني في عذوبة: اوعدك هفضل اقولها لحد ما

تزهق مني
اجبتها في سرعة: ابدًا

تطلعــت لــي فــي ســعاده.. لأتذكر أول لقــاءٍ جمــع بیننــا.. كنــت وقتــها مجــرد
خــریج حــدیث بكلیــه الاعــلام.. فأشــار على عمــي كمــال بــأن اذهـب لأسـتاذ
وجـدي رشـید المـدیر السـابق للمحطـة التـي اعمـل بـها حـالیا.. للالتحاق بوظیفـة

فـي محطتـه الاذاعیة.. وقتها حدثني قائلاً:
- بص یا أدهم.. استاذ وجدي دا راجل محترم جدًا.. وصاحبي وحبیبي من ایام

الكلیه.. عاوزك تروحله وتقوله إنك ابن أخویا االله یرحمه.. وهو هیقوم باللازم..
- بس یا عمي انا مقبلش إني اتعین بالواسطة.. واحرم حد تاني من حقه في

التوظیف.
اجابني عمي بعصبیة: یا بني متعملش فیها فیلم عربي قدیم من اللي انتا بتشوفهم
دول.. بلدك دلوقتي اهم حاجة فیها الواسطة.. اللي ملهوش واسطة بیتداس تحت
الرجلین.. عاوز تعیش بین الناس ولا تنداس تحت جزمهم زي اي عقب سجارة

خلصانه؟
لم یمهلني وقتًا للاجابة.. وأردف قائلاً: الحق انزل دلوقتي.. السواق مستني تحت

البیت هیوصلك للشغل..
ذهبت بعد ذلك لأستاذ وجدي في المحطة الاذاعیة.. لأجد اعدادًا من الشباب في نفس
سني.. وخمنت مما اري ان الجمیع آتي للتقدیم في الوظیفة.. حینها وسوس لي
الشیطان بأن استغل اسم عائلتي واقتحم المكتب لأنال الوظیفة بدون حق.. لكني

أ أ أ

 

قاومت تلك الافكار.. سأظل على مبدأي مهما حدث.. وان فزت بالوظیفة فسأفوز بها
لأني استحقها.. لا لأني فرد من عائلة الحلواني أحد أشهر عائلات مصر..

جاء دوري في الصف.. فدخلت الى غرفة الاختبار لأجد استاذ وجدي امامي.. كان
مثالاً بالفعل لشخصیة المدیر.. متوسط الطول، وخط الشیب فودیه قلیلاً لیعطیانه
شكلاً ابویًا حنونًا، یرتدي بدلة سوداء وربطه عنق زرقاء بلون السماء الصافیه،
ویبتسم ابتسامه هادئة تكشف عن شخصیة واثقة رزینة.. اشار لي بالجلوس على
الكرسي المقابل لمكتبه.. فجلست.. سألني ما اسمي.. فأجبته أدهم عبد الرحمن..

سألني بابتسامته الهادئة:
نفسك في ایه یا استاذ أدهم؟ اندهشت من السؤال.. لكني حاولت ان اتماسك وأجبت

بكل ثقة:
نفسي اكون واحد من العاملین بمحطه حضرتك.. اجابني بهدوء:

- واشمعني محطتي انا بالذات یا استاذ أدهم؟
جاوبته بصدق: لأني حاسس إني أقدر اثبت نفسي هنا، ولأني عارف انكم بتهتموا
بالشباب فعلاً مش بالمذیعین اللي خلاص راحت علیهم ولسه ماسكین في كراسیهم..

احسست بنظرة اعجاب تلمع في عینیه لوهلة.. ثم قال:
- ماشي یا استاذ أدهم.. عاوز من حضرتك تستني ثواني.. ثم مال بجانبه لیتحدث في

الدكتافون:
- ابعتیلي اللي بعده في الكشف.. فسمعت صوت السكرتیرة تجیبه بالموافقة..

انتظرت ثواني.. لینفرج الباب عن أجمل من رأیت في حیاتي.. كانت هي.. كانت
أروي.. لم أدر وقتها انني انظر لمن ستكون الامیرة المتوجه على عرش قلبي..
دخلت الى المكتب حامله معها ازهار الربیع وزقزقة عصافیر الجنة.. سألها استاذ

وجدي عن اسمها فأجابت بكل رقة:
- اروي عبد المجید..

اشار الیها بالجلوس وحادثها قلیلاً.. لم استمع لحرف من حدیثهم، فلقد كنت مشدوهًا
لعیناها الخضراوتین.. رأیت فیهما مروج الاندلس وحدائق بابل ومزارع بلاد الشام

المترامیة الاطراف.. انتبهت فجأه على صوت استاذ وجدي ینادیني قائلاً:
استاذ أدهم.. المفروض دلوقتي ان حضرتك ضیف للأنسة أروي في برنامجها..

واتجه لـ أروي قائلاً: اتفضلي حضرتك معاكي أربع دقایق تسالیه فیها وتبدأي معاه
حوار..

ثم اقرن قوله بالفعل ونظر الى ساعته.. فتسرعت أروي ونظرت الى وسألتني بكل
مرح:

اهلاً وسهلاً بضیفنا العزیز.. ممكن تعرفنا بحضرتك؟
أ

 

صمتت لمده ثواني وانا عاجز عن الكلام.. ثم كمن یتعلم الكلام قلت: اسمي.. أدهم…
أدهم عبد الرحمن.. خریج.. خریج اعلام جامعه القاهرة.. دفعه السنة دي..

بعدها حذرها استاذ وجدي وقال: باقي 3 دقایق یا انسه أروي.. استكملت أروي
الحوار معي وكان یبدو علیها انها تواجه ضغطًا عصبیًا هائلاً.. فهاهو مغفل یتسبب
في تضییع فرصتها في نیل الوظیفة التي تحلم بها.. لم تجد أروي وقتًا كافیًا لبدء
حوارٍ مفیدٍ بسبب عدم تركیزي وشرودي في عیناها الخضراوتین تلك.. أعلن استاذ
وجدي في النهایة ان وقتها قد نفذ.. ثم طلب مننا تسلیم ملفنا الیه على وعد بالإتصال
بنا في أقرب وقت.. علمنا وقتها أننا لن یتم قبولنا.. اعطیناه ملفاتنا في حزن وخرجنا

نجر أذیال الخیبة.. لأجد استاذ وجدي ینادیني بصوت عال:
استني انتا عندك یا استاذ ادهم!!

نظرت مندهشًا الیه وبفعل لا ارادي نظرت أروي ایضًا الیه.. فرد علیها:
لأ اتفضلي انتي.. انا عاوز استاذ أدهم بس..

نظرت الى أروي نظرة دهشة مختلطة بحزن عمیق.. واكاد اجزم اني رأیت عینیها
تترقرقان بالدموع.. قاطعني نداء استاذ وجدي للمرة الثانیة فاضطررت للذهاب الیه
مرة ثانیة وخرجت أروي من المكتب وقد اخذت معها كل البهجه والسرور من

المكان..
جلست بكل خوف امام استاذ وجدي منتظرًا اولي كلماته.. تقطب جبینه.. وبدا

منغمسًا في تفكیر عمیق.. ثم فجأه قهقه ضاحكًا وارتمي بظهره للوراء قائلاً:
مش تقول یابني انك من عیلة الحلواني؟؟ وسایبني امتحن فیك واسألك واكلمك.. ثم

أكمل قائلاً:
تقرب ایه بأه لكمال الحلواني؟؟ اجبته هامسًا: كمال الحلواني یبقي عمي..

أكمل ضحكته بصوت عالى ابن الـ.. كمان طلع عمك.. كمال دا بعتبره اكتر من
أخویا من ایام ما كنا لسه في اولي كلیه.. ویاما اكلنا مع بعض عیش وملح وكشري

من وسط البلد كمان..
ثم أكمل بعد ان اخذ نفسًا عمیقًا.. خلاص انتا كده معانا في المحطة یا أدهم..

قاطعته بحزم لأ انا اسف یا استاذ وجدي.. انا مقدرش اتوظف بالطریقة دي.. مع
كامل احترامي لحضرتك بس انا عاوز اتوظف في وظیفة بحقي فیها مش بسبب

عیلتي..
قاطعني استاذ وجدي تلك المرة قائلاً یا بني اصبر بس.. انتا من الاول عاجبني
وداخل دماغي وحاسس أنك متحمس للشغل.. السبب كان في البنت اللي دخلت..

معندهاش ثقة في النفس مع انها امورة وشكلها اجتماعیه..
اجبته قائلاً على فكرة انا السبب اني ضیعت علیها الفرصة دي.. جالى صداع
مفاجئ ساعتها ومقدرتش أركز معاها في الاجابة.. ثم اكملت قائلاً من فضلك.. أنا

ً

 

مش هقدر اوافق فعلاً وانا عارف اني كنت سبب في ظلم البنت المسكینة دي..
نظر لي استاذ وجدي ثم ضحك قائلاً ماشي یا سي أدهم.. من اولها شروط.. علشان
خاطر عمك بس.. انا قررت اعینك انتا والبنت المسكینة دي.. ارتحت كده یا سیدي؟
ابتسمت وشكرته قائلاً شكرًا لحضرتك یا استاذ وجدي.. مش هقدر انسالك الجمیل

دا..
فرد وهو محتفظًا بابتسامته الودوده: بس متنساش تسلملي ع الواد كمال.. وقول له

وجدي بیقولك عدي علیه عشان مستنیك في دور طاولة زي زمان..
ضحكت واجبته حاضر من عنیا یا استاذ وجدي.. تؤمرني حضرتك بحاجة تانیة؟

رد قائلاً خلاص كده یا أدهم.. وتیجي من اول الاسبوع الجاي عشان تستلم
وظیفتك..

شكرته مرة اخرى واثناء خروجي من المكتب سمعت صوت السكرتیره یعلن ان
باب التقدیم قد اغلق وان الوظیفة لم تعد شاغرة.. لأواجه نظرات الحقد المسلطة من

عیون الشباب حولي كالأسهم تخترق جسمي وتحوله لمصفاه ممتلئة بالثقوب..
اتذكر ذلك الیوم جیدًا.. فبعد ان خرجت من الشركة طلبت من السائق ان یرحل الى
البیت واخبرته اني سأستقل اتوبیس النقل العام.. لم اعطه وقتًا لیبدي دهشته من ذلك
القرار الغریب حسب وجهه نظره.. وبدأت فعلاً بالسیر نحو محطة الاتوبیس.. جاء
الاتوبیس المتجه الى مدینه نصر فركبته وجلست في اول مقعد شاغر صادفني في
عدم اكتراث بمن حولي.. وكانت المفاجأة بعد ذلك ایجادي لتلك الفتاة أروي جالسه
امامي في صف المقاعد التالى لصفي.. ویبدو علیها الشرود فلم تلحظني مثلما لم
ألحظها.. تمتمت في سري رب صدفة خیر من ألف میعاد.. لحسن حظي.. لم یظل
الراكب العجوز المجاور لها طویلاً في مكانه ونزل بعد محطتین.. فأسرعت انا
للجلوس بجانبها قاطعًا الطریق على فتي یبدو على ملامحه الخنوثة مما یرتدیه من
ملابس مستفزة بألوان فاقعه، وشعر مصفف بطریقة لا تجرؤ أي نعجة لدیها أدني
ذرة من الكرامة أن تصفف فروتها مثله.. تفاجئت أروي بسرعة جلوسي بجانبها..
ثم أدارت وجهها نحوي.. وما إن رأتني حتى تعرفتني.. لیبدو على ملامحها الغضب

وكأنها ستصرخ بوجهي.. وقبل ان تنبس بحرف واحد.. اسرعت قائلاً:
في البدایة انا اسف جدًا على اللي عملته في المحطة انهارده.. كنت تعبان شویة ومن
سوء حظك أنك جیتي وقتها.. مقدرتش اقول كلمتین على بعض ساعتها.. بس
دلوقتي بقولك انا اسف وأنك اتعینتي في الوظیفة یا انسه أروي صمتت لثوانٍ غیر

مصدقة لما سمعته بعدها بدأت ملامحها في التحول للسرور.. ثم ابتسمت قائلة:
یعني كده انا بقیت مذیعه في المحطة؟؟

اجبتها مذیعه تحت التمرین زي حالاتي.. بس اه.. تقدري تقولي أنك بقیتي مذیعه في
المحطة..

أ

 

احسست بوجهها وكأنه صار صورة لشخصیات الكرتون من فرط السعاده..
ووجدتها تتكلم بكل راحة الحمدالله.. اصلك مش عارف انا كان نفسي ابقي مذیعه في
الرادیو من امتي.. دانا كنت اقعد عیلتي كلها قدامي واعمل معاهم حوارات وهمیة

كأني مذیعه و كده
اجبتها مصطنعًا عدم التصدیق یا سلاااام؟

اجابتني بصدق: اه واالله.. حتى كنت امسك فرشاه الشعر و.. اخذت في استكمال
حدیثها بكل اریحیة وشردت انا في عینیها الخضراوتین.. وحینها احسست بشرارة

الحب الاولي تشعل النار في قلبي..
ادهم؟؟؟ مالك؟؟؟ اعادني نداء أروي الى ارض الواقع بعد ان شردت في ذكریاتي
قلیلاً.. عدت لأجدها تخبرني ان عم خالد انتهي من اعداد كوب النسكافیة.. ثم قالت:

ایه اللي واخد عقلك تاني؟؟ اجبتها:
لأ مفیش مشكلة، كنت بفتكر بس اول مرة اتقابلنا ازاي ثم اكملت بحنان فاكرة حصل

ایه یومها یا حبیبتي؟
ضحكت ضحكتها الملائكیة ثم اردفت: طبعًا.. وهو دا یوم یتنسي.. كنت مدهول
دهولة سودا زي دلوقتي كده.. ثم ضحكت ضحكة طویلة.. فأجبتها بضیق طفولي:

مدهول.. ماشي یا ستي كتر خیرك..
اجابتني بدلال:

ایه یا ادهم.. بهزر معاك.. طب اقولك بأه.. بعشق دهولتك دي.. ارتحت یا سیدي؟؟
اجبتها في حب ارتحت یا سیدة سیدي..

ضحكت ثانیة ثم قالت طب یاللا عشان الضیف قرب یوصل ولازم ییجي یلاقیك
اسد قدامه.. دا محمود الشربیني مش اي حد..

قلت لها في ثقة:
على نفسه.. انا انهارده هوریه مین هوا أدهم عبد الرحمن.. یا ویله یا سواد لیله..

∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

2
دلفت لأستودیو 6 حیث یتم تسجیل برنامجي الإذاعي لمحات تاریخیة.. وما أن
دخلت حتى وجدت الاستودیو خالیا.. تبًا.. لم یأت محمود الشربیني بعد.. كم رغبت
في أن اجعله ینتظرني طویلاً.. ولكني الآن مضطر لإنتظاره.. كانت هذه البدایة..
نقطة لصالحه قبل ان تبدأ حتى المباراة.. ولكن هیهات.. سوف یري منّي ما لم
یستطع اي مذیع او مقدم ان یفعله معه.. طیلة عمري أكره المتكبرین والمغرورین..
ومن وجهه نظري اسوأ المتكبرین هم من یتكبرون بعلمهم على الاخرىن.. بدلاً من
ان یشاركوهم هذا العلم.. مهما كان مقداره، كم سیكون مقارنةً بالعلوم اللانهائیة
الموجوده في الكون؟؟ لن یستطیع بشري ان یجمع علوم الكون في جوانب عقله..
اي خلایا رمادیة تستطیع اختزان علوم الانسانیة الممتدة طوال كل تلك القرون؟ بل
إن الانسان عاجز عن معرفة ادق التفاصیل عن الجسم البشري ذات نفسه.. عاجز
عن معرفة كینونته.. ما دلیله على انه هو؟؟ سقراط قالها في أحد دروسه.. اعرف
نفسك.. فهل نعلم أنفسنا حقًا؟؟ هل نعلم ما بعقلنا الباطن من رغبات دفینه ومشاعر
متطرفة؟ بعیدًا عن اننا لا نعلم بدقة عدد خلایا الجسم او حتى كیفیة تكوین تلك

الخلایا.. كلها اشیاء لا یعلمها الا االله.. فلما التكبر بما نظن اننا نعلمه؟
قطع تأملي صوت طرقات على الباب.. اعتدلت وانتبهت في مجلسي.. وأجبت
ادخل.. فوجئت انه كان عم خالد، فتنهدت قائلاً: خضیتني یا عم خالد.. افتكرتك
الضیف.. حد جه بره؟.. اجابني بالنفي، فطلبت منه أن یرحل ووعدته بأن اطلب

المشروبات وقت مجئ الضیف.. شكرني وذهب الى الكافیتریا..
انتظرت لمده ربع ساعة كامله، قضیتها في الاستماع للبث المباشر للمحطة، ودندنة
الحان الاغاني التي یتم بثها، وبعد ان انقضت تلك الدقائق، وجدت من یطرق الباب
طرقتین ثقیلتین.. فأجبت بخمول ادخل یا عم خالد.. فُتح الباب فوجدته محمود
الشربیني بسترته الكحلیة المعتاده وربطه عنقه البنیة ومعه استاذ ممدوح رئیس
المحطة.. دلف محمود بكل هدوء وثبات الى الاستودیو، وتبدو على ملامحه التأفف
وكأنه یخطو بأقدامه الى بالوعه او ما شابه فلم یحاول ان یرسم اي ملامح اهتمام
على وجهه الذي یشبه وجه الحصان.. وبجانبه أستاذ ممدوح كتاجر العبید الذي

یعرض سبایاه للزبائن..
منورنا واالله یا محمود بیه.. انهارده یوم تاریخي یستحق ان یُسطر في تاریخ القناة
المتواضع قالها ممدوح بنفاق واضح.. ولم یبد على الضیف اي بادرة تأثر او تغییر
في ملامحه التي كستها التجاعید.. فقد كان نفاق استاذ ممدوح واضحًا للعیان یراه
الاعمي نفسه.. ولقد كانت تلك طریقة استاذ ممدوح دائمًا.. النفاق والموالسة لمن هو
اعلى منه شأنًا.. كم أكره هذا الكائن.. وكم أكرهه منذ ایام عملي الاولي في تلك
المحطة.. منذ ان رأیته یرمق أروي بنظرات قذرة من وراء زجاج نظارته
السمیكة.. حینها لم یمنعني من تحطیم تلك النظاره على وجهه غیر احترامي لوجود

أستاذ وجدي معنا في ذلك الوقت..

 

اتجه الضیف الى مكانه.. واسرعت انا الى مكاني بعد ان رحبت به.. واجاب
ترحیبي بكلمات مقتضبه.. حاولت ان اكسر حاجز الجلید فیما بیننا.. فرحبت به مرة

اخرى.. فرد بكل عجرفة:
خلاص مش شغلانة.. عاوزین نخلص عشان ورایا مواعید تانیة اهم من دا.. ابتلعت
الاهانة بصعوبة.. هاهو یواصل تسجیل النقاط ومازالت المباراة لم تبدأ بعد.. رغبت
في الرد علیه بأن اسأله اذن ما هو سبب وجوده هنا إذا لم یكن برنامجي بتلك
الاهمیة عنده.. لكن كظمت غیظي منتظرًا الوقت المناسب.. سوف یأتي وقت الرد
عندما یبدأ البرنامج واقوم بإحراجه على الهواء مباشرة وعلى مسمع من جمیع

متابعي البرنامج في انحاء الجمهوریة..
سألته عما یرید ان یشربه.. فاجاب بكل صلف: مبشربش حاجة قبل الشغل..
اضطررت لإبتلاع سخافته في التعامل.. لا تقلق.. سوف یأتي لحظة الرد على كل
تلك السخافات.. افهمته بسرعه موضوع الحلقة وطریقة ادارة الحوار والخطوط
العریضة للحلقة.. ظل یستمع لي لمده دقیقتین بكل ضجر حتى حان موعد بدایة
البرنامج واستمعنا لموسیقي المقدمة المأخوذة من احدي سیمفونیات الموسیقار

الكبیر عمر خیرت.. لقد أطلق الحكم صافرة البدایة.. فالویل لك یا محمود!!
دنوت بفمي من المیكروفون وبدأت دیباجة البرنامج قائلاً:

اهلاً وسهلاً بیكم مستمعینا الاعزاء في برنامجكم لمحات تاریخیة.. انهارده یشرفنا
في الاستودیو المؤرخ التاریخي الكبیر الاستاذ محمود الشربتلي.. عفوًا محمود

الشربیني..
هبّ محمود الشربیني صامتًا في مقعده ونظر لي شزرًا.. ولكنه لم ینطق وانتظر
دوره في الكلام حانقًا.. كتمت ضحكاتي بداخلي.. ها انا أسجل اول نقطة لي في
المباراة.. لقد انتظرت تلك اللحظة طویلاً.. والآن حان وقتي ان أمطر شباكه

بالاهداف.. اكملت حدیثي قائلاً:
موضوع حلقتنا انهارده عن حاجة بقالها فترة كبیرة منتشرة في الاوساط العلمیة
المتعلقة بدراسة التاریخ.. وقدرت انها توصل لكتیر من افراد الشعب في مجتمعنا
الحالى وفي المجتمعات الاجنبیة برضو.. انهارده بنتكلم عن الموضوع المثار
بخصوص أصل الاهرام.. هل اللي بناها اجدادنا الفراعنه العظماء فعلاً زي ماحنا
عارفین ومتأكدین.. ولا اللي بناها الیهود زي ما هم بیروجوا للاشاعه دي دلوقت..
ونسأل ضیفنا الاستاذ محمود بخصوص الموضوع دا.. تعلیق حضرتك ایه یا أستاذ

محمود؟
بدأ محمود الشربیني كلامه قائلاً بكل فخامة:

احب اعرّف نفسي الاول.. انا استاذ محمود الشربیني.. محلل تاریخي وسیاسي
وكبیر اساتذة قسم التاریخ بجامعه (..) وحاصل على العدید من شهادات الدكتوراة
الفخریة من جامعات عریقة عدیدة كجامعه هارفرد وییل الامریكیتین على سبیل
المثال.. واعمل حالیا كمؤرخ للوقائع التاریخیة المتعلقة بالتاریخ المصري وجاري

 

الاعداد لكتابي الخامس بعنوان تاریخ الدولة الوسطي في مصر الفرعونیة.. دراسة
وتحلیل وفیه اكشف اسرارًا لم تُعرف من قبل عن تلك الفترة الهامة من تاریخ

مصرنا الحبیبة..
قاطعته قائلاً: بالتأكید حضرتك أشهر من نار على علم.. دلوقتي بالنسبة لموضوع

الاهرام.. هل فعلاً الاهرام بناها الیهود زي ما بیقولوا؟؟
رد بكل حنق: بعد اذنك متقاطعنیش تاني وانا بتكلم..

اجبته مصطنعًا الاسف: مش قصدي یا استاذ محمود بس المستمعین متشوقین انهم
یعرفوا رأى حضرتك الهام في الموضوع الخطیر دا.. قلتها بكل واقعیة ومازالت
ضحكاتي تتردد بداخلي.. خطتي تسیر على ما یرام.. لن اتركه ینال ما یریده مني..
أكمل محمود كلامه غاضبًا وقد تخلي عن لغته الفصحي المنمقة: بالنسبة لموضوع
الاهرام.. اولاً أحب اقول ان التاریخ یُكتب بأیدي المنتصرین.. واغلب تاریخنا اللي
احنا متأكدین منه وبنردده بكل جعجعة في كل مكان.. كان فیه فترات عدیده تم
تحریفها وتزویرها.. كان في زمن الفراعنه اوقات كتیرة مظلمة.. مش طول الوقت
كانوا بیبنوا في مسلات واهرام ومعابد.. كان فیه اوقات كلها ظلم وجبروت وفساد..
ومصر عرفت اوقات تعرضت فیها البلاد للنفوذ الأجنبي، فحكمها غرباء عنها،
تمثلوا في مجموعات متتالیة من الحكام اللیبیین والنوبیین والآشوریین وأخیرًا

الفرس..
سألته بكل تحدي متعمدًا مقاطعته مرة اخرى: یعني دا معناه ان الشائعه ممكن تكون

صحیحة؟
اجاب: لأ طبعًا.. لأن اي حد بیقرا في التاریخ.. حیشوف ان الصهاینه یاما افتروا
على التاریخ بافتراءات كاذبة وعندهم قدرة كبیرة على تشویه الحقائق لخدمة
مصالحهم القذرة.. انا هنا بتكلم عن الصهاینة مش الیهود.. لأن الیهود هم اهل دین
سماوي زیهم زینا وزي الاخوة المسیحیین.. لكن الصهاینة أخطر بكثیر.. لأنهم
بیحاولوا یشوهوا التاریخ ویحولوه لصالحهم.. بیحاولوا یقنعوا العالم ان الصهیونیة
والیهودیة شئ واحد.. والموضوع دا یاما اتكلم فیه استاذنا الكبیر عبد الوهاب
المسیري في كتبه الشدیده الاهمیة عن الصهیونیة العالمیة وحركات الصهیونیة

الكبري..
التقط انفاسه ثم أكمل قائلاً: وموضوع بناء الیهود للاهرام كعبید دا نوع من التشویه
اللي مازالوا بیمارسوه في حق التاریخ، فبعد ما قدروا انهم یضخموا من موضوع
الهولوكوست.. قدروا یقنعوا ناس كتیر في بلاد بره انهم فعلاً بناه الاهرام.. انما كل
الدلائل بتقول غیر كده.. اغلب الحقائق التاریخیة بتقول إن الأهرامات اتبنت خلال
الفترة من2630 الي1530 قبل المیلاد، یعني قبل ما ییجي الیهود الى مصر اصلاً
بمئات السنین، وأن الیهود لما جاءوا الى مصر، كانوا جماعات من الرعاة، ولم یكن
لیهم أدني معرفة بعلوم العمارة اوالهندسة اوالفلك اللي استخدمها الفراعنه في تشیید

وبناء الأهرامات.. دا غیر كتیر و كتیر من الشواهد اللي تثبت كده.. زي مثلاً..

 

قاطعته انا للمرة الثالثة متعمدًا: بعد اذنك یا استاذ محمود نروح لفاصل سریع
ونرجع تاني نكمل كلامنا في الموضوع الخطیر دا.. خلیكو معانا وانتظرونا خلال

دقائق.. بعـــــد الفاصل
انهیت الحوار بسرعة وضغطت زر غلق المیكروفون.. لیبدأ محمود الشربیني في

الصیاح:
انتا ازاي یا بني ادم تكلمني بالطریقة دي.. انتا متعرفش انا مین؟؟ اه صح شكلك
متعرفنیش.. مش عارف تقرا اسمي صح؟؟ انتو فاكرین نفسكو محطة معروفة بجد

ولا ایه؟؟ دانتو اللي بیسمعكو یادوبك قرایب عمال المحطة بس..
ارتفع صوته بالصیاح مما استرعي انتباه العاملین خارج الاستودیو.. ووجدت استاذ
ممدوح یدلف مسرعًا داخل الاستودیو وعلى وجهه اقصي امارات الهلع والتوتر..
اتجه الى محمود سریعًا محاولاً تهدئته بكلامه المعسول الموالس: جري ایه یا استاذ

محمود.. اعصابك.. حصل ایه قوللي؟
اجابه محمود بكل غضب: اتفضل شوف الاستاذ اللي جایبه یعمل الحوار معایا..

مش عارف هو جایب مین في برنامجه الحقیر دا..
غضبت لتلك الكلمة ایا غضب.. واسرعت بالرد: احترم نفسك یا استاذ محمود.. انتا

هنا في مكان عمل
اصفرّ وجه استاذ ممدوح وبادر محمود بالرد غاضبًا: هو فین العمل دا؟؟ قاعد كل
شویة تقاطعني.. وغلطت في اسمي.. تغلط في اسمي!! انا اسمي دا كفایة یتقال في

اي جامعه عربیة او اجنبیة تلاقي العمید ذات نفسه جاي مخصوص لیا
اجاب استاذ ممدوح وهو یهز رأسه موافقًا: اكید اكید یا استاذ محمود.. بس هدي
اعصابك انتا بس.. تعالى اتفضل عندي في مكتبي اشرب حاجة تروق بیها نفسك

واوعدك انا بنفسي هعاقب الولد دا
ذهب الاثنان الى مكتب استاذ ممدوح بینما تسمرت واقفًا في مكاني یملؤني الغضب
والحنق.. لقد كنت انا الطرف الاقوي طوال الحلقة.. ولكن اتي ذلك السخیف ممدوح

لیفسد كل ما فعلته.. كم أكرهه فعلاً!!
دلفت أروي للاستودیو مسرعةً تجاهي..

- ایه اللي حصل یا أدهم؟؟ ایه كل الدوشة والزعیق دا؟
- لا مفیش حاجة.. سوء تفاهم مع اللي اسمه محمود دا.. انا كنت مجهز نفسي لكده
من الاول.. هو راجل مغرور اساسًا وبیحب یتنطط على الخلق.. وانتي عارفة انا

مش بطیق الناس اللي زیه كده
اجابتني أروي بكل هدوء: ایوة عارفة یا حبیبي.. بس انتا في شغل هنا.. لازم تتعلم
تمسك اعصابك مهما كان اللي قدامك مستفز.. مینفعش تتنرفز علیه.. مش كده

برضو؟

 

اقنعتني بكلماتها وإن كانت قلیلة.. انتبهت انني خلال حماسي لتلك الحلقة قد تعدیت
قواعد المهنیة واخطأت في حقي اولاً قبل ان اخطئ في حق المحطة.. هدأت قلیلاً

بعد كلمات أروي.. والتفت الیها قائلاً:
شكرًا یا حبیبتي.. مش عارف من غیر كلامك دا كنت هعمل ایه.. نظرت لي بحنان

وقالت:
كنت هتروح في ستین داهیة.. ثم ابتسمت فبادلتها الابتسامة..

قطع تلك اللحظة الرومانسیة دخول عم خالد لینبئني بأن الاستاذ ممدوح یرغب في
ملاقاتي بمكتبه في أسرع وقت.. واختتم كلامه بجملته المعهودة یجعله خیر بإذن االله

یا استاذ أدهم…
نظرت لي أروي بكل قلق.. فأجبتها ساخرًا كنتي بتقولي هروح في ستین داهیة..

ادیني رایح اهو..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

3
تسارعت خطواتي عابرًا تلك الردهة المؤدیة لمكتب الاستاذ ممدوح، لم أكن مسرعًا
بسبب الخوف من توبیخه لي أو لشئ من هذا القبیل، فأنا أعلم مدي كرهه لي وتعنته
الواضح أحیانًا في كثیر من معاملاته معي أو مع أروي.. لكنني لم أرغب في جعل
ما حدث بیني وبین محمود الشربیني سببًا في إساءة معاملتي في المحطة.. وصلت
لمكتبه في دقائق معدودة.. وما أن خطوت بإتجاه المكتب حتى شاهدت وجه مدیرة
مكتبه وقد اعتراها القلق.. فهمت ما أنا مقبل علیه.. بسملت في سري وطرقت باب

مكتبه..
ادخل.. ارتفع صوت الاستاذ ممدوح آذنًا لي بالدخول..

دلفت الى مكتبه وتوقفت أمامه منتظرًا سیل إهاناته المزعجة.. نظر لي بحده ثم بدأ
كلامه قائلاً:

- ممكن تفسر لي ایه اللي حصل في الاستودیو دا؟؟
اجبته بكل برود: مفیش حاجة حصلت یا استاذ ممدوح.. الراجل شكله مش عارف
طریقة التعامل في الرادیو بتبقي ازاي.. مش هینفع یتكلم كتیر في الرادیو خصوصًا
اننا عندنا فواصل اعلانیة وأصلاً وقت البرنامج كله على بعضه نص ساعة بس.. لم
أجد ححجًا أقوي مما قلت، وبالرغم من علمي أنها حجج واهیة لن تصمد في نقاش

مطول، لكني صممت على رأیي ذلك..
اجابني بعصبیة: بس هو اشتكي من أنك قریت اسمه غلط وأنك كنت بتقاطعه في
الكلام.. لیه بأه؟ اكملت بنفس البرود: غلطة الاسم دي كانت بسبب الورق اللي اتقدم
لي.. الخط مكانش واضح بس انا لحقت نفسي وقلت الاسم صح بعدها.. اما مقاطعته

في الكلام دي معتقدش انها غلط ولا حرام..
بدأ الاستاذ ممدوح في التراجع.. وظهر ذلك في نبرة صوته التي بدأت في
الاستكانه.. لم امنع نفسي وقتها من تخیله وكأنه أحد التجار الیهود من افلام الابیض
والاسود القدیمة بطریقة كلامهم ونظراتهم المستكینه التي تتصنع الوداعه وتخفي
ورائها تلاً من النفاق والخبث.. كم كان الشبه كبیرًا فعلاً.. امسكت نفسي عن

الضحك بصعوبة وانا استمع لما یقوله:
 

- بس دلوقتي الراجل هددني بأنه هیرفع قضیة على المحطة لشعوره بالاهانه
الشدیدة وغیر كده انه موقفنا بقي زي الزفت.. ممكن الراجل دا بعلاقاته یسبب لنا

قلق احنا في غني عنه..
كنت قد وصلت لدرجة من الملل تمنعني من مواصلة الحوار مع ذلك الكائن القمئ..
انهیت حوارنا بجمله واحده.. خلاص شوفو تحبوا تعملوا ایه واعملوه.. انا عن

نفسي مش شایف اني غلطت معاه في حاجة.. أسرع ممدوح في الرد بكل شماته:

 

- طبعًا لازم تتعاقب علشان متكررش اللي حصل دا مع ضیف تاني.. مخصوم منك
اسبوع ومفیش حلقة الاسبوع الجاي.. نبقي نحط بدلها ساعة كوكتیل اغاني خفیفة

وخلاص.. یا ریت تتعلم من اللي حصل دا..
تسبب قراره التعسفي ذلك في مضاعفه كراهیتي له وبغضي لشخصیته الدنیئة.. لم
انس كیفیة وصوله لكرسي مدیر المحطة.. بعد ان نلت وظیفتي انا و أروي في

المحطة.. لم یدم أكثر من ستة أشهر حتى داهم استاذ وجدي مرضًا شدیدًا
تسبب في اصابته بشلل تام.. كم حزننا جمیعًا في المحطة لما حدث وقتها.. فقد كان
الاستاذ وجدي كالأب الحنون لجمیع العاملین بالمحطة.. وكان مداومًا في السؤال
على من یمرض، ویعین من یحتاج للاعانة.. وكان من كبار المساهمین في حفل
زفاف محمود رحمه االله ابن عم خالد.. وقتها بكي عم خالد من الامتنان وظل یردد
الدعوات بالبركه والهناء لأستاذ وجدي وعائلته الكریمة.. وبعد ان شُلّ الاستاذ
وجدي اضطر مجلس ادارة المحطة ان یختار من یتولي منصب مدیر المحطة بدلاً
من الاستاذ وجدي.. لم یكن ممدوح هو الخیار الاول.. بل كان أحد اعضاء مجلس
الادارة هو الاوفر حظًا بذلك المنصب لما فیه من ممیزات وامكانیات تؤهله لتولي
ذلك المنصب الهام.. إلا ان نفاق ممدوح وقدراته العالیة في التزلف والتقرب من
ذوي المناصب الهامة بكلامه المعسول وهدایاه الفاخرة جعله الاجدر بنیل

المنصب.. وتلك هي آفة بلدنا.. المحسوبیة والنفاق..
انتهي حواري مع الاستاذ ممدوح واستأذنت منه للانصراف.. خرجت من مكتبه
متبرمًا مما حدث.. ولكني سرعان ما حاولت الابتسام حیث وجدت أروي منتظرة
بجانب مدیرة المكتب تتحادثان حدیثًا خفیفًا.. وما أن رأتني أروي حتى انهت

حوارها بابتسامه مع مدیرة المكتب واتجهت الى مهرولةً..
- حصل ایه جوا طمنّي علیك؟

- متقلقیش.. حوار وخلص خلاص..
- لأ قوللي بجد.. شكلك زعلان

- واالله مفیش یا أروي.. مجرد خصم كام یوم على جزاء بسیط..
ارتسم على وجه أروي الحزن واردفت:

- خلاص متزعلش، ربنا على الظالم والمفتري.. وانتا بعد كده حاول تبقي تمسك
اعصابك كویس..

حاولت تغییر دفة الحدیث.. فابتسمت قائلاً:
خلاص سیبك من اللي حصل.. اكلتي ولا لسه؟
ضحكت وقالت: اكل ایه دلوقتي.. هوا وقته؟

اجبتها ضاحكًا ایضًا: بالعكس دا هو وقته اوي.. انا بحب اكل بعد ما مدیري یهزأني
ویخصم مني كده

أ

 

ابتسمت أروي فتكونت غمازتیها المحببتین الى قلبي.. ثم اجابت:
- ماشي انا موافقة.. انا فعلاً مأكلتش من الصبح.. یاللا بینا

ذهبنا الى الكافیتریا لتناول الشطائر.. فقابلنا عم خالد بوجهه البشوش كالعادة..
وسألني بكل لهفة:

هاه یا استاذ ادهم.. عمل معاك ایه الظالم اللي اسمه ممدوح دا؟
اجبته متقلقش یا عم خالد.. محدش یقدر یعمل لي حاجة

ضحكنا سویة وأكمل كلامه قائلاً: مش قلقان علیك یا استاذ أدهم.. انا قلقان على اللي
اسمه ممدوح.. الظلم اخرته وحشة.. الراجل دا هیشوف ایام سودة.. وقول عم خالد

قال.. ثم سكت وأنهي كلامه كالعادة بنفس الجملة المحببة الیه..
یجعله خیر بإذن االله یا استاذ أدهم.. شكرته على الشطائر ثم غادرت انا وأروي

لنستقل الحافلة..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

بعد انتظار دام أكثر من ربع ساعة بسبب عدم وجود مواصلات خالیة والزحام
الخانق.. استطعنا اخیرًا ركوب الاتوبیس.. منذ اول مرة ركبت مع أروي فیها
الاتوبیس بالصدفة حتى تكررت الصدف.. وسرعان ما علم كل منا ان تلك الصدف
لیست اغلبها بترتیب القدر.. ولكنها تكون احیانًا بترتیب أحدنا لمقابلة الاخر.. حتى
صارحتها في یوم من الایام بحقیقة مشاعري تجاهها.. ومنذ ذلك الحین وصرنا معًا
في كل مكان وكل وقت.. ومنذ حوالى شهرین استطعت ان اقابل والدتها لأتقدم لـ
أروي واخطبها رسمیًا.. في ذلك الیوم جلست انا وعمي كمال بالرغم من عدم تقبله
قلیلاً لذلك الارتباط في البدایة.. وقابلنا خالها وأمها.. حیث ان والدها توفي منذ ان
كانت طفلة في الثامنه من عمرها.. وتلك نقطة مشتركة اخرى بیننا.. فأنا ایضًا یتیم
الابوین.. فبعد ان ماتت امي.. اضطر والدي رحمه االله وبعد ضغوط عدیدة من
اعمامي وجدتي للزواج من احدي اقاربه لتربیتي.. وظلت زوجة ابي بالفعل خیر
راع لي حتى ماتت مع والدي في حادثة انقلاب سیارتهم وانا ابن العاشرة من

عمري..
- سرحان في ایه یا أدهم؟

قطع سؤال أروي سیل الذكریات لأجیبها:
- بفتكر حاجة جمیلة كده.. فاكرة لما قعدت جنبك اول مرة في الاتوبیس؟

ابتسمت أروي وقالت:
انتا انهارده طالبه معاك ذكریات اوي.. ایوة یا سیدي فاكرة برضو.. ومن ساعتها

مش عارفة أخلص منك
ضحكت واجبتها في هدوء: واوعدك مش هتعرفي تخلصي مني

 

اجابت بكل رقة وقد نظرت الى بعیناها الخضراوتین: و مین قاللك اني عاوزة
أخلص منك؟

تنحنحت وقلت: احم.. طب مش وقتها رومانسیة احنا في الاتوبیس.. وانتي شایفة
ماشاء االله الناس راكبین فوق بعضهم وكل واحد رامي ودنه في حجر اللي جنبه

اجابتني بهزة رأس دلالة ع التوكید، ثم اضافت: فعلاً.. حاجة مقرفة.. تحس اننا في
برطمان مخلل ومقفول علینا.. انا خایفة الاقي لمونة معصفرة واقفة جنبي

مثلت الاستنكار وقلت لها باشمئزاز مصطنع: مخلل!! الملافظ سعد یا أروي
ضحكنا سویة واخذنا نتبادل النقاشات الجانبیة الهادئة.. ومن حولنا الزحام في
الاتوبیس قد صار اشبه بیوم الحشر.. وكأن الراكبین جمیعهم یقلهم ملاك الموت

المتمثل في سائق الاتوبیس لینال كل منا جزاءه..
بعد برهة من الزمن صعدت امرأة مسنة تبیع اكیاس المنادیل.. وتنادي بصوت
رقیق عسي أن یعطف علیها أحد ببعض العملات الورقیة او المعدنیة.. بالفعل نالت

رزقها من بعض الركاب ثم نزلت بكل هدوء كما صعدت..
ارتفع صوت أحد الركاب خلفي قائلاً:

یادي النیلة.. دي خامس واحدة تطلع تشحت في نص ساعة.. دول ولا كأنهم بیبدلوا
مع بعض

لیجیبه راكب اخر:
لأ و كلهم بتوع منادیل.. خلاص مفیش حاجة ناقصانا غیر المنادیل یعني؟

انتهي الراكب الاخر من جملته لیجیب علیه -على سبیل المشاركة راكب ثالث یستند
على طرف المقعد المواجه لمقعدي:

الناس كلها یا باشا بقت بتبیع منادیل.. عشان لا مؤاخذة الوساخة كترت ف البلد دي
ثم انتبه لوجود أروي بجانبي، فأكمل لا مؤاخذة یا انسة.. كلمة وطلعت غلط

قلت بصوت خافض من بین اسناني: لا مؤاخذة ایه بأه مانتا قلتها..
ثــم بــدأت النقاشــات تــدور بــین ركــاب الاتوبــیس وكأنــها احــدي تلــك
الحــوارات المجتمعیــة التــي یســتمر فــي اقامتــها الســاسة ورجــال الــدولة..
ولــم نــر مــن بعــد اي حــوار مــن تلــك الحــوارات، حلــولاً منطقیــة او ســبلاً
لحــل المشــكلة المطروحــة بتلـك الحوارات.. هكذا هي السیاسة في بلدنا.. نقاشات
وتسویفات ومشاكل لا تُحل.. بدأت المناقشات في الاحتدام حول اختلاف وجهات
الرأى السیاسیة بین ركاب الاتوبیس من مؤید او معارض لقضیة سیاسیة ما.. وكل

طرف منهم یبرر لقضیته انها الاصح..
حمدت االله ان بیت أروي قد اقترب، فذلك معناه اقترابي انا الاخر من النزول من

الاتوبیس والابتعاد عن كل تلك المهاترات والمشاحنات التي لا ولن تنتهي..
أ أ

 

اوصلت أروي الى منزلها وتأكدت من وصولها بسلام.. ثم اكملت طریقي سیرًا الى
شقتي.. وما ان دخلت الى الشقة.. حتى ارتمیت من الارهاق على أقرب مقعد..

وداهمني النوم حتى صحوت مساءًا على اسوأ خبر سمعته في حیاتي..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

4
ارتفع رنین الهاتف المحمول لیخرجني من سباتي العمیق.. هرعت للهاتف ونظرت
الى شاشته لأجد رقمًا لم اراه من قبل.. ضغطت على زر الرد وقد انتابني القلق..

سألت:
- ألو.. مین معایا؟

رد المتصل بصوت رخیم:
- ایوه یا أدهم.. معاك استاذ عبد االله المحامي وصدیق جدك الحاج جمال

ازدادت ضربات قلبي بمجرد سماعي اسم جدي الحبیب الذي افترقت عنه منذ
سنوات عدیدة.. سألته بقلق:

- اه.. اهلاً بحضرتك یا متر.. خیر.. حصل ایه؟؟
سكت استاذ عبد االله قلیلاً.. فازداد قلقي.. ثم اجابني بصوت شابه الحزن:

- جدك یا أدهم… تعیش انتا..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

لا اذكر ماذا اصابني وقتها.. كل ذكریاتي عن تلك اللحظة كانت رؤیتي للهاتف ملقي
على الارض وقد انتابني ما یشبه الشلل التام.. عاجز عن الحركة.. عاجز عن
التفكیر.. عاجز عن النطق.. عاجز عن كل ما یمنحني لقب كائن حي.. لم اصدق

الخبر في البدایة.. انعزلت في عالم اخر یسوده الصمت المطلق.. صدمة رهیبة..
ومازال صوت الاستاذ عبد االله یتردد في الهاتف..

- الو.. الو.. رد علیا یا أدهم ارجوك.. الووو…
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

َّعمَهُ فَیَقُولُ رَبِّي أَكرَمَنِ َّما الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكرَمَهُ وَنَ فَأَ
ارتفع صوت المقرئ اثناء ترتیله لكلمات القران الكریم.. وتتابعت ایات سورة الفجر
على لسانه وكأنها درر منثورة.. غالبت دموعي وحاولت منع نفسي من البكاء اثناء
جلوسي في عزاء جدي الراحل.. اتذكر بعدما استفقت من الصدمة وتناولت الهاتف

بأید مرتجفة.. لأرد بصوت مخنوق على استاذ عبد االله..
- ایوه یا استاذ عبد االله.. انا معاك..
رد على الاستاذ عبد االله بكل حزن:

- البقاء الله یا أدهم.. جدك كان راجل طیب وربنا هیرحمه برحمته الواسعه..

ً

 

سالت دموعي عند سماع الفعل كان مقترنًا بجدي.. مازلت غیر مقتنع وغیر
مصدق.. انني بكابوس اسود.. بالتأكید هو كابوس.. یجب ان استفیق حالاً.. سألت

المحامي وانا في غیر وعیي..
- هو جدي مات ازاي یا استاذ عبد االله؟

اجابني: جدك االله یرحمه كان مسافر في رحلة بالباخرة للجزائر.. انتا عارفه بیعشق
البحر من زمان.. وبیحب السفر البحري عن اي نوع سفر تاني.. باخرته المفروض
اتحركت من مصر امبارح باللیل.. وانهارده الصبح للاسف وصل لي خبر غرق

الباخرة ناحیة سواحل لیبیا
سألته بلهفة: طب ما هو ممكن یكون عایش؟!

اجابني بأسي.. للاسف یا أدهم.. مش لاقیین اي حد ناجي من الباخرة.. الباخرة
غرقت بالكامل ومحدش قدر یهرب من اللي حصل.. البقاء الله یابني..

تحطم الامل الوحید بالنسبة لي وقتها.. واستمر الاستاذ عبد االله في كلامه الممزوج
بالحزن..

- ترتیبات العزاء وكل حاجة انا متكفل بیها.. جدك كان زي أخویا بالظبط.. وكان
بیننا عشرة عمر.. االله یرحمه ویحسن الیه..

انتهت المكالمة وانتهي معها جزء من روحي كان قد غالبني الحنین الیه طوال عشر
سنوات.. عشر سنوات بأكملها تم ابعادي عن جدي بأوامر من أعمامي وجدتي..

َّلا إِذَا دُكتِ الأَرْضُ دَكا دَكا وَجَاءَ رَبُّك وَالْمَلَك صَفا صَفا ك
مازال القارئ مستمرًا في تلاوته.. و مازلت اغالب دموعي.. واحاول تعویض ذاتي

بتذكر تلك السنوات الجمیلة التي لبثت فیها مع جدي العزیز..
كانت عائلة والدي رحمه االله من العائلات الثریة بحق.. تلك العائلات التي یمتلك
أفقرها ثروة صغیرة تقارب الملایین من الجنیهات.. لذلك كان حتمیًا رفض عائلة
ابي لقراره بالزواج من امي رحمها االله.. المولودة بحي شبرا لعائلة من الطبقة
المتوسطة، ولكن ابي رحمه االله أحب والدتي حقًا.. ولم یهتم بقرار رفضهم.. وأصر
على قراره بالزواج من امي.. وبالفعل تزوجها وانجبوني وللاسف توفت امي بعدها
مباشرة.. لأعیش مع أبي وحدنا بدون امرأة ترعانا.. فكان واجبًا علیه الزواج لیجد
من یرعاني في تلك الفترة الحرجة.. وقتها اصرت جدتي ان یتزوج ابنه خالته التي
ارادت تزویجها له من قبل ولكنه كان یقابل رغبتها بالرفض التام.. وبسبب الظرف
الجدید الذي صار فیه.. تقبل وضعه ووافق على الزواج من اجل تربیتي.. وقامت
بالفعل تلك السیدة بتربیتي حتى جاء ذلك الیوم المشئوم الذي انقلبت فیه سیارة ابي
وزوجته معه اثناء سفرهم على احدي الطرق السریعه في لیلة ممطرة من شتاء
دیسمبر.. وكأن الصدفة المدهشة ان یتوفي والدي في نفس شهر وفاة والدتي.. لذلك
اشعر بالكآبة فعلاً عندما یأتي الشتاء.. فكل ما اتذكره عنه هو الموت.. وفقدان الاب
والام.. لكن االله عوضني خیر عوض.. فلقد انتقلت لبیت جدي والد امي.. الذي أصر

 

على تربیتي.. ووقتها بالفعل اخترت المكوث معه.. كم كانت ایامًا جمیلة تلك التي
قضیتها في كنف جدي العزیز.. رحمك االله یا جدي..

یَا أَیَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ
َّمرْضِیَّةً ارْجِعِي الى رَبِّك رَاضِیَةً

فَادْخُلِي فِي عِبَادِي
وَادْخُلِي جَنَّتِي

صدق االله العظیم.. الفاتحه..
انتهي المقرئ من تلاوة القرأن.. وانتهینا من تلاوة الفاتحة.. واستعد الجمیع
للمغادرة.. وقفت في صف المعزیین متقبلاً العزاء والشد على الایدي من اقاربي
واصدقائي الاعزاء وجیران جدي رحمه االله.. حاولت التماسك والثبات.. وكم كان
ذلك صعبًا.. لقد صرت وحیدًا بالفعل.. كم كنت أفكر في رؤیة جدي.. ودائمًا ما كان
یمنعني اعمامي وجدتي من ذلك بعد ما حدث.. وكم كنت اقضي اللیالى أفكر في ذلك
الیوم الذي اخذني عمي كمال فیه من بیت جدي.. المرة الاخیرة التي اري فیها

جدي.. وتلمس قدماي ارضیه منزله القدیم..
انتظر الاستاذ عبد االله لنهایة العزاء.. حتى خلا المكان من الضیوف.. ثم اقترب

بجانبي ووضع یده على كتفي.. وقال:
- شد حیلك یا أدهم یابني.. اعتبرني زي جدك بالظبط.. اي حاجة عاوزها اطلبها

مني من غیر كسوف..
شكرته واكدت له على ثباتي وتماسكي.. فرد على قائلاً..

- ان شاء االله هعدي علیك كمان اسبوعین تكون استقریت فیهم شویة.. علشان عندي
لیك حاجة مهمة لازم تاخدها.. دي كانت وصیة جدك االله یرحمه.. اندهشت من

ذلك.. ولكني اجبته بالموافقة.. تنور یا استاذ عبد االله.. البیت بیتك..
سألني الاستاذ عبد االله: أبقي قوللي عنوانك فین علشان اعرف اجیلك..

اجبته قائلاً.. العنوان سهل.. حضرتك تنزل في مدینة نصر.. وتسأل عن.. ثم شردت
لبرهة من الزمن.. وصمتت.. ثم قلت له.. ولا لأ.. انا قررت اني هعیش في شقة

جدي القدیمة بشبرا..
اجابني استاذ عبد االله.. على بركة االله.. ان شاء االله اجیلك كمان اسبوعین زي ما

اتفقنا..
صافحني ورحل.. لأفكر في قراري السریع الذي اتخذته.. ما كان سبب ذلك القرار؟
لا اعلم حقًا.. ولكنني شعرت بالحنین الى بیت جدي القدیم.. ربما كان قرارًا صائبًا

في النهایة.. سوف اعود لبیت جدي اخیرًا..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

5
حزمــت حقــائبي وانتــهیت مــن اعــداد كــل مــا یمكــن ان احتاجــه للانتقــال
لبــیت جــدي القــدیم - رحمــه اللــه، أبلغت عمــي اننــي قـد اتخـذت ذلـك القـرار
وانـه لا رجعـه فیـه.. یكفي اغتـرابي لعشـر سـنوات عـن جـدي الراحـل بسـبب
بعـض الخلافـات بـین العائلتین.. واجه قراري بغضب عارم.. لكنني لم اعد طفلاً

صغیرًا بعد الان..
وصلت الى بیت جدي القدیم بأحد المناطق الداخلیة بحي شبرا.. أقف مشدوهًا امام
الباب الخشبي العتیق لذلك البیت الذي لم تطأ قدماي ارضه منذ عشر سنوات.. عشر
سنوات كاملة لم ار فیها ذلك البیت.. بعد ان كان ملجأي وملاذي.. لم ار فیها وجه
جدي یستودعني قبل نزولي الى المدرسة، او وجهه ضاحكًا فاتحًا ذراعیه اثناء
عودتي منها.. كل تلك الذكریات الجمیلة تذكرتها بمجرد وقوفي امام باب البیت..
مددت یدي الى جیبي واخرجت منه المفتاح.. ذلك المفتاح الذي ظللت محتفظًا به
طوال العشر سنوات.. ربما اعود یومًا.. وها قد جاء هذا الیوم.. ولكنه جاء بعد ان

رحل جدي عن عالمنا..
ادرت المفتاح في ثقب الباب، فانفتح امامي كاشفًا عن ردهة البیت.. ذلك المكان
الذي طالما لهوت به.. تخطه قدماي الان وانا رجل بالغ رحلت عنه طفولته منذ

سنین تاركةً بعض الذكریات اللطیفة، وبعض الذكریات المؤلمة كذلك..
كانت الحالة العامة للبیت جیده.. وذلك لأن جدي ظل ساكنًا بالبیت حتى فترة اسبوع
مضت.. فلم أجد ترابًا كثیفًا او ما شابه.. بعض الصنادیق فقط كانت ملقاة هنا
وهناك.. لكن باقي البیت لم اشعر فیه بأي ذرة اهمال او فوضي.. رحمك االله یا
جدي.. كنت مثالاً في النظام والترتیب.. تكره الفوضي ایما كره.. وتعشق النظام

كعشق النبات لقطرات الماء..
ألقیت بحقائبي في مدخل الردهه.. وامامي یمتد المنزل بمساحته الواسعه وغرفاته
الاربع.. غرفتي النوم على الیسار.. وغرفة الاستقبال على الیمین.. وغرفة مكتب
جدي في المنتصف.. وقفت متأملاً لباب المكتب.. متذكرًا رؤیة جدي جالسًا على
مكتبه مدونًا لتجاربه الفیزیائیة.. ثم یراني ناظرًا له وصامتًا في رهبة.. فیبتسم
ویترك ما یكتبه من اجل مجالستي والتحدث معي.. كم كانت أحادیثه مشوقة.. یحكي
لي عن بلاد اخرى لم اراها وعن احداث حدثت منذ مئات السنین فكأني اراها
بعــیني الصــغیرتین.. سقاني جــدي حــب التــاریخ منــذ صــغري.. وبــالرغم
مــن كونــه عــالمًا فیزیــائیًا خبــیرًا فــي مجالــه.. إلا ان ذلــك لــم یمنعــه مــن
عشــق التــاریخ والتعمــق فیــه وكثــرة قراءاتــه حتى تفــوق فــي درایتــه
بــالتاریخ على كثــیر مـن الخبـراء والدارسین.. اتذكر في یوم من الایام جلس معي

یحكي لي أحد حكایاته..
- تعرف یا أدهم.. انا طول عمري بحب التاریخ.. من وانا قدك كده.. كنت اقرا عن
التاریخ ایام زمان.. واتخیل اني وسطهم وأني واحد من اللي حاربوا مع صلاح

لأ

 

الدین ودخلنا القدس.. او ارجع لأیام فتح مصر ویستقبلني اهل مصر الاقباط وسط
جیش عمرو بن العاص.. تاریخنا جمیل اوي.. بس للاسف مین یقدّر كده ولا مین

یهتم..
ثم یمیل لي ضاحكًا:

- انا والدي كان یتضایق اوي من حبي للتاریخ دا.. وكان دایمًا عاوزني اطلع عالم
كبیر في الفیزیا.. وانا حققت له رغبته وكنت دایمًا متفوق في مجالي.. بس عمري

ما قدرت أنسي التاریخ.. اللي ینسي تاریخه یا أدهم.. میقدرش یصنع مستقبله..
كنت التهم كلماته التهامه في شوق.. بالرغم من صغر سني وقتها.. إلا اني كنت
قادرًا على فهم ما یقول فهمًا تامًا.. وظللت معه لسنوات عدیده أصغي لحكایاته
المشوقة، حتى صار التاریخ بالنسبة لي تراثًا مقدسًا وجب الحفاظ علیه والاهتمام به

ما حییت..
فتحت باب مكتبه وتأملت المكتبة الضخمة التي احتلت جدارًا كاملاً من السقف حتى

الارضیة.. اتذكر دهشتي عند رؤیتها لأول مرة.. وقتها سألت جدي بكل براءة:
- انتا قریت كل الكتب دي یا جدو؟؟ امتي وازاي؟

یبتسم جدي ویربت على رأسي، ثم یجیب في هدوء:
- لما تبقي قدي في السن ویبقي شعرك ابیض زي شعري.. هیكون عدا علیك وقت

كبیر اوي.. یكفیك تقرا الكتب دي وقدها كمان مرتین..
ابتسم وانظر له في تحدي طفولي ثم اقول في ثقة:

- اوعدك اني هبدأ اقراهم من دلوقتي وهخلصهم قبل ما أبقي قدك..
ثم اتجهت لأول كتاب یصل لمستوي یدي وسحبته.. ثم قرأت عنوانه:

نزهة المشتاق في اختراق الافاق لـ ابو عبد االله محمد الادریسي.. لم افهم حرفًا من
عنوانه ولكن اعجبني غلافه السمیك المزدان بالنقوش الذهبیة الجمیلة.. وعندما
قلبت صفحاته اعجبتني الرسوم الملحقة بكثیر من الكلمات المكتوبة على صفحات

ذلك الكتاب.. فهم جدي ما افعله.. فضحك كثیرًا واحتضنني واخذ یداعبني قائلاً:
 

- انتا لو مسكت كل كتاب واتفرجت على الصور یبقي المكتبة دي هتخلص في
یومین..

تضاحكنا سویًا وتركت الكتاب لاتفرغ لمداعبته واللعب معه..
انظر الان لتلك المكتبة، لأجد عیناي تنحدر منها الدموع رغمًا عني.. اتجهت الى
المكتبة وانحنیت بجسدي حتى أصل الى رفها الاسفل.. بحثت عنه حتى وجدته..
نفس الكتاب.. نفس الغلاف السمیك المزدان بالنقوش الذهبیة.. لم ینطفئ لونها

أ

 

الذهبي بعد.. ولكن ما انطفأ هو ذكراه الجمیلة وإن مازالت تحتفظ ببعض من وهجها
الدافئ في قلبي وعقلي..

رن هاتفي المحمول بغته لینتزعني من تلك اللحظة المؤثرة..
مش عارف لیه.. متونس بیكي وكأنك من دمي.. على راحتى معاكي.. وكأنك أمي

مش عارف لیه
علمت انها أروي من قبل ان أرد.. لقد خصصت لها تلك النغمة التي تترجم كل ما
اشعر به تجاهها.. ضغطت على زر الرد لینبعث صوت أروي الهادئ من الهاتف..

الو.. ازیك یا أدهم دلوقتي؟
رددت بهدوء مماثل محاولاً الا یظهر تأثري في الهاتف.. الحمد الله یا أروي.. الحمد

الله
- وصلت البیت خلاص؟

- اه تمام.. لسه واصل من عشر دقایق بس..
- طب وایه الاخبار؟

- البیت لسه زي ما هو متغیرش.. یادوبك شویة تراب بسیط بسبب الكام یوم اللي
فاتوا دول.. مش مشكلة..

- خلاص انا هعدي علیك بكرة الصبح اساعدك في توضیب البیت.. مش هینفع
توضبه لوحدك وانتا كده

- لأ متقلقیش یا أروي.. الموضوع مش محتاج تعبك معایا.. ربنا یخلیكي لیا..
- متقولش كده یا أدهم.. انا بكرة ان شاء االله الصبح هكون عندك.. ملیني العنوان

وانا بكرة هتلاقیني قدامك..
ایقنت ان أروي لن تغیر رأیها.. كم هي عنیدة.. ولكنني أحب عنادها ذلك.. املیتها

العنوان ثم أنهینا المكالمة..
اخرجتني مكالمة أروي من سیل الذكریات العنیف الذي غرقت فیه حتى الاذن..
ولكنني اعلم ان ذلك السیل سیستمر كثیرًا وكثیرًا.. فكل رقعه من ذلك البیت القدیم

لي فیها ذكریات ستطرق ابوابي بالتأكید..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

في الصباح التالي.. اتت أروي بالفعل.. طرقت الباب بیدها الرقیقة ففتحته لها،
لیطالعني وجهها المشرق دائمًا.. حتى وان ارتسم بعض الحزن على وجهها، فإنها

تظل محتفظه بجمالها الفتان.. ظللت واقفًا لفترة.. فسألتني أروي بكل دهشة:
- انتا هتسیبني على الباب كده ولا ایه؟

أ ً

 

انتبهت انني بالفعل كنت واقفًا في مدخل الباب مما یمنعها من الدخول.. فأجبتها بكل
احراج:

- لأ خالص.. مش قصدي.. انا بس حبیت اتملي بجمال وشك اللي بقالى كتیر
مشفتهوش..

ابتسمت أروي واحمر خدها قائلة:
- دایمًا بتعرف تضحك علیا بكلامك دا.. خلاص كفایة هزار.. احنا ورانا شغل..

وقطبت جبینها بشكل طفولي مصطنعه التركیز.. ابتسمت رغمًا عني.. مجرد
رؤیتي لـ أروي كان كافیًا للتسریة عن نفسي بعض الشئ.. بدأنا بتجهیز الغرف
اولاً.. لم یأخذ ذلك مننا اي وقت.. فلقد كانت الغرفة الاولي والتي كان ینام بها جدي
الراحل نظیفة ومرتبة بعنایة، اما الغرفة الاخرى فیبدو انها لم تستعمل منذ فترة
طویلة.. ربما منذ ان رحلت عن البیت.. لذلك كانت الاكثر تأثرًا بالتراب.. ولكن لم
یبدو علیها الاهمال كالعاده.. بعد انتهائنا من توضیب الغرفتین.. استرحت قلیلاً انا و
أروي.. تحادثنا بخصوص العمل وبعض الشئون الاخرى.. اخبرتني أروي بأنها
استطاعت ان تحصل لي على اذنًا بالاجازة لمده اسبوعین.. مراعاةً لظروفي
الحالیة.. اخبرتني بغیظ ممدوح الشدید اثناء اعطائها هذا الاذن.. لم ابالى بذلك.. فأنا
وممدوح ندّان الى الابد.. ولا سبیل للمحبة بیننا.. ثم اوصلت الى تعازي عم خالد
الحارة.. ووصفت لي حزنه الشدید بعدما علم بخبر وفاة جدي.. وكم الادعیة التي
دعوها لجدي بالرحمة والمغفرة وحسن الجزاء.. كذلك اوصلت الى تعازي والدتها
ودعائها لجدي.. شكرتها على ذلك.. واثناء جلوسنا رنّ هاتفي المحمول.. نظرت
للشاشة فوجدت رقم الاستاذ عبد االله المحامي مرتسمًا على الشاشة.. اعتدلت في

مجلسي ورددت قائلاً:
- الو.. السلام علیكم یا استاذ عبد االله

- علیكم السلام یا أدهم.. ازیك یابني دلوقتي؟
- تمام الحمد الله..

-الحمد الله.. انا قولت افكرك بمعادنا ان شاء االله.. فاضي الخمیس الجاي؟
- اه اكید یا استاذ عبد االله.. تنورني..

- طیب تمام یابني.. ان شاء االله یوم الخمیس بعد صلاة العشا هكون عندك..
- بیتك ومطرحك یا استاذ عبد االله..

-ماشي یابني.. السلام علیكم..
-علیكم السلام و رحمة االله وبركاته..

اغلقت الهاتف ونظرت الى أروي في تساؤل.. مین دا یا أدهم؟

 

اجبتها: دا استاذ عبد االله.. المحامي بتاع جدي االله یرحمه.. كان قاللي انه عاوز ییجي
یوم الخمیس الجاي علشان معاه حاجة مهمة لازم یسلمها لي..

سألتني أروي في قلق: حاجة ایه دي؟؟
اجبتها في حیرة: مش عاوز یقوللي لحد دلوقتي.. ادیني هشوف یوم الخمیس عاوز

مني ایه
ردت علي.. ماشي.. یاللا بینا نكمل توضیب.. هانت.. كلها اوضة المكتب بس

وخلاص..
نهضنا سویًا بإتجاه غرفة مكتب جدي.. لنكمل تنظیف البیت.. ولأكمل انا ذكریاتي

الجمیلة..
دخلنا الى مكتب جدي.. بدأنا في ازالة الاتربة عن ارفف المكتبة الضخمة.. وابدت
أروي اندهاشها واعجابها بكمیة الكتب القیمة الموجوده بالمكتبة.. جاوبتها بكل

بساطة:
- جدو كان بیقرا في كل المجالات.. وكان بیهتم اوي بالكتب القدیمة وامهات الكتب..
ولما كان بیحكي لي عن الحاجات اللي قراها كنت بفضل تایه في اللي بیقوله

بالساعات..
اجابتني بنبره شابها الحزن: یا بختك بیه.. االله یرحمه ویحسن الیه.. بس شكله كان
بیحبك اوي واتجهت للمكتب لتمسك ببرواز صغیر فیه صورة فوتوغرافیة تجمعني
انا وجدي.. انتا شكلك كان امور اوي وانتا صغیر.. واضح علیكم السعاده مع

بعض.. اجبتها وقد تذكرت الیوم الذي التُقطت فیه تلك الصورة..
- اه.. دي كانت خروجة لینا مع بعض في القلعه.. كان بیحب یودیني الاماكن
الاثریة اوي.. ویاما رحنا مع بعض لمناطق عمري ما كنت اروحها لو مكنتش
معاه.. روحنا القلعه.. ومساجد مصر القدیمة.. المتحف المصري.. المتحف
الحربي.. دا حتى في مرة سافرنا للاسكندریة ووداني قلعه قایتباي.. وعمري ما

أنسي رحلة عمرنا.. یوم ما سافرنا للاقصر واسوان.. أجمل ایام حیاتي..
اتجهت الى أروي لأجدها تمسح احدي الدموع التي خرجت من عیني دون قصد..

قالت في تأثر:
- االله یرحمه یا أدهم.. دلوقتي هو في مكان أحسن من اللي احنا فیه بكتیر..

ثم امسكت بیدي وقبلتها.. احتویتها في صدري.. ومالت برأسها على كتفي.. ظللنا
واقفین لبرهة.. ثم قلت لها في هدوء..

- أروي یا حبیبتي.. احنا لسه مخلصناش المكتب..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

بعد ان ازلنا التراب من فوق ارفف المكتبة وسطح المكتب.. وجدنا بعض الصنادیق
القدیمة.. اتجهت الیها وفتحت أحدها.. فوجدت ما ادهشني..

انتبهت أروي لدهشتي.. فاتجهت الى مسرعةً..
- مالك؟؟ ایه اللي حصل یا أدهم..

دســــست یــــدي فــــي الصــندوق لأخــرج لــها وســامًا حربیـًـا قــدیمًا، یبــدو
انــه لبلــد اوروبــي ما.. بــذلك الصــقر المجنــح فــاردًا جناحیــه فــي مســتوي
افقــي.. ثم اخــرجت بعــدها خــوذة حربیــة قــدیمة ایضـًـا.. نُقشت علیــها رســوم
لأســود مجنحــة وكــائنات اسطوریة.. بالاضافة لعدید من المقتنیات التي تمثل نفس

القیمة.. رموز تاریخیة..
سألتني أروي في غرابة:

- ایه الحاجات دي؟؟ جدك كان بیمثل في فیلم تاریخي ولا ایه؟
نظرت الیها في شرود.. وقلت ببطء: لأ.. دا مش حاجات تقلید… دي اثار بجد!!

∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

6
ظللنا لبرهة نحاول استكشاف تلك المقتنیات، و مازلت على رأیي.. انها حقیقیة
بالفعل.. لا أدري كیف استطاع جدي الحصول على تلك القطع.. لا اتذكر رؤیتها
حتى منذ كنت مع جدي تحت سقف هذا البیت.. تكاثرت الاسئلة في عقلي، و أروي
تقلب القطع في یدها وتنظر الیها من كل جانب.. علها تجد ما یشیر لمكان الصنع او

ما یثبت زیفها.. قلت لها في قلق: متحاولیش یا أروي.. حقیقیة فعلاً..
- یا أدهم عرفت منین.. اكید مكتوب علیها صنع في الصین استني اشوف بس..

اجبتها في نفاد صبر وقد تكاثرت الشكوك في نفسي.. صدقیني انا متأكد..
اجابت في سرعه.. عرفت منین؟؟ انتا خبیر اثار عشان تقول كده؟

اثارت جملتها بنفسي شیئًا.. تذكرت كیف یمكنني التأكد من حقیقة تلك القطع..

هرعت لهاتفي المحمول وبدأت في طلب الرقم.. انتبهت أروي لذلك بعد ثوان..
هرعت هي الاخرى تجاهي تسألني عما افعل.. اشرت الیها بالصمت مؤقتًا.. بدأت

المكالمة قائلاً:
- ألو.. ازیك یا صبحي؟

رد على صدیقي صبحي مستفسرًا عن حالى الآن.. اكملت معه الحدیث متوترًا:
- تمام یا صاحبي.. الحمد الله على كل شئ.. معلش یا صبحي كنت محتاجك في
خدمه مستعجلة كده.. تقدر تبقي تعدي علیا كمان شویة في البیت القدیم؟.. اه اللي في

شبرا.. ماشي.. فاكر العنوان؟ طیب تمام.. تسلملي یا حبیبي.. مستنیك بأه.. سلام..
اغلقت الهاتف وقد بدا على وجهي الارتیاح.. سألتني أروي في فضول:

- مین صبحي دا یا أدهم؟
اجبتها: دا واحد من اعز صحابي القدام من ایام ما كنت هنا في شبرا..

سألتني وقد بدا انها لم تفهم الصلة: طیب ایه علاقة دا بالاثار المزیفة دي؟
اجبت بسرعه: اولاً دي مش مزیفة.. ثانیًا صبحي دا یبقي خریج اثار جامعه

القاهرة.. دا اكتر واحد أقدر اعرف منه الحاجات دي حقیقیة فعلاً ولا لأ
مطت أروي شفتیها وقالت: ماشي.. لما نشوف.. بس انا مصرة انهم مزیفین..

اجبتها بقلق: ادینا هنعرف كمان شویة یا أروي..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

غادرت أروي البیت مع وعد بلقاء قریب، وجلست على اریكة الصالة منتظرًا
صدیقي صبحي.. اخرجت العلبة الموجود بها القطع الاثریة ووضعتها خلف
الاریكة.. بعد ساعة، رنّ جرس الباب معلنًا عن وصول صبحي.. اتجهت للباب

ً

 

وفتحته مستقبلاً صدیقي القدیم.. احتضنني وواساني على وفاة جدي.. شكرته
وارشدته لطریق الصالون.. جلسنا وبدأت حواري معه قائلاً:

- منور یا صبحي.. تشرب ایه الاول؟
اجابني صبحي بتلقائیة: واالله لسه شارب قبل ما انزل یا أدهم.. ریح نفسك بس

اصررت على موقفي وانتهي ذلك بإعدادي الشاي لكلینا.. جلسنا نحتسي الشاي
الدافئ بكل استمتاع.. سألني صبحي في اهتمام عن سبب طلبي ایاه.. فاعتدلت في

مجلسي وبدأت في الشرح..
دلوقتي بعد ما جدي اتوفي.. انا قررت اجي اسكن هنا.. من شویة وانا بوضب

اوضة المكتب.. لقیت علبة قدیمة فیها حاجات كده..
اثار الموضوع اهتمامه وسألني بفضول: حاجات ایه؟

اجبته بكل ثبات: قطع اثریة
قطب صبحي جبینه وقد بدا الاهتمام فعلاً على وجهه: اممممم.. اثار.. طب ما هي

ممكن تكون متقلده؟
اجبته نافیًا: لأ انا متأكد.. شكلها فعلاً حقیقي.. ثواني اروح اجیبهالك.. ذهبت للصالة
لأحضر العلبة.. عدت الیه لأجده قد انتهي من شرب الشاي وبدأ في اشعال

سیجارة..
- انتا یابني لسه فیك العاده الهباب دي؟

اجاب صبحي ضاحكًا: معلش یا عم أدهم.. انتا عارف لازم سیجارة علشان أركز
في الكلام التقیل دا

قمت لفتح النافذة جلبًا للهواء.. كم أكره السجائر.. قلت لـ صبحي مازحًا:
- كفایة واحده بس.. مش قاعدین في قهوة احنا..

بدأت في فتح العلبة ومال صبحي برأسه تجاهها.. في بطء اخرجت اول قطعه وهي
الوسام الحربي القدیم.. ناولته لـ صبحي بكل حرص.. نظر الیه في تركیز.. واخذ

یقلبه في یدیه لدقائق.. اجابني:
-فعلاً شكله حقیقي.. اعتقد انه نیشان من ایام الحرب العالمیة.. بس جدك جابه ازاي

دا؟
اجبته: واالله ماعرف.. مانا علشان كده بسألك.. هل الحاجات دي بیحصل فیها

متاجرة؟
رد قائلاً: اغلب الحاجات اللي بیحصل فیها متاجرة بتكون اثار فرعونیة او
اسلامیة.. اغلبها حاجات متعلقة بحضارات مصر.. لكن الحته دي ممكن تكون جایة
من برة.. طب مش ممكن یكون جدك لقاها في صحاري العلمین وكده؟؟ المناطق

دي فیها حاجات من مخلفات الحرب العالمیة كتیر..
أ ً

 

لم یخطر في بالى ذلك فعلاً.. ربما وجدها جدي في أحد اسفاره ورحلاته.. سواء في
مصر او خارجها.. اعلم جیدًا عشق جدي الراحل للتاریخ، ولا بد ان یحتفظ بتلك
الذكري إذا وجدها.. لكن ماذا اقول عن باقي القطع؟؟ انها اشبه بمجموعه تحف
لجامع شغوف للآثار.. حاولت ارجاء التفكیر في تلك الخواطر لما بعد رحیل
صبحي.. اكملت اخراج القطع، اعطیت لـ صبحي القطعه الثانیة.. الخوذة الحربیة..
تناولها في انبهار وبدأ یفعل بها ما فعل بالوسام.. لكن هذه المرة طال الوقت حتى

وصل لخمس دقائق.. بعدها أردف في قلق مختلط بالدهشة:
- دي بأه انا متأكد انها اصلیة.. الخوذة روعه.. اعتقد من عصر الدولة البطلمیة في
مصر.. بس غریبة، النقوش علیها واضحة وكأنها معمولة من كام سنة مش من كام

قرن..
اثارت تلك النقطة اهتمامي كثیرًا.. سألته في عدم فهم: ازاي؟؟ مش انتا بتقول انها

من ایام الدولة البطلمیة؟
اجابني مؤكدًا: اكید.. لكن الخوذة سلیمة جدًا.. اغلب اثار الفترة دي تآكل منها جزء..
لكن دي كویسة اوي.. دا دلیل ممكن یخلیها مزورة.. بس بصراحة لو مزورة.. یبقي

اللي زورها دا فنان.. التفاصیل متقنه جدًا جدًا..
ثم أكمل وقد بدا علیه الحیرة فأخذ یلمس طرف ذقنه كعادته عند شعوره بالقلق..
بصراحة یا أدهم.. خبرتي متقدرش تحكم على الحتت دي انها حقیقیة ولا

مضروبة.. انا عندي فكرة.. اجبته: قول یا عم العبقري..
أردف قائلاً: انا ممكن اوریها للدكتور رئیس القسم عندنا.. الراجل دا موسوعه
تاریخیة اثریة.. و دا اكتر واحد یقدر یساعدنا في الموضوع دا.. بس هاخد الحاجات

دي ازاي كده معایا؟
اجبته في سرعه: وانتا لیه تاخدها؟؟ صورها كویس وأبقي ادیله الصور یشوفها..

اجاب غیر مقتنعًا: لأ صعب.. لازم الاصل.. الصور مش هتوضح الحاجات اوي..
جاءه مني الرد سریعًا: مقدرش اطلع الحاجات دي برة البیت یا صبحي.. صورها
كویس وادیله الصور.. مش مشكلة انا مش مستعجل على الحاجات دي ومش طالب
رأى علمي بحت.. انا عاوز اعرف بس هل الحاجات دي حقیقیة فعلاً ولا مزورة؟

مجرد تأكید لحاجة في دماغي بس..
اجابني وقد رضخ بالامر: خلاص ماشي.. اللي تشوفه یا أدهم.. وبدأ في تصویر
القطع بكامیرا هاتفه ذو الدقة الفائقة.. بعد ان انتهي من تصویر جمیع تفاصیل

وجوانب القطعتین.. سألني:
طب فیه حاجات تانیة ولا خلاص كده؟

اجبته: لسه فیه كمان ییجي عشر حتت على الاقل.. بس كفایة دول دلوقتي.

أ ً أ

 

اشار برأسه موافقًا، ثم استأذن للرحیل لانشغاله بموعد اخر بعد نصف ساعة،
وطمأني بأنه سیخبرني بالنتائج خلال یومین على الاكثر.. شكرته كثیرًا ورافقته

حتى خرج من البیت.. لأذهب انا بعدها للنوم.. فغدًا یوم حافل..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

صحوت مبكرًا في الیوم الثاني.. بعد كوب النسكافیه الدافئ، ذهبت الى مكتبة جدي
لأطالع بعض الكتب.. وجدت ان كثیرًا من الكتب قد تم اضافتها منذ ان رحلت عن
هنا.. بعض منها من امهات الكتب التي یعشقها جدي.. وبعضها كتب حدیثة نسبیًا..
اجزاء من موسوعات عن علم الفیزیاء.. كتب عن نظریات فلكیة.. واخرى عن
تاریخ الدول والحضارات والشعوب.. كتب في اللغات الاجنبیة والقدیمة.. رحمك
االله یا جدي.. كم كنت عظیمًا.. لم ار في حیاتي شخصًا مثلك في اخلاقك وفي رُقیك
في التعامل مع من حولك.. ثقافتك الواسعه كانت خیر ارث ورثته منك.. لیتني اكون

جزءًا ولو بسیطًا مما كنت فیه.. رحمك االله یا جدي..
قضیت في مكتب جدي اغلب ساعات النهار.. لا یقطع مطالعتي للكتب الا القیام
لتناول شطیرة او الذهاب لقضاء الحاجة.. جاءني هاتف من أروي تستعلم عما حدث
بالامس.. اخبرتها ملخصًا عما حدث.. ابدت موافقتها على قراري بعدم خروج
القطع من البیت.. وتمنت لي التوفیق.. اشكر االله دائمًا على وجود أروي بجانبي..
انسانه یصعب ان أجد مثلها في زماننا هذا.. مثقفة ومحترمة وعلى خُلق ودین

حقیقي.. بالفعل لا أدري كیف كنت سأعبر تلك الفترة بدون وجودها بجانبي..
انتهي المؤذن من صلاة العشاء.. ادیت الصلاة و الحمد الله ثم بدأت في تجهیز
الصالون استعدادًا لحضور المحامي الاستاذ عبد االله.. بالفعل بعد حوالى ربع
ساعة.. سمعت طرقاته على باب المنزل.. استقبلته خیر استقبال وادخلته لغرفة

الصالون.. شد انتباهي احضاره لصندوقًا متوسط الحجم..
جلس الاستاذ عبد االله على أحد المقاعد الوثیرة للصالون.. بعد السلام والمجاملات
المعتادة.. بدأ الاستاذ عبد االله كلامه بجدیة: دلوقتي یا أدهم.. زي مانتا عارف.. غیر
اني صدیق لجدك االله یرحمه.. انا كنت المحامي الشخصي بتاعه.. جدك كان راجل
في حاله.. عمره ما رفع قضیة على حد.. وعمره ما كان بتاع مشاكل.. علشان كده

اللي بیننا عمره ما كان علاقة شغل.. اعتبره علاقة ثقة بین صدیقین اوفیاء..
اجبته مؤكدًا:طبعًا یا استاذ عبد االله.. انا افتكر جدي االله یرحمه دایمًا كان یشكر في
حضرتك.. ودایمًا یجیب سیرتك بالخیر.. ثم اكملت مستفسرًا: بس برضو..

حضرتك مقولتلیش ایه الموضوع؟
اعتدل في مجلسه وارتشف من كوب القهوة الذي طلبه.. ثم أكمل: جدك من حوالى
عشر سنین كده.. بعد ما عمك اخدك من احضانه.. كان مقهور وحزین جدًا.. اول
مرة اشوفه في حیاتي كده.. لكن دایمًا كالعاده كان بیدفن نفسه وسط شغله وتجاربه
علشان ینسي حزنه.. من شبابه وهو كده.. بعد ما خرج شویة من الفترة دي.. لقیته

جاي یزورني في المكتب ومعاه الصندوق دا..
ً أ

 

ثم تناول الصندوق الذي احضره معه.. وناولني ایاه.. وأكمل قائلاً:
سألته ساعتها عن الصندوق دا.. قاللي ان الصندوق دا شایل فیه حاجة مهمة جدًا..
تعتبر اهم حاجة في حیاته.. وطلب مني اشیلها معایا.. وطلب مني برضو انه هیعدي
علیا كل فترة یحط حاجة في الصندوق دا او یاخدها منه.. طبعًا ساعتها مكنتش فاهم
عاوز ایه.. بس انتا عارف مقدرش ارفض له طلب.. حافظت على الصندوق دا
طول السنین دي.. وكل فترة كان بیمر علیا.. مرة كل شهر.. وساعات كان یمر
بالشهرین والتلاته میعدیش.. مفیش مواعید محدده لیه.. بس كان لما ییجي.. یاخد
الصندوق ویفتحه في اوضة مقفوله علیه.. انا احترمت خصوصیته وعمري ما
سألته ایه اللي في الصندوق.. حتى هو كان عامل قفل سري علیه بارقام سریة..

مقالش هي ایه بس انا رفضت اسأله.. دي حاجاته وهو حر فیها اكید..
سألته وقد بلغت مني الاثارة مبلغها:

- طیب دلوقتي انا اعمل ایه مع الصندوق دا؟
اجابني: انا فاكر في الشهور اللي فاتت دي.. جدك كان تعب اوي.. ساعتها عدي
علیا زي عادته.. بس مفتحش الصندوق.. بلغني بس ان الصندوق دا یتسلم لیك انتا
شخصیا بالید في حاله انه توفي او حصلت له حاجة خطیرة اوي.. كأنه كان حاسس

ان اجله قرب ثم بدأ الاستاذ عبد االله في بكاء هاديء صامت..
تدافعت الافكار في رأسي.. صندوق مغلق.. سر.. رقم سري.. كل یوم اكتشف سرًا
بخصوصك یا جدي.. یا تري ما هو السر تلك المرة؟ خفت ان یشغلني التفكیر عن

السؤال الهام.. فسألت استاذ عبد االله:
- طب دلوقتي انا أقدر افتح الصندوق ازاي یا استاذ عبد االله؟؟ انا معرفش الرقم..

اجابني حائرًا: واالله یابني انا معرفش الرقم.. كل اللي قاله لي وقتها.. خلي أدهم
یدور.. هو هیقدر یخترق أفاق السر دا بنفسه..

مازالت الحیرة تتملكني.. لم افهم ما قال.. حاولت التفكیر في معني تلك الجمله ولكن
ذهني كان كمرجل تُقلب فیه وصفات السحرة.. كانت الجمله الاخیرة ایذانًا بانتهاء
المقابلة.. استأذن الاستاذ عبد االله وقام.. رافقته لتوصیله لباب المنزل.. وسلّم على

بجملة ما لم امیزها لشرودي وتفكیري في كلمات جدي..
عدت لغرفة مكتب جدي.. ارتكنت الى ارفف المكتبة.. استعدت ما قاله جدي.. خلي
أدهم یدور.. هو هیقدر یخترق أفاق السر دا بنفسه.. دائمًا ما كنت تعشق اللعب معي

یا جدي.. لكن تلك المرة أعجز بالفعل عن فهم ما تقول.. اخترق السر؟
هل تقصد اني اخترق الصندوق لأعرف السر؟ لا.. بالتأكید لا.. لم یلجأ جدي للقوة
ابدًا.. دائمًا اقتنع باستخدام العقل.. اذن.. فلأعمل عقلي لأصل للسر.. لأخترق افاقه..

لأخــ.. نعم!!!
اخترق آفاقه…. انه الكتاب!!

 

التففت بسرعه الى المكتبة.. نظرت بسرعه الى الرف الاسفل..
ســحبت الكتــاب منــه فــي رفــق.. نعم انــه الكتــاب.. اول كتــاب امســكته فــي
تلــك المكتبــة.. نزهــة المشــتاق فــي اختــراق الافــاق للإدریســي.. ابتســمت
فــي فرح.. لقــد فــهمتك یــا جــدي.. علمت مــاذا تقصــد بــالاختراق.. فتحت
الكتـاب واخـذت فـي تقلـیب صفحاته.. نفس الكتاب.. لم یتغیر به شیئًا.. لا توجد اي
كتابات او اي علامات توضح ما المطلوب فعله بالكتاب.. لم افهم.. انا متأكد من اني

امسك بمفتاح حل اللغز.. اذن ما المشكلة؟
قلــدت ابطــال الروایات.. امســكت بـالكتاب ونظـرت فـي غلافـه مـن الـداخل..
ربما اجـد خطـابًا سـریًا.. اذهلني وجـود مـا یشـبه اثـار صـمغًا على طـرف الغـلاف
مـن الـداخل.. هرعت للمكتـب وامسـكت بفتاحـة الخطـابات الموضـوعه علیه..
ضـغطت بـها بحرص.. لتنسل ورقة مطویة بعنایة من الغلاف.. اخذتني الدهشة
بالفعل تلك المرة.. خطابًا مخبأ في غلاف الكتاب.. ان اسرارك تزداد وعورة یا

جدي!!
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

7
انزلقت الورقة المطویة من غلاف الكتاب لتزداد معها ضربات قلبي من فرط
الإثارة.. خطاب مخبأ في غلاف كتاب.. اي سر خطیر هذا الذي خبأه جدي؟ ولماذا
كل تلك الاعدادات؟ امسكت الورقة وفضضتها.. وبدأت اقرأها وعیناي غیر

مصدقتین لما تقرأ..
بسم االله الرحمن الرحیم..

عزیزي أدهم..
مادمت قد وصلت الى هذا الخطاب، فهذا دلیل على فوزي بالرهان.. لقد راهنت
نفسي على ذكائك وقدرتك على حل اللغز.. وبما ان الخطاب بین یدیك الآن.. فهذا
معناه اني قد غادرت هذا العالم وذهبت للقاء وجه ربي الكریم.. اعذرني یا ادهــم..
وددت لــو اراك ولــو لمــرة اخــیرة قبــل ان امــوت.. ولكن عائلــة والــدك
رحمــه اللــه كــانت الســبب فــي فراقنــا.. لن اســتطیع ان انسـي الیوم الـذي جـاء
فیـه عمـك كمـال لأخـذك منـي وضـمك لكنفـه وكنـف عائلتـه.. بعد هـذا الیوم
تغـیرت حیـاتي فعلاً.. حدث ما لم اتخیله.. ورأیت ما لم یراه أحد من قبل.. لن اطیل

علیك في هذا الخطاب الصغیر.. ستعلم كل شئ بعد قلیل..
من المفترض ان عبد االله صدیقي العزیز قد احضر الیك الصندوق.. ستجد قفلاً
بالارقام یحمي هذا الصندوق.. استعمل عقلك وافتح هذا القفل.. مفتاح القفل هو

تاریخ یوم رحیلك عني.. عسي ان تتذكر ذلك الیوم مثلما تذكرته انا..
جدك جمال
طــویت الورقــة، وقــد انتــابني زخــم مــن المشــاعر لــم اســتطع تحــدیده.. حزن
وتــأثر وانفعــال وتوتر… امســك بـین اصـابعي بخطـاب شـخصي مـن جـدي
العزیز.. ینبـهني لسـر جـدید.. وتـذكرت ذلـك الیوم المشـئوم.. یـوم ان اخـذني عمـي

مـن احضـان جدي.. بالفعل كانت نقطة تحول في حیاتنا..
عــدت الى الصــالون لأحمــل الصــندوق الى غرفـة المكتـب، وضـعته امـامي
بعنایـة.. تذكرت تـاریخ ذلـك الیوم، وحـركت عجلـة الارقـام فـي القفـل.. بعـد اخـر
رقـم اصـدر القفـل صـوت تكـة ممـیزة تعبـر عـن فتـح القفـل.. خلعـت القفـل

ووضـعته بجـانب الصندوق، وفتحت الصندوق بكل ترقب..
رزمة من الاوراق المجموعه یدویًا في شكل مجلد.. هذا ما وجدته.. اخرجتها بعنایة
من الصندوق وقد بدا علیها القِدم.. فاصفرت بعض أطراف صفحاتها الاولي
وتثنت.. بینما احتفظ الباقي بتماسكه.. ما شد انتباهي هو ما على غلاف المجلد..
رسم یدوي لدائرة.. ویخرج منها خطان من نقطة مركزها في زاویة شبه منفرجة..
لم افهم معني ذلك الرمز.. لذلك بدأت في قراءة تلك الاوراق.. لعلها تحمل اجابة

لتساؤلاتي الحائرة..

أ أ

 

امسكت بالغلاف وفتحت اول صفحة.. وبدأت اقرأ ما كتبه جدي..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

بسم االله الرحمن الرحیم..
عزیزي أدهم..

إن وجود تلك الاوراق بین یدیك الآن لهو أكبر دلیل على حسن ثقتي بك، واستكمالاً
لما كتبته لك في خطابي الصغیر.. ما بین یدیك الان هو سري العظیم.. سري الذي
كتمته بداخلي طیلة حیاتي الفانیة.. لذلك ارید منك ان تشحذ حواسك وتنتبه لما
ستقرأه في الصفحات القادمة.. فأنت من تلك اللحظة، لن تصیر حیاتك كسابقها،

وستمتلك ما یطمع فیه اي انسان.. فاحترس..
لن أستطیع ان أروي لك ذلك السر بدون ان اخبرك بمقدماته.. ومقدمة السر ترجع
الى سنین بعیده.. كنت فیها في مثل سنك وقتها.. شاب لأسره میسورة الحال.. والدي
تاجر من الطبقة المتوسطة - تلك الطبقة التي هُمشت بالكامل بعد ذلك في عصر
السادات ثم مبارك - واستطاع والدي تربیتي انا واخوتي الاربعه أفضل تربیة.. اهتم
بتنشئتنا عقلیًا وبدنیًا.. فلم یبخل على بكتاب اقرأه، حیث كنت شدید النهم لقراءة كل

ما یقع امام عیني من كتب او مدونات..
لطالما حلم والدي بأن یراني عالمًا فیزیائیًا كبیرًا.. فقد حمل في داخله اجلالاً
واحترامًا كبیرًا لمكانة العالِم.. وخاصةً ان وقتها بزغ نجم العالم المصري الراحل
على مصطفي مشرفة.. فكان خیر مثال للعالم الفیزیائي المصري.. لكني للاسف
دائمًا كنت مخیبًا لأمال ابي في تلك النقطة.. فأنا احمل داخلي حبًا عارمًا للتاریخ..
اعشق تصفح التاریخ والاستزاده منه دائمًا.. تاریخ الانسانیة منذ ولادتها وهو في
تكرار مستمر.. امم تتكون وتتجمع لتتحد و تنهض ثم تسیطر ثم تشیخ لتموت وتفسح
المجال لأمة اخرى بعدها.. وهكذا دوالیك.. تمر الایام بنا ولا ندري اننا تروس
صغیرة في الة كبیرة هي مجري الزمن.. لذلك عشقت التاریخ.. كان هو مرشدي
ومعلمي.. علمت منه ما روي ظمأي للمعرفة.. ولكن ذلك لم یوقفني.. بل زادني

عطشًا.. للاستزادة..
بعد ان اتممت دراستي.. صرت على استعداد للالتحاق بالجامعه.. وكانت تلك لحظة
الصدام مع والدي، فقد تقابل عشقي للتاریخ مع اصراره على دراستي للفیزیاء..
وقتها رضخت لرغبة والدي احترامًا له.. ولكني یومها اقسمت لنفسي ان دراستي
للفیزیاء لن توقفني عن اهتمامي بالتاریخ، فصارت الفیزیاء في كفة والتاریخ في
الكفة الاخرى.. وبحمد االله استطعت ان اوازن بین الكفتین بدون ان اقلل من

اهتمامي بأحدهما على حساب الاخرى..
تفوقت في دراستي وكنت من نخبة دفعتي طوال سنوات الدراسة.. حتى تخرجت
بعدها بأحد مراكز الاوائل على الدفعه.. وقتها كنا في فترة حكم الرئیس الراحل
جمال عبد الناصر.. وقت أن كانت العلاقات بین مصر والاتحاد السوفیتي قد بلغــت
اعلى مسـتویاتها، فـاعتبر الاتحـاد السـوفیتي انـذاك رئیسـنا صـدیقهم الاكبـر مـن

 

بـین جمـیع اصـدقائهم مـن زعمـاء العـالم والـوطن العـربي.. واتـیح لنـا وقتـها ان
یتـم ارسـالنا فـي بعثـات تعلیمیـة على نفقـة الـوزارة الى الاتحـاد السـوفیتي.. كـان
السوفیت وقتها - وما زالوا - من كبري الدول المهتمه بالعلوم وخاصة الفیزیاء..
حینما علم والدي بذلك الخبر، فرح فرحًا شدیدًا.. ومن فرط فرحته، توقف قلبه عن
الخفقان.. لیرحل عن دنیانا ویغادرنا في یوم حزین من ایام ذلك العام بمنتصف

الخمسینیات..
سافرت الى الاتحاد السوفیتي حاملاً في قلبي حزنًا شدیدًا على وفاة والدي.. مضطرًا
للسفر رغمًا عني.. وتاركًا امي وحدها مع اخوتي الاربع.. كان عزائي الوحید
وجود اخي بجانبها وبجانب اخواتي الفتیات.. الامل معقود علیهم ان یعتنوا بأمي

حتى أستطیع الحضور الى مصر في أقرب إجازة..
وصلت الى الاتحاد السوفیتي، ومنذ ان وطأت قدمي الارض هناك، حتى شعرت
ببرودة المكان تزلزل اعماقي، وتبعث في اوصالى الیأس والكآبة.. لیمتزج ذلك

الشعور بحزني الداخلي، فتكون مزیجًا بائسًا جعلني أبدو كإنسان محطم النفس..
استطعت بعد فترة تكوین بعض الصداقات مع زملاء مصریین في البعثة، وبعض
اساتذتنا السوفیت في جامعه موسكو الحكومیة.. ولكن كان اشدهم صداقة هو
الدكتور جریجوري دیمیتریف مساعد عمید كلیة الفیزیاء.. رجل طموح وعالم
فیزیائي من كبار علماء الجامعه.. استطعت بتفوقي وشغفي الحقیقي بالفیزیاء ان
استرعي انتباهه، فبدأ في تجاذب أطراف الحدیث معي في شهوري الاولي من
وجودي بالجامعه، ومع الوقت أصبحنا اصدقاء اعزاء.. وجمعنا ایضًا حبنا

المشترك للتاریخ والذي كان صدفة لم یصدقها أحدنا..
في عامي الثاني بالبعثة صار بیننا علاقة صداقة وثیقة، وكان خیر تتویج لصداقتنا
هو زواجي من ابنته الصغري كاترینا.. كانت كاترینا في العشرین من عمرها، منذ
ان رأیتها للمرة الاولي اثناء زیارتي لوالدها في منزلهم، استطاعت ان تجذب عقلي
وقلبي معًا.. بعیناها الزرقاوتان كماء البحر، وخصلات شعرها الذهبي المتهدلة على
جبینها في كسل، وبشرتها البیضاء الوهاجة.. مع مرور الوقت، لاحظ والدها بذكائه
الشدید اهتمامي بها في كل مرة یأتي الكلام عنها او تمر امامنا حامله لنا اكواب
الشاي الساخن، وبعد شهور بارك والدها زواجنا.. وهي إن ظلت محتفظة بدیانتها
المسیحیة الارثوذكسیة، ولكنها ایضًا كانت تحمل في داخلها توقیرًا كبیرًا للاسلام..
ولقد احترمت فیها ذلك كثیرًا.. ارسلت صور زفافي لأمي في مصر، وبلغني
فرحتها العارمة متمنیةً لي السعاده والهناء، بالرغم من بعض الشكاوي البسیطة
كعاده اي ام مصریة من تذمرها لزواجي من اجنبیة، ولكن كل ذلك التذمر البسیط
ذهب مع الریح فور ان احضرتها معي في احدي الاجازات الى مصر، وقتها كان
لقاء الحضارتین المصریة والروسیة خیر لقاء.. لقاء غریب ومضحك نوعًا ما..

لكنه مر بسلام و الحمد الله..
بعد مكوثي في ارض الاتحاد السوفیتي لحوالى عامین، ادرس فیها الفیزیاء
واتحضر لنیل شهادة البكالوریوس، صرت متقنًا للغه الروسیة، وكنت الافضل بین

 

اقراني في التحدث بها بكل طلاقة بالرغم من صعوبتها، مما شجعني على فكرة تعلم
اللغات، ونویت ان اتعلم المزید من اللغات فور عودتي لمصر..

في عامي الثالث انجبت كاترینا ابنتنا الوحیده.. أمك یا أدهم رحمها االله.. وقتها
رغبت كاترینا في ان تسمي ابنتها اسمًا عربیًا خالصًا.. سألتني ما أفضل الاسماء
العربیة عندنا.. لم یدر ببالى اسمًا معینًا.. ولكنني كنت أكن حبًا خالصًا لأهل بیت
النبي - صلي االله علیه وسلم - وخاصة السیدة زینب التي عشقت الصلاة بمسجدها
بمدینة القاهرة.. فاقترحت اسم زینب.. نطقت كاترینا الاسم فاعجبها رنینه واقتنعت

به سریعًا.. وكان ذلك الیوم من أجمل ایام حیاتي بالفعل..
زادت مكانتي علوًا في قلب استاذي السید دیمتریف بعد مجئ زینب.. فلقد كانت
فاتحة خیر على الاسرة جمیعها.. فتمت ترقیة السید دیمتریف لمنصب عمید كلیه
علوم الفیزیاء بجامعه موسكو الحكومیة.. واستطاعت كاترینا ان تحصل على
وظیفة مترجمة بإحدي الصحف السوفیتیة الصادرة بالعاصمة موسكو.. كان عام
مولد زینب نقطة تحول في حیاتي بالاتحاد السوفیتي.. بل لا اكذبك القول إذا قلت

نقطة تحول في حیاتي بأكملها..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

اوقفــــت قــــرائتي قلــــیلاً لخطــــاب جـــدي بــالرغم مــن انتظــاري لبــدایة
حــدیثه عــن الســر.. ولكــن لــم امــلّ ممــا كتبــه.. فأنا لأول مــرة یخبــرني
جــدي عــن نفســه بأشــیاء لــم اعرفــها مــن قبــل.. عرفت ممــن ورثــت والــدتي
تلــك البشــرة البیضــاء.. من امــها الروسیة.. اندهشت قلیلاً عند علمي بأن هناك
شخصًا روسیًا من اجدادي.. ربما إذا بحثت قلیلاً في نسب عائلتنا منذ القدم لوجدت
ان جد جد جد جدي كان اغریقیًا او بابلیًا.. احیانًا كثیرة یلهو التاریخ بنا بطریقة

مضحكة..
ذهبت للمطبخ لإعداد كوبًا من النیسكافیة الدافئ.. فاللیلة یبدو انها ستطول.. بالرغم
من ان غدًا هو الجمعه ویجب على الاستیقاظ مبكرًا للذهاب لصلاة الجمعه.. ولكن

اغراء قراءة مذكرات جدي كان قویًا للغایة..
عدت الى الصالون ممسكًا بكوب النیسكافیة، اعددت جلستي ووضعت الورق امامي

لأكمل قراءة المذكرات..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

كان عام مولد زینب نقطة تحول في حیاتي بالاتحاد السوفیتي.. بل لا اكذبك القول
إذا قلت نقطة تحول في حیاتي بأكملها.. ففي ذلك العام، كنت ادرس في معمل
الفیزیاء كالعاده، حینما اتاني السید دیمتریف وطلب مني موافاته الى مكتبه بعد
انتهائي من تجاربي.. اجبته بالموافقة وحاولت انهاء ما بیدي بسرعه حتى لا أتأخر
على موعدي معه.. انتهیت من تجربتي وسجلت نتاجئها ثم ذهبت الى السید
دیمتریف في مكتبه الخاص بالجامعه.. طرقت الباب لأسمع صوته من الداخل

یأمرني بالدخول..
أ أ

 

دخلت وقد بدأت في القلق عندما رأیت وجه السید دیمتریف المرتسم علیه الاهتمام
وكثرة التفكیر بوضوح كالشمس.. طلب مني الجلوس، فجلست و مازلت قلقًا.. بدأ

الكلام معي بالروسیة التي صرت اتحدثها كأهلها..
 

- انت تعلم یا جمال إنني صرت اعتبرك بمثابة الابن.. خاصةً ان أبني قد رحل عنّي
وهو في عمر المراهقة، لذلك منذ ان تعرفت علیك واعجبني فیك جدك واجتهادك،
صرت اعاملك كابني بالفعل.. وازداد حبي لك بعد ان صرت زوجًا لإبنتي.. وأني

اؤتمنك علیها منذ سنتین.. لذلك اتخذت قراري بأن اؤتمنك على سري ایضًا..
اجبته بإهتمام: یشرفني یا سیدي ان تثق بي، وانما احترامي لك ماهو إلا اقل شئ
یمكن ان أقدمه لك بعد رعایتك لي واشرافك الدائم علي، وائتماني على ابنتك الغالیة

ام ابنتي.. ولكني لم افهم بعد ماهو ذلك السر الذي تود ان تخبرني به؟
اخفــض الســید دیمتــریف مــن صــوته قلــیلاً وقــال: یجــب ان لا یعلــم احــد
بــذلك الســر یــا جمــال.. فأنت تعلــم ان الجواســیس منتشــرون فــي كــل مكــان
فــي ارض الاتحــاد الســوفیتي.. لیس جواســیس الامریكــان فقط.. بـل الجواسـیس
السـوفیت أنفسهم.. المخابرات السوفیتیة لدیها عیونها في كل شبر من ارض
الاتحاد.. لذلك اود ان تحترس جیدًا إذا علمت ذلك السر.. ذلك السر سوف یغیر من
حیاتك الى الابد.. وانت الوحید الذي اراه جدیرًا بأن یعلمه معي.. وان تحمل الرایة

من بعدي إذا توفیت.. فهل ستثبت لي جدارتك بالفعل؟
ازدردت لعابي واجبته بكل توتر: اعدك اني سأكون على قدر المسئولیة یا سیدي..

∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

8
مازلت مستغرقًا في قراءة مذكرات جدي - رحمه االله - وقد انتابني مزید من التشوق

لمعرفة ماهیة السر الذي نُسجت حوله كل تلك الالغاز والرسائل المخبأه..
اقترب مني السید دیمتریف وقتها وسألني بصوت خفیض:

- هل رآك أحد اثناء مجیئك الى مكتبي؟
اندهشت من سؤاله، فالجمیع یعلم أنني دائم المرور على مكتبه وكثیرًا ما یراني
اغلب الطلبه والدارسین مع السید دیمتریف وبالرغم من دهشتي، اجبته بدون تردد:

- لا، لقد كان اغلب الطلاب في غرف الدراسة..
اجابني السید دیمتریف وقد غلب الارتیاح على صوته:

- حسنًا.. اتبعني من فضلك یا جمال
تبعت السید دیمتریف وقد انتابني القلق من طریقة كلامه وافعاله الغریبة.. لم أعتده
بتلك الغرابة، انه كمن یخبئ سرًا خطیرًا.. او كمن ارتكب فعلة شنعاء یخاف من

افتضاح امره بسببها..
وجدت السید دیمتریف یقتادني لغرفة المعامل العامة.. والتي یجري بها الطلبه
والاساتذة تجاربنا الفیزیائیة، ولكنه لم یتوقف في تلك الغرفة، بل أكمل طریقه نزولاً

للقبو المجاور للمعمل، والذي تم استعماله قدیمًا كمعمل ایضًا، ثم تحول
مع التطویرات التي تمت بالقسم الى مجرد قبو لتخزین الادوات وبقایا التجارب..

دخلنا سویة الى القبو، اغلق الباب خلفي بالمفتاح.. توجست خیفة لما فعله.. كانت
الاضاءة خافتة مما جعلني امیز الصنادیق الموضوعه امامي بصعوبة.. اضاء السید
دیمتریف مصباح القبو، لم تكن اضاءته بالقوة الكافیة لإنارة القبو بالكامل، ولكنها

كانت كافیة على الاقل لكي تریني ما امامي من صنادیق بوضوح..
اتجه الى السید دیمتریف وسألني بكل حزم: ماذا تعلم عن الفیزیاء یا جمال؟

صُدمت من سؤاله.. وبدأت ارتاب في الصحة العقلیة لذلك الرجل، فهاهو یأتي بي
من وسط تجاربي وعملي المتواصل، ویسیر بي خلال الغرف والمعامل لیصل بنا
الى قبو قدیم مهجور لیسألني عن مدي درایتي بتخصصي الذي ادرس فیه منذ ما

یربو عن خمس سنوات..
اجبته في تردد: لا اعلم ما المقصود بسؤالك.. لكنّي اعلم اني لست مكتفیًا بما تعلمته

كل تلك السنوات
لمعت عیناه وامسك بكتفي قائلاً: تأكدت من أنك ستقول ذلك.. أنك بالفعل تستحق
معرفة السر.. في داخلك بذرة العالم الحقیقي.. وطموحك وثقافتك العلمیة كانا خیر

دافع لي على اشراكك معي في سري..
أ أ

 

بلغ مني القلق مبلغه.. لم أستطع كتمان تساؤلاتي، سألته ببعض الحدة: - ما هذا السر
الذي تتكلم عنه منذ ان اتیت بي؟

صمت قلیلاً، ثم أردف: اعلم أنك متشوق لمعرفة السر.. وسوف اكشف لك عنه
حالاً.. ستري تجربتي العلمیة الاعظم في تاریخ الفیزیاء..

∞ ∞ ∞ ∞ ∞
ازاح السید دیمتریف الغطاء عن صندوق خشبي یستعمل عادةً لتخزین المعدات
الزجاجیة والمعدنیة المستخدمة في التجارب المعملیة.. ثم فتح الصندوق واخرج منه
علبة كبیرة الحجم قلیلا ولكنها مازالت في متناول الیدین.. وقبل ان یفتحها بدأ في

التحدث..
- مر علم الفیزیاء بعدید من التطورات على مدار تاریخه الممتد خلال القرون
السابقة، بدأ كمعتقدات جاهلة ثم تحورت لأفكار محتفظه ببعض من تلك المعتقدات،
ثم تطورت الى افكار علمیه خالصة صارت قواعد صارمة ومنهاجًا نسیر علیه

نحن العلماء لإكتشاف المزید والمزید من نبع ذلك العلم الفیاض..
وفي عشرینیات قرننا هذا، تقبل المجتمع الفیزیائي بعد سنوات، نظریات العالم
الیهودي الاصل ألبرت اینشتاین، كالنظریة النسبیة الخاصة والنظریة النسبیة

العامة.. تلك النظریات كانت اللبنة الاولي للفیزیاء الحدیثة التي ندرسها الآن..
اینشتاین في نظریته النسبیة العامة وضع الزمن بعدًا رابعًا للابعاد الدینامیكیة
الثلاثة، وسمي الفضاء ذو الابعاد الاربعه بالـ زمكان، حیث یجتمع المكان والزمان

معًا..
تلك النظریات والمصطلحات العلمیة الجدیدة اثارت اهتمامي شخصیًا وقتها كأي
طالب علم شغوف بالفیزیاء.. وقد كنت في مثل سنك وقتها.. ولكن اهتمامي فاق
اهتمام زملائي.. لقد انجذبت للفكرة بالفعل وظللت لسنوات ادرسها وأجري
التجارب المشتقة منها، وقتها جاءني الالهام.. لماذا لا أصل بتلك النظریة لما هو

ابعد؟ لماذا لا احقق بها ما كان مستحیلاً على مر العصور؟
اثناء تجاربي وانشغالى التام بتلك النظریات، ظهر العالم الفلكي الالماني كارل
سفارتسشیلد لیخرج برائعته العلمیة والتي كانت نقطة التحول في تجربتي.. افترض
سفارتسشیلدأنه إذا ضغطت كتلة ما في حدود نصف قطر صغیر بما فیه الكفایة، فإن
انحراف الزمكان سیكون كبیرًا بحیث لن تتمكن أي إشارة من أي نوع من الإفلات،
بما في ذلك الضوء نفسه، مكونا حیّزا لا یمكن رؤیته، سمي فیما بعد بالثقب
الأسود.. ویحدث ذلك عند انهیار نجم تتجاوز كتلته ضعف كتلة الشمس، حیث
ینضغط ویتداخل بفعل قوته الجاذبة حتى تكون كل مادة النجم قد انضغطت في نقطة
ذات كثافة لامتناهیة، تسمي نقطة التفرد الزمكاني.. وأي شعاع ضوء (أو أي جسم)
یرسل داخل حدود الثقب الأسود، ویسمي أفق الحدث، یسحب دون هوادة الى مركز

الثقب الأسود..

أ

 

مساهمة سفارتسشیلد تكمن في أنه قدم حلولا للمعادلات التي تصف انهیار النجم الى
ثقب أسود على أساس نظریة النسبیة.. واتضح لاحقًا أن سفارتسشیلد لم یصل الى
حل واحد للثقب الأسود، وإنما الى حلین، وهو شيء یشابه الحل الموجب والحل
السالب للجذر التربیعي. فالمعادلات التي تصف الانهیار النهائي لجسم یقتحم الثقب
الأسود تصف أیضا، كحل بدیل، ما یحدث لجسم یخرج من الثقب الأسود (یطلق
علیه في هذه الحال أحیانا الثقب الأبیض).. وبذلك یبدو أننا إذا ما تابعنا انحناء
الزمكان داخل الثقب الأسود یبدو لنا وكأنه ینفتح مرة اخرى على زمكان آخر،
فكأنما الثقب الأسود یربط زمكان كوننا بزمكان مختلف تمام الاختلاف، ربما

زمكان لكون آخر او ربما نفس كوننا، طبقًا لتردد ذلك الثقب الأسود..
اوقفته للحظة لالتقط انفاسي بعد ذلك الكم الهائل من المعلومات، لقد كان اغلبها
معلوم بالنسبة لي، ولكن لم یربط أحد من قبل بین تلك النظریات بتلك الطریقة كما
فعل السید دیمتریف.. لقد القي بي في غیاهب الفیزیاء بدون ان یرمي بطوق النجاه..

سألته في توتر:
 

- حسنًا، لقد فهمت ما رویته لي عن تلك النظریات.. وانا اعلمها بالفعل وان لم أفكر
فیها من قبل بتلك الطریقة، فتلك النظریات اغلبها في طور النظریة التي لم یتم
اثباتها بالتجربة بالفعل.. لم یستطع أحد تولید ثقب اسود او ممر دودي داخل معمله
لنقل المواد من خلاله من مكان لأخر خلال الفراغ.. لذلك اریدك ان تخبرني ما صلة

تلك النظریات بوجودنا هنا في هذا القبو القدیم؟
تحسس السید دیمتریف علبته الممسك بها في حنان، ونظر الیها قلیلاً ثم توجه بنظره
الي، واستطعت ان اري لمعانًا واضحًا في عینیه الزرقاوتین المجهدتین، اجابني

بصوت هادئ:
- لقد اخبرتك من قبل إنني قد مضیت في تجربة تلك النظریات، وانني افنیت نصف
حیاتي في تجربتي العلمیة التي ستغیر علم الفیزیاء الى الابد.. تلك التجربة التي
اثمرت اخیرًا في الشهور الاخیرة.. اخیرًا استطعت تحویل النظریة الى حقیقة..

اخیرًا..
ثم ادار العلبة بتجاهي وفتحها لیكمل كلامه: اخیرًا.. صنعت أول آلة للسفر في

الزمكان.
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

صُعقت من المفاجأة وانا ارمق تلك الاله المعدنیة القابعه في قلب العلبة بین راحتي
السید دیمتریف.. لم اتصور ان تكون آلة الزمن بذلك الصغر، تخیلتها ماكینة كبیرة
ملیئة بالتروس والاذرع المیكانیكیة التي تصدر اصواتًا واضوائًا وضجیجًا ودخانًا..

سألته وقد خرجت الكلمات بصعوبة على لساني:
- هذه هي آلة الزمن؟

 

اجابني بانفعال وقد بدا علیه الضیق:
- لا یوجد ما یسمي بآلة الزمن.. ذلك مصطلح ینم عن جهل مطلق بطبیعه الزمن..
للاسف خرج على لسان الادیب الانجلیزي هـ.ج. ویلز في روایته بنفس الاسم..
الزمن لیس جسمًا ملموسًا لتكون له آلة تحركه.. ما امامك هو مولد للطاقة، یسمح
بإنتاج كمیة كافیة لتولید مجال اشبه بالمجال الكهرومغناطیسي لنفس المجال المتولد
من الممرات الدودیة.. ومن خلال ذلك المولد وبعض الاجهزة الاخرى یمكنني
التحكم في قوة المجال وضعفه والتردد الخاص بموجاته لأستطیع التحكم في منفذه
الاخر.. انها الخطوة الاولي على درب صنع آلة كاملة للانتقال في الفراغ، ومنه
نصل الى اي زمان ومكان نریده بمجرد علمنا بالتردد المطلوب وقوة المجال
وشدته.. كل ما علینا فعله هو ایجاد طریقة للتلاعب بالممرات الدودیة وجعلها طوع

امرنا.. وقتها یمكنني نفي الاراء التي تتنبأ بفشل تلك التجربة تمامًا..
سألته في اهتمام وقد بدأ الموضوع یتحول بالفعل لحقیقة بالنسبة لي:

- هل جربته بالفعل؟ هل انتقلت في المكان او في الزمان؟
اجاب بأسي: للاسف یا جمال.. حتى الان نتائج تجاربي محدوده للغایة.. لم أستطع
ان انقل سوي عملة معدنیة من حجرة الى اخرى خلال زمن قدره ساعتین.. كانت
تجربه فاشلة بمعني الكلمة.. لكني لن أیأس.. سأظل مؤمنًا بعبقریتي.. لقد نقلت تلك

العملة.. وسأنقل ما ارید قریبًا..
اجبته بكل صدق: اوافقك في عدم الیأس.. ولكن اعتقد ان تلك التجربة - خصوصًا
مع تلك النتائج المخیبة - سیكون مصیرها الفشل بالفعل.. لماذا لا تشرك معك اساتذة

القسم في تلك التجربة لعلها تتوج بالنجاح؟
نظر لي في غضب وقال بحدة: كلا.. هولاء الاغبیاء ذوو العقول الفارغة لا
یستحقوا ان یشتركوا في تجربة عظیمة كتجربتي تلك.. لقد ناقشتهم في ذات مرة
واخبرتهم برأیي في تلك النظریات.. سرعان ما ردوا على بالسخریة والاستهزاء
مني كمن سمع مجنونًا یهذي.. وقتها قررت ألا یعلم أحد بتلك التجربة إلا من یستحق

شرف ان یقترن اسمه بها..
ثم أكمل كلامه وقد بدأ یهدأ قلیلاً: وانا اظن أنك لن تخبر احدًا بما رأیته او سمعته..

تلك التجربة ستظل سرًا بیننا.. لیس من مصلحة أحد منا ان یعلم سر تلك التجربة..
ازدردت لعابي قلقًا واجبته: لا تقلق یا سیدي.. اقسم لك إنني لن أخبر احدًا

نظر لي لبرهة.. ثم قال: حسنًا.. لقد قضینا وقتًا طویلاً هنا.. یجدر بنا العودة للمكتب
حتى لا نثیر قلق أحد من الاساتذة.. ثم أكمل: بالمناسبة.. لا تخبر كاترینا أیضًا بما

عرفته.. هل تفهمني؟
اومأت برأسي ایجابًا وتبعته في صمت حتى خرجنا الى باب مكتبه، وودعته

ورحلت الى مكتبي..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

لأ

 

اوقفــت قــراءة المــذكرات مؤقتـًـا لأرتــب افكــاري والتقــط انفاســي.. یا إلــهي..
بعض صــفحات مـن مـذكراتك وعلمـت منـها مـا علمت.. یـا تـري مـا القـادم یـا
جـدي؟ ان الاوراق مـازالت كثـیرة.. وكلمـاتك بحـر لا ینتـهي، اسـبح فیـه بـدون
راحـة.. رحماك یـا االله.. اجبرتني عیناي على النعاس والمذكرات مازالت بین
یداي.. لأري في نومي احلامًا غریبة.. رأیت جدي ینادیني، ثم رأیت نفسي في ذلك
القبو المهجور.. المس الة الزمن.. اشعر بملمسها المعدني البارد واعبث في
اجزاءها جاهلاً ما افعله.. یتغیر المكان والزمان حولي واحلق في بلاد بعیده وازمان

ودهور غابرة..
استیقظت فزعًا في الصباح التالي، لأجد امامي كارثة قد حدثت بینما كنت غارقًا في

نومي الطویل..
تبًا.. تبًا..

∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

9
توقف بي الزمن للحظة، مذكرات جدي ملقاة على المائدة بجانبي، وقد انسكب فوقها
كوب النسكافیة بالكمیة المتبقیة كلها على الاوراق.. یا للهول.. اسرعت لأنقذ ما
یمكن انقاذه.. ولكن هیهات، لقد ارتوت الاوراق حتى یبست.. فحصت ما تبقي من

الاوراق فاكتشفت ضیاع ما یقرب من ثلاث ورقات بسبب تشبعهم بالنسكافیة..
حاولت فصل الاوراق وتجفیفهم جیدًا او معالجتهم مما حدث.. لكن باءت محاولتي
بالفشل.. ضاعت مني ثلاث ورقات قد تحمل في طیاتها اسرارًا اهم مما قرأت..
بقدر امكاني احاول فك شفرة الكلمات المتداخلة مما كتب.. لكن لم أستطع.. یا لها من

بدایة ابدأ بها یوم الجمعه..
نظرت الى ساعتي لأجدها قد قاربت على الحادیة عشرة صباحًا.. اسرعت

للاغتسال والافطار ثم ارتدیت ثیابي وذهبت للمسجد لأداء الصلاة..
دلفت قدماي الى مسجد الخازندارة.. أحد أقدم وأعرق مساجد حي شبرا.. ومنذ ان
خطت قدمي ارضیته البارده حتى تذكرت مجیئي لذلك الجامع في فترة طفولتي،
یصطحبني جدي جمال - رحمه االله - ونسیر في ردهاته الممتدة، ارقب بعیناي
الصغیرتین خشوع المصلین، وادقق في زخارف ابواب فصول التعلیم الدیني
المتناثرة على جوانب ردهات المسجد.. یمسك جدي بیدي في حنان ثم یجلسني
بجانبه على الحصیر الاخضر البالى قلیلاً.. نستمع للخطبه في صمت واستغرق
قلیلاً في ملاحظه نقوش المنبر فیفوتني سماع ما یقوله الامام، انظر لجدي لأسأله
عما فاتني فیبتسم جدي ویطلب مني السكوت وقتها لأنتظر بعد انتهاء الصلاة ثم
نتناقش في مضمون الخطبة، فیعیدها على جدي مرة اخرى وأنصت له في

استمتاع..
ابتسمت في داخلي ثم خطوت لداخل المسجد، اخترت نفس موضع جلوسي قدیمًا،
افترشت الارض في سعاده وكأني عشیق عاد لمعشوقته.. خطا الامام في وقار

درجات المنبر، ثم بدأ خطبته..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

بعد انتهائي من صلاة الجمعة، عدت الى منزل جدي حاملاً بعض المشتروات، وقد
انتابني الاجهاد عقلیًا وبدنیًا.. اغلب طریقي من المسجد للبیت قضیته في التفكیر فیما
قرأت البارحة، وینتابني التشوق لمعرفة ما حدث بعدها.. لم انتظر طویلاً لأعرف،
وصلت الى البیت في سرعه.. تركت ما اشتریته في الصالة ودخلت مباشرة الى
المكتب.. امسكت بالأوراق واكملت قرائتها محاولاً استدراك ما حدث في الورقات

الثلاث..
في نهایة شهرنا الثاني من التجارب، اعاد السید دیمتریف اخباري بشكوكه كالعاده،
وظللت انا غیر قادر على تصدیقه بالكامل.. ظننته مصابًا بقلق زائد او قد تأثر

 

بالقبضة الحدیدیة لسلطة المخابرات السوفیتیة انذاك، ولكن في الیوم التالى قطعت
الشك بالیقین وتأكدت من صحة ما قاله..

هرعت الى مكتب السید دیمتریف لأخبره بما سمعت.. طرقت الباب في عجل
فأتاني الرد من الداخل بالایجاب.. دلفت بسرعه ثم اغلقت وراءي الباب.. اخبرته
بما سمعت من حدیث بین اثنین من اعضاء هیئة التدریس بالجامعه عن مراقبة

المخابرات للسید دیمتریف والتشكك بأمره..
رد على في خوف: لقد اخبرتك منذ بدأت تجاربنا في الشهور السابقة ولم تصدقني..
حسنًا.. لقد سبق السیف العزل.. یجب ان نبدأ بمحاولة اخفاء ما یدل على تجربتنا

السریة.. هلا ساعدتني الآن؟
بدأنا في تقطیع وحرق بعض الاوراق المتعلقة بالتجربة ولكنها لم تكن ذات اهمیة،
وتأكدنا من حصولي على نسخة مصغرة من الاوراق الاساسیة لأطروحة البحث..
ثم هرعنا الى القبو لنقل المعدات، وظللنا في تلك التحركات حتى حلّ علینا اللیل
البارد.. امرني السید دیمتریف بالعودة الى كاترینا ومساعدتها في رعایة زینب
بشكل عادي وكأننا لا ندري شیئًا بخصوص المخابرات.. سألته عما سیفعله،
اخبرني بضرورة بقائه في مكتبه لإنشغاله بأمور إداریة، ولكنه حاول ان یبدو
مطمئنًا خاصةً انه الآن لا توجد أي ادلة تثبت تجربته السریة.. لم اقتنع بمحاولته
ودعوت االله سرًا ان ینقذنا من اهوال الوقوع في قبضة مخابرات الـ كي.جي. بي

السوفیتیة..
عدت الى كاترینا والقلق یبدو على محیاي.. ظهر التساؤل علیها ولكنني طمأنتها
واخبرتها انه مجرد ارهاق بسبب العمل لیس أكثر.. اضطجعت بجانبها وبجانب
زینب على فراش غرفتنا محاولاً النوم.. وقتها جاء النوم بعد ارق متواصل طوال

تلك اللیلة السوداء..
استیقظت صباحًا على بكاء كاترینا، استبد بي القلق، سألتها عما یبكیها، اخبرتني ان
والدها قم تم القاء القبض علیه أمس لیلاً بواسطة رجال المخابرات السوفیتیة.. مادة

الارض بي من الصدمة.. لقد فعلوها!!
اتجهت الى الجامعه، ولم أستطع ان اسأل عما حدث حتى لا یتم الاشتباه بي، هكذا
امرني السید دیمتریف في حالة حدوث ما حدث، ولكني بطریقتي جمعت اجزاءًا من

احداث الامس وكوّنت منها الصورة الكاملة..
لقد اقتحم الجنود مكتب السید دیمتریف واقتادوه بكل قسوة الى سیارة الامن.. بعدما
قاموا بتفتیش مكتبه بكل عنف ووحشیة، واستطاعوا العثور على مولد الطاقة بالفعل
ومعه بعض الاوراق التي توضح التجربة.. لماذا لم تحرق ما تبقي یا سید
دیمتریف.. ها انت الآن قد صرت في قبضتهم وسیقتادوك الى معتقل سیبریا
الدامي، حیث یتم إلقائك في غیاهب السجن وتُعامل كالدواب بل اقل منها.. لك االله یا

سید دیمتریف.. سأفتقدك بالفعل..

أ

 

كــانت تلــك ســنتي الاخــیرة فــي الاتحــاد الســوفیتي، وســألوني وقتــها مــا إذا
رغبــت فــي الاســتمرار بــالعمل فــي الاتحــاد كأســتاذا بجامعــه موســكو
الوطنیــة او جامعــه ســان بیترســبرج ام اعــود الى بلـدي مصـر حـاملاً شـهاده
البكـالوریوس فـي مجـال الفیزیاء.. بالطبع اخترت العودة الى ارض الوطن.. لم یعد
لي ما یبقیني في الاتحاد بعد ما حدث للسید دیمتریف.. كما كان یجب ان اهرب من
قبضتهم، وان ابعدهم عما احمل من نواة لتجربة السید دیمتریف التي یعلم االله وحده

كیف صارت وكیف ستنتهي..
عدت الى مصر سالمًا حاملاً شهادتي وشنطتي وابنتي وبجانبي كاترینا زوجتي
العزیزة.. بعد حادثة والدها المفجعه وعلمها بوفاته في المعتقل بسبب ضعفه وعدم
تحمله للتعذیب المستمر هناك.. لم تعد ترغب في الحیاة بالاتحاد مرة اخرى..

واخبرتني برغبتها في العودة معي الى مصر والاستقرار بها بصورة نهائیة..
عدت الى مصر لتبدأ مرحلة جدیدة من حیاتي.. صرت فیها استاذا جامعیًا في جامعه
القاهرة، احصل على مرتب یكفیني قلیلاً ولكني لا ابالى بتلك المظاهر.. یكفیني

رضا والدتي ووجود عائلتي بجانبي..
انشغلت في دوامة الحیاة.. وقبعت اوراق السید دیمتریف في درج مكتبي لسنوات
عدیدة.. نضجت ابنتي زینب وصارت شابة جمیلة ورثت البشرة البیضاء والعیون
الزرقاء من والدتها، والذكاء والروح المصریة من والدها.. كانت كالملاك -رحمها
االله في شكلها وتعاملها مع من حولها.. حمدت ربي على هبته الغالیة.. واستطعت ان
اعلمها واربیها خیر تربیة وخیر تعلیم.. حتى حصلت على مجموع متمیز في
الشهاده الثانویة الحقها بكلیة الهندسة.. وظلت على تفوقها خلال سنوات الدراسة..
وفي السنة الثالثة اخبرتني زینب انها تكن مشاعر خاصة لأحد زملائها في الكلیه..
وانه طلب منها الزواج.. سعدت بذلك الخبر جدًا واخبرتها بموافقتي المبدئیة.. جاء
الفتي في موعده حسبما اتفقنا.. ومن الجلسة الأولي استبشرت به خیرًا وعلمت منه
مستوي ثقافته وتعرفت منه على سمعه اسرته.. ثم سألته في النهایة عن مستواه
المادي.. فأنا لا اهتم بالماده كثیرًا بقدر ما اهتم بمن امامي.. اخلاقه.. افكاره..
معاملته للناس.. اخبرته بموافقتي على زواجه من ابنتي.. علمت بعد ذلك انه اتخذ
قرار زواجه بدون موافقة عائلته بسبب الفرق بین المستوي المادي للاسرتین.. وانه
استطاع في النهایة ارغامهم على الموافقة لعدم اقتناعه بوجهه نظرهم ولمدي عشقه

لإبنتي..
باركت زواجهم وكانت لیلة الفرح من أجمل ایام حیاتي.. حیث رأیت ابنتي تُزف
الى زوجها، وانهمرت الدموع من عیني زوجتي، ضاحكتها وقتها وسألتها عن سبب

بكائها لتجدني أبكي انا الاخر فامتزجت ضحكاتنا ودموعنا..
انتقلت زینب لمنزل زوجها القریب من منزلنا، فعاد منزل اسرتنا خالیا.. لا یجمع
بداخله سواي انا و كاترینا.. مرت حیاتنا هادئة یقطعها زیارات زینب وزوجها عبد

الرحمن الاسبوعیة، حاملین معهم البهجة والسعاده لمنزلنا الدافئ..

 

بعد سنة من زواج زینب.. اكتشفت كاترینا ورمًا بثدیها.. ذهبنا لإجراء الفحوصات
الطبیة.. وجاءت النتیجة للاسف بتأكید وجود ورمًا سرطانیًا في مرحلة متأخرة في
الثدي الایمن.. حلّ الحزن والهم على بیتنا، وبدأت كاترینا في جلسات العلاج
الكیماوي لمدة ستة أشهر، ثم انتقلت الى الرفیق الاعلى بعدها تاركةً ایاي وحیدًا

ببیتنا الذي كان دافئًا في فترة من فترات العمر..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

وكما یُقال.. المصائب لا تأتي فرادي.. توفت والدتك زینب بعدها بعام ونصف اثناء
ولادتك.. لم اهنأ برؤیتك كثیرًا فلقد اخذك والدك في كنفه بإیعاز من والدته مستغلاً
حقه القانوني في رعایتك.. ولم یكف عمك كمال - سامحه االله - عن بث سمومه في
ذهن والدك ومحاولة إبعاده وإبعادك عني.. حتى رضخ لضغوط اسرته وانقطع عن
رؤیتي او زیارتي.. وقتها انكببت على عملي ودراستي.. وبدأت في تكوین مكتبتي
وكانت بالفعل تلك المكتبة هي خیر جلیس لي في تلك السنوات المظلمة من عمري..
بعدما توفي والدك وزوجته في حادثة السیارة.. رغبت في ضمك الي.. لن اضیع
فرصة وجودك معي لمرة ثانیة.. وبعد مناقشات دامت لمده سنة بیني وبین عمك
كمال.. ساندني فیها صدیقي العزیز المحامي عبد االله هلال.. استطعت ان أقنعه
بتربیتي لك حتى تبلغ سن الرشد على الاقل.. وافق على مضض وقتها وظل یهددني

بالویل في حالة عدم الوفاء بوعدي له..
انتقلت لتسكن معي، وكانت أفضل سنوات عمري تلك التي قضیتها معي، فكانت
خیر تعویض من االله لي عما قاسیته وعانیته في سنوات عمري الماضیة.. استطعت
ان انشئك التنشئة السلیمة القویمة كالتي انشئت والدتك - رحمها االله - علیها.. وكنت

انت الزهرة التي اورقت بین جدران بیتي الذي افتقد للدفء منذ سنوات..
اتذكر استماعنا للموسیقي الكلاسیكیة التي اعشقها والتي استطعت ان اسقیك عشقها
ایضًا، وابداء اعجابك بمكتبتي الزاخرة بشتي انواع الكتب القیمة.. اتذكر اصطحابي
لك للمسجد، ورحلاتنا العدیدة في انحاء مصرنا الغالیة.. استطعت ان اري فیك
نفسي التي غابت عني لعقود طویلة.. تذكرت فیك طفولتي السعیده مع والدي
الحبیب.. لقد كنت یا أدهم أفضل هدیة اهداني ایاها االله.. وكم احمد االله على وجودك

معي تلك الفترة..
ولكن یبدو ان حیاتي قد اعتادت على فترات السواد أكثر من اللازم، حتى صارت
تشتاق الى الحزن بعد اي فرح یصیبني.. فلقد مرّ الوقت بسرعه وقد صرت فتیًا في
مقتبل الشباب وقد حان اوان الوفاء بالعهد.. شقّ على ذلك.. بعدما رأیتك تنمو امامي
كل تلك السنوات وتتفتح ورودك وتنشر عطرها في ارجاء حیاتي.. ها قد اتي منجل
القدر لیقطفك مني.. وقتها اتذكر كم رجوت عمك ان یطیل بقاءك معي او ان یتركك
لي.. لم أجد منه الا القسوة في المعاملة وعدم الاحترام لفارق السن على الاقل..
فأهانني واعتدي على باللفظ والفعل، واتهمني بالخرف والجنون.. وبدأ تحركاته
القانونیة لضمك الیه نهائیًا.. واستطاع بواسطة عصابته من المحامین ان ینتزعك
مني بالفعل مع تعهد بعدم الاقتراب منك الى الابد.. كم احزنني ما آل الیه الوضع

أ

 

وقتها.. لم انس دموعك التي ذرفتها في ذلك الیوم.. ووعدك لي بالعودة في أقرب
فرصة.. كان ذلك الیوم ختامًا شدید السوء لفترة من أجمل فترات عمري..

ظللت لفترة في عدم توازن.. لم أستطع الافاقة من صدمة فقدانك.. وفي یوم من
الایام كنت جالسًا كالعادة بمكتبي، واثناء مطالعتي كتابًا من كتبي.. انتابني بعض من
الشرود.. تذكرت جملة قیلت لي من سنین عدیدة.. في ارض بعیده عن ارضنا..
تذكرت اجتماعي بالسید دیمتریف في ذلك القبو المهجور ذي الاضاءة الخافتة..

ترددت كلماته في اركان عقلي وكأنني اسمعها الآن..
.. ذلك السر سوف یغیر من حیاتك الى الابد.. وانت الوحید الذي اراه جدیرًا بأن
یعلمه معي.. وان تحمل الرایة من بعدي إذا توفیت.. فهل ستثبت لي جدارتك بالفعل؟
امتدت یدي لا شعوریًا الى درج مكتبي الذي تراكم علیه التراب لسنوات.. اولجت
المفتاح في قفله وادرته لأجد امامي الاوراق الاولي لبحث السید دیمتریف.. ترددت
كلماته في ذهني.. لتتكون بدایات فكرة جنونیة في اعماق عقلي.. فكرة لم اعلم انها
ستغیر حیاتي الى الابد بالفعل.. سوف أكمل تلك التجربة.. سوف اصنع بنفسي أدلة

الزمن..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

10
توقفت لبرهة محاولاً فهم ما قرأته، وبالرغم من إعادتي لقراءة تلك الفقرة الاخیرة،
إلا أنني اصابني الذهول بالفعل.. یا تري هل استطاع جدي فعلها؟؟ امسكت بالورقة

التالیة لها وبدأت في استكمال القراءة..
نظرت لأوراق السید دیمتریف وقد انتابني الحنین لتلك الایام، وقت ان كنت مساعدًا
له في تجربته المذهلة، تذكرت اعدادنا و نقلنا للأدوات في سریة خوفًا من افتضاح
امرنا بواسطة رجال المخابرات السوفیتیة.. وهذا ما حدث في النهایة للاسف.. تُري
هل ندم السید دیمتریف على تجربته تلك؟ هل أخبرهم بطریقة عمل الالة؟ ان
الروس لیسوا بالأغبیاء.. وعلماؤهم قادرون على فك شفرة الآلة.. ولكن تجربة
السید دیمتریف لم تكن بالتجربة العادیة.. لقد كانت أعظم تجارب العلم في العصر

الحدیث.. لا اعتقد ان لأحد الامكانیة ان یفك سر تلك الآلة.. اأمل ذلك..
امسكت بأوراق السید دیمتریف.. تحسست غلافها السمیك.. ثم قرأت اول ورقة..
دمعت عیناي عند قرائتي لكلماته المسجلة بخطه الممیز، رحمك االله یا سیدي.. لقد
قتلك المعذبون نتیجةً لعلمك وعبقریتك.. یا لهم من اغبیاء.. انهم بالفعل لا یستحقون

وجودك بینهم على نفس الارض..
التهمت عیناي تلك الاوراق التهامًا، وبعد كل ورقة انتهي من قرائتها، ازدادت فكرة
صنع الالة جموحًا.. انني واثق من قدرتي على صنعها.. فتلك الاوراق توضح
بعنایة الافكار الاساسیة للتجربة، بل وتضع عدید من الاطروحات العلمیة مع
الحلول المناسبة لها.. وبالاضافة لخبرتي المكتسبة من فترة مساعدتي للسید
دیمتریف بإمكاني ان أكمل ما بدأه وان أصل للمرحلة التي وصل الیها سیدي
دیمتریف.. كما أنني الآن قد تقدم بي الزمن وبالتأكید فإن التطور الحالى في الفیزیاء

یرجح كفتي كثیرًا عن حالة الفیزیاء وقت ان قام السید دیمتریف بإختراع الآلة..
بعد حوالى سبع ساعات متواصلة من قراءة تلك الاوراق وتفنیدها، تمكنت اخیرًا
من انهائها.. وضعتها أمامي على مكتبي، وظللت لدقائق أحدق بها شاردًا.. اثق
بقدرتي فعلاً على صنع الآلة.. بل وتطویرها.. لكن كیف أستطیع ذلك بمواردي
المحدودة؟ ستكلفني تلك الفكرة الكثیر والكثیر من الاموال.. تذكرت وجود بعض
الاراضي الزراعیة المملوكة لوالدي رحمه االله.. والتي كانت تدر ریعًا شهریًا
مقبولاً.. قررت ان ابیع تلك الاراضي لتوفیر المال اللازم لتجربتي.. اسرعت
للهاتف.. وبالرغم من تأخر الوقت.. استطعت التحدث مع أحد اقاربي من سكان
قریتنا اعلمه انني قررت بیع الارض فورًا وان یبحث عن اعلى سعر للشراء..

وعدني بمعاودة الاتصال بي بعد ایام لیعلمني بنتیجة ذلك..
اغلقت الهاتف وقد انتابني التوتر.. سوف افعلها.. لقد بدأت العجلة في الدوران..

∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

جاءني الرد بعد ثلاثة ایام، واخبرني قریبي وقتها بالسعر المطلوب.. وجدت السعر
مناسبًا بالفعل، بل إنه أكثر من مناسب.. وافقت بلا تردد.. وذهبت في الیوم التالى
لأنهي الاجراءات المطلوبة و استلم النقود.. بعد ان انتهیت من كل ذلك.. امسكت

بالنقود في سعاده.. لقد صار الحلم حقیقة..
عُدت الى منزلي.. سوف یصیر معملي وصومعتي الآن.. بدأت في الایام التالیة
التجهیز للتجربة.. استطعت احضار بعض المعدات والاجهزة اللازمة.. وقمت

بتركیبها وتوصیلها للبدء بلا توقف..
استطعت بعد حوالى عشرة ایام ان انتهي من اعداد المعمل.. الآن یمكنني ان ابدأ..
اتجهت للأوراق الموضوعه على مكتبي.. وامسكت بها بكل حماس.. ذهبت لناحیة
السبورة السوداء التي وضعتها على الحائط لإستعمالها في كتابة المعادلات

وتحضیرها.. خططت البسملة.. ثم بدأت في كتابة المعادلات..
ســطرًا بعــد ســطر.. ازداد احتــرامي للســید دیمتریف.. لقــد اســتطاع ذلــك
العــالم الفــذ فعــلاً ان یســتنتج المعــادلات الصــحیحة لتلــك التجربـة.. لقد سـارت
التجربـة بنجـاح شـدید.. وخـلال عـامین مـن الكـد والعمـل الشـاق والانـعزال عـن
العـالم مـن حولي.. استطعت ان اخترع جهازًا اولیًا یسمح بتطویره بعد ذلك لآلة
النقل في الزمكان.. مازلت مقتنعًا بجمله السید دیمتریف.. كلمة آلة الزمن تعبیر

خاطئ وجاهل علمیًا.. نحن علماء لا یمكننا ان نقع في تلك الهفوة..
امكنني تجربه الجهاز لأول مرة بعدها بأسبوع.. اعددت المكان جیدًا.. ووضعت
قطعه من الورق الصغیرة امام الجهاز، قمت بضبط اعدادات النقل والاحداثیات..
ووضعت المكان النهائي لها على بعد مترین من الجهاز.. بدأت في تشغیل الجهاز
وبدأ بالفعل في تولید الطاقة.. توهجت الورقة بشدة.. وبدأت في التذبذب قلیلاً.. ثم

فجأة.. اشتعلت..
اسرعت لإطفائها خوفًا من ان تمتد النار لباقي المواد من حولها.. تحولت الورقة الى

رماد اسود.. وتحولت انا معها لكتلة من الغضب والقلق..
لــم ادرِ ســبب فشــل التجربــة.. لقد قمــت بالإعــداد جیــدًا لــها، وجمــیع
المعــادلات تؤكــد صــحة التجربــة.. بل أن الســید دیمتــریف فــي مرحلــة ســابقة
امكنــه نقـل عملـة معـدنیة.. انتابني الیـأس قلـیلاً وفكـرت فـي تـرك التجربـة
بـالكامل لاعنًـا غبـائي وجهلي.. كیف استطعت ان اقارن نفسي بأستاذي السید
دیمتریف؟ وكیف تصورت انه بإمكاني صنع الة الزمن تلك؟؟ لم ابالِ بتعریفها الان
سواء كانت الة زمن او إله نقل في الزمكان او حتى الة لصنع الكعك.. في النهایة لقد
فشلت في صنعها.. انتابتني تلك الحالة لحوالى اسبوع.. ثم حاولت بعدها تجمیع

شتات نفسي وتذكر نصائح والدي والسید دیمتریف..
لا تیأس..

ان فشلت.. حاول كثیرًا حتى تصل لما ترید..
ان كان النجاح سهلاً، لنال الجمیع ما یصبو الیه..

أ

 

ثق باالله، وبقدرتك، وابدأ من جدید..
تذكرت تلك الكلمات، واقنعت نفسي بها جیدًا.. عدت مرة اخرى للبدء في التجربة،
قمت بإعادة كل المعادلات املاً في التوصل لنتائج جدیدة، استطعت بعد شهر ان
أدرك خطأ التجربة.. لقد كان السبب هو إهمالى لبعض العوامل الجانبیة المؤثرة
على المجال المحیط، وبالرغم من تفاهة تلك العوامل - من وجهه نظري - لكنها

كانت سببًا في فشل التجربة لأول مرة..
قمت بإعداد التجربة للمرة الثانیة، وتأكدت من صحة كل تلك الاعدادات.. اتجهت
لآلة التولید.. وبدأت في وضع قطعه الورق امام الجهاز، اتجهت للوحة الارقام

وضغطت التردد المناسب، بدأت الورقة في التوهج قلیلاً، ثم بدأت مرحلة الذبذبة..
كاد قلبي ان یتوقف هلعًا من النتیجة، انني الان بالمرحلة الحرجة التي یبدأ فیها
الجسم ان ینتقل عبر ممرات دودیة مجهریة لا تُري، تتجمع سویة لصنع ممرًا دودیًا

أكبر یمكنه نقل الجسم من مكان لأخر.. بدأت الورقة في التقلص.. انها تنتقل!!
اسرعت الى مكان وصول الورقة، وقد بدأت اجزاء من الورقة في الظهور.. لقد
نجحت التجربة.. انها تنتقل.. كدت أطلق صرخة فرح عارمة.. عندما انقطع المولد

عن العمل.. لتنطلق الصرخة بالفعل ولكنها محملة بغضب لا نهائي..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

اذن لقد كان نقص الطاقة هو السبب في انقطاع عملیه النقل.. لا مشكلة.. بدأت في
البحث عن مصدر طاقة أكثر قوة من مولد الجازولین البدائي ذلك.. وقتها كانت
المولدات الكهربیة القویة باهظة الثمن قلیلاً بالنسبة لمیزانیتي المحدودة.. حاولت في
تلك الفترة ان استفسر عن ذلك النوع من المولدات.. حتى عثرت بالصدفة عن مولد
مستعمل لدي عالم زمیل لي في الجامعه، رجیته ان یعیرني إیاه فوافق بعد تردد
وعدم اقتناع.. بعدها بثلاثة اسابیع.. توفي ذلك الزمیل، ذهبت الى عزائه بصحبة
لفیف من الزملاء لتقدیم الواجب.. بعد ان انتهي العزاء انتحیت جانبًا بأخ الفقید

وحادثته في موضوع المولد الذي استعرته من اخیه المرحوم..
اجابني بكل عصبیة: مولد ایه؟ خلاص یا استاذ.. مش عاوزین حاجة من الفیزیا
دي.. مش كفایة انها كانت السبب في موت أخویا؟ هو اللي جراله دا كان بسبب ایه؟

بسبب تعبه ونرفزته من الشغل في الفیزیا.. واهو دا اللي اخدناه منها..
وأكمل كلامه بالسب واللعن للفیزیاء والفیزیائیین منذ اول التاریخ وحتى الان..
هممت بالرحیل قبل ان تنالني لعناته شخصیًا.. حمدت االله على جهل بعض الناس..
وكما یقول المثل مصائب قوم عند قوم فوائد.. لقد استطعت الاحتفاظ بالمولد بالرغم
من الحاحي الشدید على عائلة المرحوم.. لقد كان ذلك توفیقًا إلهیًا صرفًا.. فلولا

المولد ما كنت استطعت إكمال تلك التجربة.. حمدًا الله..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

أ

 

عدت الى المنزل وكلي تشوق لإكمال التجربة.. اعددت المولد جیدًا وتأكدت من
توفر الطاقة اللازمة للتجربة، اعدت ضبط الاعدادات للمرة الثالثة، ولكني في تلك
المرة كنت متأكدًا من نجاح التجربة - بإذن االله - وضغطت على زر البدء.. هدرت
الآلــة بــادءةً صــنع الممــرات الــدودیة اللازمــة للنقــل، وتــابعت بشــغف تفتــت
الورقــة وبــدء نقلــها، انتقلــت الى الموضــع الآخــر، وامــامي تتكــون الورقـة
بـالفعل، اسـتمرت تلـك العملیـة حوالى عشـر دقـائق كاملـة، حتى اعلنـت شـاشة

الجـهاز انتـهاء النقل.. نظرت الى الورقة بذهول.. أفعلتها حقًا؟؟
امسكت بالورقة بین اناملي وتأملتها كمن یتأمل عشیقته.. انها هي بالفعل.. بنفس

ملمسها واطرافها الحادة.. لقد نجحت التجربة بالفعل!!
سجدت الله ركعتي شكر، لقد فعلتها.. اكملت تجربة السید دیمتریف بنجاح، بل إنني
وصلت لنتائج تفوق تلك النتائج التي وصل هو الیها.. كافئت نفسي براحة لمدة
اسبوع استمتع فیها بزیارة الحدائق من حولي، لقد انعزلت تلك الفترة السابقة عن أي
مظهر من مظاهر البشر، كنت كالراهب في صومعته، تاركًا العالم من حولي في
صراعاته ومشكلاته التي لا تُحل، استطعت انجاز ما لم ینجزه بشر من قبل.. اخذت
اتطلع لوجوه الناس من حولي، سألت نفسي ماذا سیكون رد فعلهم إذا امتلكوا
الوسیلة للسفر في الزمن؟ هل یمكن تصحیح اخطاء الماضي؟ وهل إذا أصلحوها..
ما هي النتیجة؟ هل نضمن عدم تكرار تلك الاخطاء؟ كم من قرارٍ اتخذناه وندمنا بعد
ذلك؟ كم من شخصًا فقدناه.. ونأمل ان نراه او نلمسه لثواني معدودة مرة اخرى؟
عندما جال ببالى ذلك الخاطر تذكرت احبابي الذین فقدتهم.. تذكرت ابي رحمه االله..
وابي الروحي السید دیمتریف.. مرورًا بأمي الحبیبة.. كاترینا حبیبة عمري.. ثم

زینب.. تلك الزهرة التي أنعشت حیاتي بعبیرها..
تأملت الوجوه السعیده لأفراد اسرة مكونة من اربعه افراد مرت بجانبي وقتها..
تذكرتك یا أدهم وقتها.. وتذكرت وقتها لأول مرة انني صرت بالفعل وحیدًا.. بعیدًا
عن تجربتي ومكتبتي وانشغالى بعملي.. انا وحید.. لیس لدي من اعوله او من یهتم
بوجودي.. بل إنني إذا توفیت بشقتي.. فمن الاكید انه لن یعلم أحد بموتي إلا إذا

فاحت رائحة جثتي..
انزعجــت مــن ذلــك الخــاطر.. وحــاولت ابعــاد تلـك الافكـار السـوداء عـن
رأسـي.. وانشـغلت ببعـض الافكـار الفلسـفیة التـي ناقشـني فیـها السـید دیمتـریف
فـي مـرة مـن المـرات بخصـوص موضـوع السـفر فـي الزمن.. وقتـها اتـذكر
حـواري معـه فـي ذلـك القبو.. سألني عما سأفعله ان امتلكت القدرة على السفر في

الزمن.. اجبته حینها:
- سوف اعود للماضي بالطبع لأغیر اخطاء التاریخ.. سوف احاول الغاء الحروب

والكوارث لأنقذ الملایین من ضحایا تلك الحروب..
ابتسم السید دیمتریف، وقال: أنك تملك قلب ملاك یا عزیزي جمال.. نوایاك سلیمة..
ولكن للاسف لا یمكننا المخاطرة بذلك.. من القواعد الرئیسیة التي یجب ان تعلمها
انه لا یجب علیك بأي حال من الاحوال ان تؤثر على مجري الزمن بأي تغییر..

أ

 

اكتفي بالمشاهده فقط.. یكفي وجودك في زمن مغایرعن زمننا.. أي تغییر زائد في
الماضي یمكنه أن یلقي بظلاله على الحاضر..

تنهد في أسي ثم أكمل: تخیل لو أنك تسببت بدون قصد في مقتل أحد اجدادك.. او
منعت مقابلة بین جدك ومن ستكون زوجته بعد ذلك.. أنك تهدد وجودك ذات نفسه..
حینها ستختفي فورًا من الوجود.. وكذلك بالنسبة لأي شخص اخر في العالم.. بما
یحمل من تأثیر على التاریخ.. تخیل لو أنك اذیت من سیكون والدًا لقائدًا عظیمًا فیما

بعد.. للزمن قواعد خطیرة لا یمكن التهاون بها.. وإلا حدث مالا یُحمد عقباه..
وقتــها تنبــهت بــالفعل لتلــك القاعــده الخطــیرة.. ومـع مـرور الایـام تعلمـت
اكثـر واكثـر عـن قواعـد الزمـن.. وتناقشـت مـع السـید دیمتـریف عـن العـدید مـن
اشـكالیات السـفر فـي الزمن.. اجـابني وقتـها بجملـه رائعـه ظلـت فـي بـالى دائمًـا

وقـت عملـي بالتجربة.. قال:
كل من یشكك بنظریاته في موضوع السفر في الزمكان.. اعتمد في كلامه على
النظریة فقط.. لم یحاول تجربة تلك النظریة على ارض الواقع.. العلماء یتفلسفون
احیانًا.. بینما هم أجدر الناس بالتجربة، وها نحن على ارض الواقع نثبت انه یمكننا

ذلك إذا جربنا واستمررنا في تجاربنا حتى نصل..
منحتني جملته تلك الدفعه المعنویة اللازمة لإكمال ابحاثنا في تلك التجربة.. حتى
حدث ما حدث وانتهي كل شئ.. ولكنني الآن بما وصلت له من تقدم.. قادر على
صنع الفرق.. قادر على الوصول لأبعد مما وصل له السید دیمتریف.. یا له من

شرف.. ویا له من فخر!!
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

قطع قرائتي للمذكرات صوت رنین هاتفي المحمول.. وضعت الاوراق بعنایة في
الصندوق وقمت للرد على الهاتف.. فإذا به صدیقي صبحي.. تلهفت للرد علیه..

- ألو.. ایوا یا صبحي
- ألو.. ازیك یا أدهم عامل ایه

- تمام الحمد الله.. هاه.. طمني كده ایه الاخبار؟
 

- الاخبار تمام.. الحمد الله انا كویس..
اجبته بسخریة: یابني وانا مالى بأخبارك.. انا اقصد اخبار موضوع الاثار ایه؟؟

الدكتور قاللك ایه؟
-اااااااه.. الاثار.. لأ انا لازم اقابلك علشان اقولك..

اثار ذلك حنقي.. سألته عن السبب.. اجابني انه یرغب في جعل السبب سریًا.. لم
أكن في بال یسمح لي بمزید من الاسرار.. استمر في اصراره وطلب مني موافاته
لإحدي المقاهي التي طالما اجتمعنا علیها قدیمًا في فترة المراهقة.. وافقت على طلبه

 

بنفاد صبر.. وذهبت لغرفة جدي لإرتداء ملابسي والنزول الى صبحي.. اثناء
مروري في الصالة نظرت الى صندوق المذكرات على مكتب جدي.. انتابني مزید
من الشوق لمعرفة ماذا حدث بعد ما قرأت.. ولكنني صبرت نفسي بالامل في سرعه
العودة وألا اضیع وقتًا مع صبحي.. سوف اعلم منه ما یرید اخباري به ثم اعود
فورًا لمكتب جدي.. نظرت نظرة اخیرة للمكتب ثم اغلق باب المنزل وذهبت الى

صبحي..
اتجهت الى ناصیة الشارع المقام به ذلك المقهي القدیم.. وجدت صبحي منتظرًا على
بعد أمتار من المقهي.. اتجه الى في عجل.. وطلب مني اغلاق عیني.. لم احتمل تلك
التصرفات الطفولیة.. ألحّ على كعادته.. اضطررت لإغلاق عیني والرضوخ له
آملاً في الانتهاء من ذلك السخف.. امسك بیدي وارشدني للمقهي.. ثم طلب مني ان

انظر امامي.. یا إلهي.. لم اصدق ما اراه امامي.. كانت مفاجأة بالفعل!!
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

11
سربراااااااااایز!!

قالوها بكل سعاده.. لأرد علیهم انا بكل دهشة:
یا ولاد الـ….

كانت بالفعل مفاجأة غیر متوقعه على الاطلاق.. لقد تمكن صبحي بطریقة ما ان
یجمع اصدقاء الطفولة مرة اخرى.. احمد یاسین.. خالد عبد الرحیم.. شریف

البهنساوي.. یوسف مدكور.. جمیعهم امامي وعیونهم تنبض بالفرحة والانفعال..
انطلقت نحوهم وكأنني اسابق الریاح.. احتضنوني واحدًا تلو الاخر بكل شوق
ولهفة، دمعت عیوننا جمیعًا غیر مصدقین ما نراه، بعد ما یقرب من عشر سنوات
من الفراق.. ها نحن نجتمع مرة اخرى.. اختلفت هیئاتنا قلیلاً.. نضجنا وصرنا
رجالاً ولكن لم تتغیر شخصیاتنا ولا عقولنا.. ما زلنا نحمل في قلوبنا روح

المراهقین الشغوفة الثائرة..
بعد فاصل طویل من الاحضان والقبلات وتبادل السلام الحار.. ارتمي كل منا على
كرسیه في ارهاق.. كانت شدة اللقاء فوق قدرتنا على التحمل.. انني احلم.. بالتأكید
انا في حلم.. حلم جمیل.. اصدقائي الاعزاء امامي الآن.. كم من أحادیث ارغب في
مناقشتها معهم.. وكم من ذكریات نتذكرها.. اتذكر اجتماعنا في الفصل في المرحلة
الاعدادیة.. كنا شلة واحده.. یعلمنا جمیع معلمین المدرسة بالاسم.. كنا بالفعل طلبة
مشاغبین.. ولكننا ایضًا كنا ممن ینالون الدرجات النهائیة في اغلــب المواد.. كنــا
لــغزًا كبــیرًا فــي عقــول المعلمــین.. ومــن لــم یأبــه منــهم بنــا، اقتنــع ان
الغــش هــو الســبب فــي تفوقنـا.. لا یمكننـي انكـار اننـا كنـا نغـش معًـا قلیلاً..
كعـادة اغلـب الطـلاب فـي اي مكـان على سـطح الارض.. لكننـا بـالفعل كنـا
متفوقـین دراسیًا.. انعم االله علینا بعقول متوهجة.. استعملناها في الشغب وفي
الدراسة ایضًا.. لذلك استمر تفوقنا واستمرت شهرتنا طوال فترة الاعدادیة ثم
الثانویة بعدها.. فرقت بیننا لجان الامتحانات بسبب اختلاف الحروف الاولي من

اسمائنا.. ولكن لم یمنعنا ذلك من ان تستمر صداقتنا داخل وخارج المدرسة..
اتذكر لهونا ولعبنا لكرة القدم بشوارع شبرا المتفرعه.. شهدت تلك الشوارع
مهاراتنا المتنوعه.. بدءًا بمراوغه الكرة ثم اللاعبین ثم اصحاب المحال التي تنالها
ركلاتنا الفائقة للكرة.. كنا شیاطین في هیئة عدة مراهقین.. وإن كنت لا اري فرق

بین الشیاطین والمراهقین..
اتذكر تناولنا للشطائر في محلات شارع شبرا المحبب والاثیر الى قلبي دائمًا..
اتذكر تجولنا في دوران شبرا مستمعین بتناول المثلجات في صیف اغسطس
المشتعل بینما یسیر بجانبنا المواطنین الغارقین في بحور العرق وتحترق حلوقهم

بنیران الظمأ..

 

اتذكر حبي الاول.. تلك الفتاة في مدرسة البنات المجاورة لمدرستنا.. انتظر
خروجها من مدرستها لأراها.. وبكل براءة امر بجانبها لعل سهم كیوبید یصیبها
فتراني.. ولكن للاسف ظل ذلك الحب مخبئًا في قلبي حتى مرت السنین وتباعدت
المسافات فظلت تلك الفتاة في جزء متوارٍ من ذاكرتي.. یا تري این هي الآن؟ وماذا
صارت؟ وهل تزوجت ام ما زالت عزباء؟ انني حتى لم اعلم اسمها او این تسكن..
لقد كانت مشاعرنا جمیعًا في قمة البراءة في تلك الفترة.. حتى صرنا شبابًا وانزاح

غطاء البراءة عن عیوننا فرأینا العالم من حولنا على هیئته الحقیقیة..
اتــــي النــــادل بالمشــــروبات الســــاخنة.. واخــــذ كــــل مــــن الجالســـین
كوبــه وبــدأ فــي ارتشــافه باســتمتاع.. تأملت وجوهــهم فــي تــأثر.. على جــانبي
الایمــن یجلــس صــبحي بشــعره المجعــد وبنیتــه الواهنــة قلــیلاً.. ثم احمــد
ببشــرته البیضــاء وشــعره الذهبي.. الامریكاني كما نحب ان نطلق علیه منذ ان
عرفناه.. بجانبه خالد و یوسف المتلازمان دائمًا كالتؤام السیامي.. خالد یمیل للبدانة
قلیلاً.. و یوسف ممشوق القوام.. ولكني دائمًا اعتبرهم كالاخوین لتلازمهم دائمًا،
وبالرغم من اختلاف طباعهم قلیلاً، حیث أن خالد دائمًا یمیل للهزر والضحك
بصوت عالي، كان یوسف عصبیًا بعض الشئ، ولكن وقت ان یجتمعا تذوب
الفوارق فأشعر بالفعل وكأنهم تؤام لأم واحده وأب واحد.. ثم على جانبي الایسر
عبقري الشلة شریف اعز اعضاء الشلة الى قلبي.. ربما لتشابه اهتماماتنا وطریقة
تفكیرنا.. ویجمع بیننا حبنا للقراءة.. صار من ذوي العیون الاربع.. تلك العوینات
التي یرتدیها الآن اعطته مظهرًا أكبر من عمره الحقیقي قلیلاً.. ولكنه كما هو..

وقورًا هادئًا مبتسمًا دائمًا..
بدأ الحدیث بیننا وتحدث كل منهم بشكل مقتضب عن احواله الاجتماعیه الآن..
شریف سیتزوج في فترة خلال شهرین.. باركت له بكل فرح بمجرد ان قالها..
وأكمل الباقین كلامهم و ابتسامتي تتسع و قلبي یرقص طربًا لهم، انهم لي كإخوة
بالفعل، لیسوا مجرد اصدقاء او زملاء دراسة.. و اخبرني یوسف انه قد تقدم لخطبة
احدي زمیلاته في العمل، حیث یعمل مع یوسف في شركة تجاریة شهیرة

كمحاسبین اداریین، لیعقّب خالد على كلامه ضاحكًا:
و انا بأه مش معقولة اسیب یوسف لوحده كده
سألته بسخریة: ایه.. خطبت خطیبة یوسف؟

اجابني: لا وانتا الصادق.. خطبت اختها ثم ارتج جسده البدین من الضحك..
تضاحكنا جمیعًا وسألته وسط ضحكاتي التي لم استطع ایقافها: لأ بجد.. خطبت

اختها فعلاً؟
اجابني: اه واالله.. یوم ما یوسف راح یخطب امیرة.. رحت معاه زي كأني أخوه..
شفت اخت العروسة حبیتها من اول نظره.. بنت امورة كده ودبدوبة زیي.. داحنا لما

نتجوز هنخلف افیال مش اطفال

أ

 

كانت قد قاربت ضحكاتي على الخفوت والانتهاء، فجاءت تلك الجمله الاخیرة لتبدأ
ضحكاتي وضحكات باقي افراد الشلة في التزاید مرة اخرى حتى لفتت ضحكاتنا

انظار الجالسین من حولنا..
دمعت عیني من شده الضحك.. بدأت اجسادنا في الهدوء بعد ذلك الفاصل المثیر
للضحك.. وأكملنا حدیثنا و السعاده تتراقص على وجوهنا.. سألت احمد و قد حاولت

اضفاء بعض الجد على نبرة صوتي:
وانتا یا امریكاني.. مش شایف ف ایدك دبلة ولا حاجة.. هو الامریكان مش بیلبسوا

دبل ولا ایه؟
ضحك احمد ثم اجابني: لا یا عم.. بیلبسوا زي بقیة الناس.. بس انا مش ناوي ارتبط

خالص..
اجبته بكل سخریة وقد تصنعت الدهشة: یا نهار اسود!! انتا لا مؤاخذة.. شاذ ولا

ایه؟
انبعث ضحكاتنا تلك المرة اعلى من اي مرة سابقة.. اجابني احمد بسرعه:

االله یخرب بیتك.. هتودیني ف داهیة.. لأ یا عم الحمد الله انا تمام اوي.. هاهاههاهاا..
انا بس اللي مش ناوي دلوقتي على الموضوع دا خالص.. كونّ نفسي الاول وبعدین

ابدأ افكر في الحوار دا..
اطلق خالد بعض القفشات و النكات فأضحكنا مرة اخرى لعدة دقائق.. انتهي ضحكنا

بصعوبة في تلك الجلسة.. اردفت بكل واقعیة:
وحشتني اللمة دي یا ولاد واالله..

استمرت نقاشاتنا حوالى الساعتین.. تناقشنا في كل ما یمكن ان یتخیله المرء
كموضوع للنقاش.. تحدثنا عما حدث لكل منا خلال العشر سنوات التي فرقت بیننا..
و علموا بخبر وفاة جدي.. حزنوا كثیرًا لوفاته.. فقد كان یعاملهم جمیعًا كأنهم احفاده
مثلما كنت حفیده.. واسوني و اعتذروا عن عدم حضور العزاء.. حاولت تغییر دفة
الحدیث.. لم ارغب في التطرق لأي موضوع یحزنني في تلك الجلسة.. لم ارغب
في الخروج من حالة النشوة التي اعیشها وسط اصدقائي الاعزاء.. وكأنني وصلت

لحالة النیرفانا المطلقة التي یصل الیها كهنة البوذیة..
تذكرت ما قرأته في مذكرات جدي.. فكرت في ان استشیر شریف في موضوع
السفر في الزمن.. فلقد كنت تائهًا بالفعل.. مشتتًا بین صعوبة تحقیق النظریة و ما
كتبه جدي في تلك الاوراق من إثباتات لقدرته على صنع آلة الزمن.. اتجهت

لـشریف و سألته:
بقولك یا شریف.. ایه رأیك في حوار السفر في الزمن؟

قطب شریف جبینه كعادته عندما یركز في موضوع ما، و اجابني في هدوء:
السفر في الزمن.. اشمعني الموضوع دا یا ادهم؟

 

اجبته: یعني.. لقیت نقاشات على النت مكتوبة بخصوص الحوار دا.. وفیه ناس
بتأكد انه ممكن یحصل.. لكن انا مش مصدق بصراحة

رد على بصوت هادئ: بص یا ادهم.. الموضوع دا معقد اغلب الناس بتقول فیه
كلام كتیر.. و محدش عارف الصح فین.. شویة یقولوا لو قدرنا نوصل لسرعه
الضوء ساعتها نقدر نكسر حاجز الزمن و نقدر نسافر للماضي او للمستقبل.. و
شویة یقولوا نقدر نسافر للمستقبل بس.. و شویة یقولوا منقدرش نسافر اساسًا و

انسوا الموضوع.. محدش عارف یتوصل لحاجة في النظریة دي..
سأل یوسف و قد بدأت عصبیته في الظهور: انا مش فاهم حاجة.. یعني كده فیه سفر

ولا مفیش؟
اجابه شریف: مانا قلت.. محدش عارف.. المشكلة ان النظریة دي لیها نظریات
مضاده بتدمرها من الاساس.. یعني دلوقتي لو سافرت في الماضي عشر سنین
فاتت.. هیبقي فیه نسختین مني.. نسخة حالیه و نسخة اللي لسه عیل صغیر.. و دا

نظریًا مینفعش ان نفس الكتلة تتواجد مرتین في بُعد واحد..
بدا الذهول مرتسمًا على وجه خالد.. رأیت ذلك فلم استطع كتمان ضحكتي.. لقد كان

للذهول على وجه خالد البدین الطفولي تأثیرًا كومیدیًا لا یوصف.. سألته ضاحكًا:
ایه یابني مالك؟ ایه الدهشة اللي انتا فیها دي؟

اجابني خالد في ذهول: بخلاف اني مش قادر افهم اوي كلامكم التقیل دا.. انا دلوقتي
لو سافرت في الزمن.. اقدر احضر فرح ابویا و امي؟؟ یا لهوي یا جدعان!!

اخرجتنا جملته تلك من حالة الحوار العلمي التي انغمسنا فیها، حتى أن شریف نفسه
بوقاره المعتاد لم یستطع كتم ضحكاته تلك المرة.. و اجابه بعدها بصعوبة:

كح كح.. یخرب بیت شیطانك یا خالد.. بس تصدق.. كلامك ینفع واالله.. كان فیه فیلم
اجنبي اتعمل منه تلات اجزاء اسمه العودة للمستقبل.. البطل فیه راح للماضي
علشان یشوف والده و والدته في شبابهم.. بس هنا السؤال المهم.. هل لو لا قدر االله
اتدخل في لقائهم.. و قدر یمنعهم من انهم یعرفوا بعض.. كده مش هیتولد اساسًا..

یبقي ازاي هیبقي موجود علشان یسافر في الماضي؟
ذكرتني جملته تلك بنفس المثال الذي طرحه السید دیمتریف على جدي اثناء
مناقشاتهم بالقبو السري.. عدت بإنتباهي لحدیث شریف.. حیث مازال مستمرًا في

طرح المشاكل التي تواجه موضوع السفر في الزمن..
اینشتاین اثبت ان كل ما الجسم سرعته بتزید، الزمن بیتباطيء.. یعني لو احمد و
ادهم اخوات توأم عندهم عشرین سنة مثلاً.. لو ادهم ركب صاروخ بیطیر بسرعة
الضوء وفضل في الصاروخ دا لمده سنه مثلاً.. وبعدین رجع علشان یقابل اخوه
احمد.. هیلاقي ان احمد مات بالشیخوخة من زمان اساسًا.. و ادهم یبقي عمره زاد
سنة بس.. و دا لإن الزمن بیتباطيء بزیادة السرعة.. یعني كل ما سرعتك بتزید كل

 

ما الزمن بیمر ببطء لحد ما توصل لسرعة الضوء.. لو وصلت لسرعة الضوء
الزمن بیقف ومبیتحركش بالنسبة لك.. فهمت حاجة؟

اجــاب خالــد بصــدق: لأ برضــه ثــم ضــحك عـالیا و قـد ارتـج جسـده مـن تـأثیر
ضـحكاته تلـك.. ولكن الحـوار لـم یكـن قـد انتـهي فلـم یشـاركه اغلبنـا الضـحك
ككـل مرة.. لقـد انتبـهنا لكلمـات شـریف تلـك المـرة.. كنت قـد بـدأت فـي فـهم مـا

یقولـه شریف.. فسألته:
طب لیه میكونش كل الكلام النظري دا كلام غلط علشان محدش جرب فعلاً؟ لیه

میكونش فیه حد قدر انه یعمل آلة الزمن ویسافر بیها للماضي او المستقبل؟
اجابني شریف: لأ هو من ناحیة التجریب.. فیه ناس حاولت وجربت فعلاً.. عندك
مثلاً العالم الامریكاني كیب ثورن من اشهر العلماء في الموضوع دا.. و لیه
دراسات كتیرة بخصوص السفر في الزمن.. و لیه تصور خاص بآلة الزمن.. بأنه
یخلق حاجة زي ممر تنقل اللي یدخله من زمن لزمن تاني.. و سماه بالممر الدودي..
ودا عن طریق تحطیم الذرة في المعمل في جهاز تعجیل للجسیمات.. و عن طریق
نبضات معینه من الطاقة یقدر یتحكم في الممر دا و یشكله بشحنات كهربیه تحدد
مدخل و مخرج الممر دا و بعد كده یكبره لحد ما یقدر یخلي انسان كامل یمر من

الممر دا..
تحفزت حواسي عند سماعي لتلك الكلمات الاخیرة.. لقد كان وصفه مشابهًا كثیرًا
لوصف تجربة السید دیمتریف و من بعده جدي جمال رحمه االله.. إذن فالموضوع

یمكن تحقیقه بالفعل!!
سألته بكل لهفة: طب و النتیجة كانت ایه؟

اجابني هازًا كتفیه: فضلت نظریة للاسف.. التجربة منجحتش اوي.. و العلماء
اعتبروها خیال.. و عندك عالم كبیر زي ستیفن هوكنج بكل نظریاته عن الثقوب
السودا و نشأة الكون، قال ان السفر في الزمن ممكن یكون على المستوي
المیكروسكوبي، لكنه استنكر انه ممكن یبقي فیه انحناء في الزمكان یسمح بنقل

انسان كامل.. و انه احتمال الفكرة دي یساوي صفر..
قال یوسف بكل عصبیة: خلاص یا جماعه فككوا من الموضوع دا.. كفایة الخیال
العلمي اللي هیلحس دماغكو و تعالوا نلعب دور طاولة ولا دور شایب.. اعلنت
جملته تلك نهایة حوارنا في موضوع السفر في الزمن.. لأظل أنا في حیرتي.. لم
ارضِ تلهفي لمعرفة حقیقة تلك النظریة.. التفت بنظري لـاحمد فوجدته منشغلاً في

الكتابة على هاتفه المحمول.. سألته:
یا تري بأه ایه اللي كان واخدك مننا واحنا بنتناقش في المواضیع المعقدة دي؟

قطع سؤالى تركیزه لیسألني بدهشة عما اقول.. قام خالد بسرعه مقارنةً بجسده
البدین مختطفًا الهاتف من ید احمد بشكل طفولي.. نظر الیه لثوان ثم قهقه بصوت

مرتفع كعادته.. و من وسط قهقهته استطعنا تممیز كلامه:

أ

 

بأه دا اللي مستني یكون نفسه الاول.. هاهاهاهاهاها.. الباشا قاعد یكلملي بنات على
النت.. ههاهاهاها.. شوفوا یا عالم.. الاستاذ اللي عامل نفسه عاقل و مش بیفكر في
المواضیع دي.. هاهاهاهاهاهاها.. یا واد یا خلبوص.. طول عمرك حتفضل زیر

نساء.
عادت ضحكاتنا للوجود بصوت عالى مرة ثانیة.. و اختطف احمد الهاتف من ید
خالد في مرح متظاهرًا بضربه على كتفیه.. استمرت جلستنا حتى منتصف اللیل ما
بین التسامر و التضاحك ولعب الطاولة.. حتى انتبهنا اننا اصبحنا الوحیدین
بالمقهي.. فقررنا الرحیل على وعد باللقاء مرة اخرى خلال ایام.. ودعتهم جمیعًا

بالقبلات و الاحضان بعد ان تبادلنا ارقام هواتفنا الجدیده..
عدت الى المنزل و قد قتلني الارهاق و التعب.. اسرعت لمكتب جدي.. وجدت
اوراقه كما كانت.. لكن ارهاقي منعني من مواصلة القراءة.. فعدت الى غرفة جدي

و ارتمیت على الفراش بملابسي كما أنا..
قبل ان اغرق في النوم.. ارتفع رنین هاتفي المحمول.. هرعت للرد في قلق.. وجدت
رقم صبحي یرتسم على الشاشة.. ضغطت زر الرد فانبعث صوت صبحي من

الهاتف قائلاً:
كده یابني.. نسیت اقولك ایه اللي حصل لي مع الدكتور عندنا في الكلیه بسبب اثارك

دي
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

 

12
ذكرتني جمله صبحي بالسبب الرئیسي لنزولي الیوم من المنزل.. ذلك السبب الذي

انساني ایاه لقاء اصدقائي القدامي.. فأجبته بلهفة:
- اه صحیح.. عملت ایه مع الدكتور زمیلك دا؟

اجابني: أولاً هو رئیس القسم بتاعنا في الكلیة.. مش زمیلي.. ثانیًا انا كنت هروح
القسم بسببك یا جدع..

سألته في نفاد صبر: خلصني یا صبحي.. حصل ایه المهم؟
رد قائلاً: ماشي.. رحت له و وریته الصور، بعد ما اتفرج علیهم كویس، قام اندهش
اوي و زعق لي اني ازاي اسمح لنفسي إني اصور اثار مسروقة.. و كان ناقص
یطلبلي شرطة الاثار یا عم.. و لما هدیته و قولتله اني لقیت الصور دي على النت
وسألته على معني كلامه.. قال لي ان الاثار اللي في الصور دي اصلیة جدًا.. و
خصوصًا الخوذة الحربیة.. لأنها نادره جدًا ومن الحاجات القلیلة اللي باقیة من زمن
الاسرة البطلمیة.. و بالتحدید دي كانت الخوذة الحربیة اللي بیرتدیها الجنود البحارة

في معركة اكتیوم البحریة سنه 31 قبل المیلاد..
سألته: طب و الوسام العسكري دا؟ مقالش تبع ایه؟

اجابني: دا بأه وسام حربي من زمن هتلر.. كان بیلبسه جنود الحراسة الخاصة في
فترة الربع الاول من القرن العشرین، بس المشكلة ان الوسام دا مینفعش یتجاب من
مصر.. لأنه مش من ضمن الاوسمة والنیاشین الخاصة بالضباط اللي نزلوا مصر

في الحرب العالمیة التانیة.. یعني الوسام دا متجاب من المانیا نفسها..
صمت قلیلاً ثم اكمل:

بس في النهایة الدكتور اصرّ على ان القطع دي ممكن متقلده مادامت متجابه من
النت.. یقصد انها مش مضمون اصلها و ممكن تكون متزورة بعنایة.. علشان كده

انا بقترح اننا نجیب له القطع نفسها فعلاً.. ایه رأیك؟
اجبته في سرعه: لأ.. انسي الفكرة دي خالص یا صبحي.. خلاص انا هشوف
الموضوع دا بنفسي.. شكرًا لیك تعبتك معایا في الحوار دا واغلقت الهاتف بعدها

منعًا لإستدراكات صبحي اللانهائیة..
زادت كلمات صبحي من حیرتي.. ذلك الدكتور یؤكد صحة تلك القطع الاثریة.. و
إن ساورته بعض الشكوك.. والمشكلة الاكبر في الازمنة التي تنتمي الیها كلتا
القطعتین.. احدهما من قبل المیلاد والاخرى منذ حوالى قرن كامل.. لم یجل ببالى

إلا فكرة واحدة.. ما كتبه جدي صحیح مائة بالمائة.. و لكن كیف؟!
كل من حولي و كل ما سمعته و قرأته من تصفحي و قراءاتي، اثبت خطأ نظریة
السفر في الزمن.. و الجمیع یشرح وجهه نظره بعدید من الدلائل المؤكدة و المقنعه

 

بالفعل، و بینما تتواجد كل تلك النظریات في كفة المیزان، تقبع كلمات جدي الحبیب
في الكفة الاخرى.. تلك الاوراق تثبت وجود تلك النظریة و نجاحها.. ولكن كیف لم
انتبه لذلك؟؟ ما قرأته حتى الآن یشرح كیفیة عمل الآلة و استخدامها كوسیلة نقل في
المكان.. ما الدلیل على نجاح الآلة و وصولها لمستویات اخرى؟ لماذا اسبق
الاحداث دائمًا؟؟ سأعود غدًا في الصباح لقراءة ما كتبه جدي في تلك الاوراق..

علها تأتي بالخبر الیقین..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

استیقظت في الیوم التالي، و ارهاق الامس واضحًا على وجهي.. استحممت بسرعه
و خرجت لإحضار افطاري.. عدت الى المنزل وبدأت في اعداد وجبه الافطار
الشهیة.. كعادتي في الطهي، افسدت كمیة كبیرة من مستلزمات الافطار، و

استطعت انقاذ ما تبقي لتصیر بعض اللقیمات هي وجبة افطاري الرائعه..
انتهیت من اعداد جرعتي الیومیة من مشروب النسكافیه الدافئ، و خرجت الى
الشرفة لأول مرة منذ ان اتیت لبیت جدي.. اثارني دفء اشعه الشمس الذهبیة عند
ملامستها لبشره یدي.. و اقنعتني بقضاء صباحي في تلك الشرفة متأملاً الشارع من
حولي و مراقبًا للمارة و هیئاتهم المتباینة.. تُري فیما یفكرون؟ هل یحلمون بغد
أفضل ام انتابهم الیأس كأغلب من حولهم؟ و هل تمني ولو واحد منهم، ان یغیر

ماضیه او مستقبله؟ و إذا امتلكوا الوسیلة لذلك.. هل یجرأ المرء ان یفعلها؟
هل؟

شردت في افكاري تلك، لأجد كوب النسكافیه قد فقد سخونته تمامًا، و أني مازلت
واقفًا شاردًا كما أنا.. تأففت و ذهبت لإعداد كوبًا اخر من النسكافیة.. و لكن تلك
المرة لن اشرد.. فتلك المرة سأقرأ مذكرات جدي.. لأكمل تلك الرحلة العجیبة التي

صرت فیها مسافرًا بغیر إرادتي..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

امسكت بالأوراق و عدت لقرائتها مستكملاً تلك الفقرة اللي قاطعني فیها صبحي
بمكالمته..

كل من یشكك بنظریاته في موضوع السفر في الزمكان.. اعتمد في كلامه على
النظریة فقط.. لم یحاول تجربة تلك النظریة على ارض الواقع.. العلماء یتفلسفون
احیانًا.. بینما هم اجدر الناس بالتجربة، وها نحن على ارض الواقع نثبت انه یمكننا

ذلك إذا جربنا و استمررنا في تجاربنا حتى نصل..
منحتني جملته تلك الدفعه المعنویة اللازمة لإكمال ابحاثنا في تلك التجربة.. حتى
حدث ما حدث و انتهي كل شئ.. و لكنني الآن بما وصلت له من تقدم.. قادر على
صنع الفرق.. قادر على الوصول لأبعد مما وصل له السید دیمتریف.. یا له من

شرف.. وو یا له من فخر!!

 

انتهي اسبوع الراحة، و عدت لتجاربي مرة اخرى، و لكن تلك المرة عدت مسلحًا
بالأمل، و الحماس الذي تدفق في عروقي فحلّ محل الدماء..

بعد ان نجحت تجربتي السابقة في نقل الورقة من موضع لآخر.. جربت ان اطور
تجربتي.. سأجرب نقل كائنًا عضویًا تلك المرة.. هرعت للشرفة و اخترت اصیصًا
فخاریًا یحمل في قلبه نبته خضراء غضة.. بعد ان قمت بدراساتي و تأكدت من

صحة المعادلات الخاصة بالتجربه.. حان وقت البیان العملي..
وضعت الاصیص امام الالة، و قمت بزیادة معدل الطاقة المستخدم في التجربة، و
ذلك بسبب الكتلة الكبیرة نسبیًا للجسم تلك المرة.. بدأت التجربة بالضغط على
الزر.. هدرت الالة قلیلاً و هرعت للجهة المقابلة.. كالمرة السابقة، بدأ الاصیص في
التكون ببطء.. استلزم الامر وقتًا اطول قلیلاً من سابقتها.. لكن في النهایة انتقل
الاصیص كاملاً بالنبات و الطین المغمور داخله.. كانت تجربه ناجحة بكل
المقاییس.. الجسم انتقل بالرغم من تعدد مكوناته.. والادهي من ذلك ان التجربه
نجحت في حیز من الفراغ لیس بالقلیل و في فترة مقبولة قلیلاً.. هرعت لدفتر
ملاحظاتي لأدون بیانات تلك التجربه الناجحة.. و بمجرد ان قمت بفتح الدفتر،

انتابني الهلع عند سماع ذلك الصوت فجأه..
كرااااش..

نظرت بخوف للاصیص لأجد ما لم اتوقعه، لقد تشقق الاصیص حتى تهشم لقطع
صغیرة.. و تناثرت اجزاء من الطین فوق مائده التجارب بینما قبعت النبته متمسكة

بجزء كبیر من الطین ظل ثابتًا فوق المائده..
دلّ ذلك على اخطاء جسیمة في التجربة لن اسمح بتكرارها فیما بعد.. عدت لبحث
معادلاتي و قوانین النظریة، و ظلّ ذلك الامر كالهاجس الملازم لي طوال یقظتي و
نومي، حتى توصلت اخیرًا لحل فعّال استطاع زیاده معدلات الامان في تلك
التجربه، بتقویة دعائم نظام نقل الجزیئات و التأكد من ترابط التسلسل الرمزي لها..

مع زیاده نسبیة في معدل الطاقة..
عدت بعد ذلك لتجربه الوضع الجدید، و بعد جهد جهید.. نجحت التجربة بالفعل، و

بدون اي اثار جانبیه تؤثر على الجسم المنقول..
شجعني نجاح التجربة الثانیة بعد تكرارها و تعلمي من اخطائي وتداركها.. أن
ارتقي لمستوي اعلى من الطموح العلمي.. لذلك قمت مدفوعًا بمزید من الجشع

العلمي إذا صح التعبیر.. و قررت ان اجرب نقل كائنًا حیًا متحركًا تلك المرة..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

ارتدیت ملابسي استعدادًا للنزول لشراء احد فئران التجارب العلمیة من احدي
اماكن بیع الحیوانات الالیفة القریبة من منزلي.. وعند وصولي هناك وجدت ذلك
الدكان مغلقًا.. لعنت سوء حظي.. و ظللت ابحث و ابحث عن اي محلٍ متخصصٍ

في بیع الحیوانات.. ولكن باءت محاولاتي بالفشل..

 

عدت للبیت مرة اخرى اجر اذیال الخیبة.. و قررت ان اخلد للنوم على ان اعید تلك
التجربة غدًا آملاً ان یوفقني االله و اجد ما ارید..

خلعت ملابسي و ارتدیت بدلاً منها ملابس النوم.. و فور رقودي على الفراش..
رأیته!!

اقترب مني بشاربه الطویل، و یداه تتحرك في سرعه و خفه.. برقت عیني في
فرحة.. لم یخیب االله املي تمامًا..

هرعت لمكتبي و احضرت احدي علب الورق المقوي الصغیرة و المستخدمة في
تخزین الادوات المعملیة.. عدت لغرفتي لأجده ثابتًا كما هو.. اقتربت من موضعه
على الجدار في بطء محاولاً عدم استثارته.. ثم بسرعه قمت بتغطیته بتلك العلبة

الورقیة.. لقد امسكتك ایها الصرصور!!
عدت بسرعه لمكتبي، و تأكدت من وجود ذلك الصرصور بداخل العلبة.. هاقد اتي
الكائن الحي المتحرك الى بنفسه.. لم اضیع الوقت، و بدأت اعداد الآلة جیدًا.. لم اقم
بزیادة الطاقة كثیرًا تلك المرة، فالحجم الصغیر نسبیًا للصرصور لم یستلزم كمیة
كبیرة من الطاقة، و لكني تأكدت من وجود كمیة كافیة لنقل الصرصور بصورة
صحیحة و ان تنتقل جزیئاته و خلایاه جیدًا حتى اتلافي اي مشكلة جانبیه تعطل

مسیرتي في التجربة..
هدرت الآلة كعادتها في كل مرة، ثم توقفت بعد نقلها للعلبة، نظرت لموضع العلبة
بعد انتقالها.. لقد فعلتها تلك المرة ایضًا.. لقد نجحت.. لم اتعجل الفرحة.. ذهبت لفتح
العلبة للتأكد من نجاحي التام.. و بمجرد ان فتحتها.. تسلل منها الصرصور هاربًا
في سرعه وزاحفًا من العلبة للمائده الى الارض ثم الى حریته.. وقتها لم اتمكن من
كتم ضحكاتي.. لقد هرب الصرصور.. و لكنه استحق حریته بجدارة.. فلیهرب كما

یشاء.. لقد نجحت تجربتي تمامًا.. فهنیئًا لي بما فعلت.. و هنیئًا له بما فعل!!
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

بعد حادثة الصرصور تلك.. تسارع معدل نجاحي في تلك التجربة، فأنا الآن قادر
على نقل جسم، أیًا كانت حالته العضویة او تكوینه الجزیئي من موضع لموضع اخر
بعید عنه.. و كل ما ینقصني هو تحویل ذلك النقل في الفراغ الى نقل في الزمكان..

و ان یتحول حجم ذلك الجسم المنقول لحجم انسان بالغ..
لمده سنه كاملة.. استغرقت في معادلاتي و تجاربي التي لازمني فیها النجاح حینًا و
الفشل احیانًا اخرى كثیرة.. و لكنني في نهایة تلك السنة كنت قد وصلت بمعدلاتي
التي استنتجتها من تجاربي السابقة انني قد اتمكن بالفعل من الوصول للمرحلة
الاخیرة و الحاسمة من تجاربي.. استطعت ان انتهي من صنع الآلة التي ستنقل

الانسان لماضیه مستعملاً الانفاق الدودیة في الزمكان..
اذا تخیلنا سطح ارضنا ینقسم لشبكة هندسیة ممتده تحتوي كوكب الارض بأكمله
داخلها، فإن تلك الشبكة ستقسم سطح الكوكب لقطاعات متماثلة قد تصل لملایین
القطاعات.. شیئًا اقرب للذهن لشكل خطوط الطول و دوائر العرض التي طالما

 

درسناها في المدرسة في طفولتنا.. و لكن تلك القطاعات ضیقة للغایة و لا تتمتع
بالمساحات الممتده التي تتمتع بها القطاعات الناتجه من تقابل الخطوط و الدوائر

الاخرى..
و كل قطاع من تلك القطاعات یحتوي بداخله فراغًا یمكن استعماله لتولید ممرًا - او
ثقبًا - دودیًا، ذلك الممر یمتاز عن اقرانه من الممرات الاخرى بتردد معین یتغیر
حسب مكانه في شبكة القطاعات و في مجري الزمن، و ذلك التردد إذا استطعت

التوصل الیه سیمكنني عندها استعمال ذلك الممر للتنقل في الماضي كما أردت..
قمت ببناء باقي نظریتي على تلك الاطروحة التي وجدت بدایتها في اوراق السید

دیمتریف.. رحمه االله علیك یا سیدي، فعبقریتك العلمیة تنیر لي طریقي الآن..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

بعد شهور من مطالعه الكتب العلمیة، و بحث سبل الوصول لحل معادلات تردد تلك
الممرات.. استطعت ان اتوصل لقاعده اساسیة تمكنني من استنتاج المعادلات

اللازمة لفتح بوابة الممر ثم استعماله بعد ذلك..
و ترتبت عده نتائج على تلك القاعده فكانت مثلاً:

النتیجة الاولي: كل ممر یغطي قطاعًا ما من سطح الارض تبلغ مساحته حوالى
كیلو مترًا واحدًا مربعًا.. و بفرض مساحة سطح كوكب الارض ما یقارب ال510
ملیون كم مربع.. إذن العدد الاجمالى للممرات الدودیة ما یقارب ال510 ملیون
ممر.. عددًا مهولاً و لكن یمكن اختصار جزءًا كبیرًا منه.. حیث تبلغ مساحة الماء
من سطح كوكبنا ما یقرب من 70.9% من مساحة سطح الكوكب.. اي المتبقي
حوالى 29.1% من السطح تنتشر به الیابسه.. او ما یقرب 138 ملیون ممرًا..

لازال العدد مهولاً.. ولكنه ناتج هام لتلك المعادلات..
النتیجة الثانیة: توصلت لها ببعض المعادلات الریاضیة، بفرض اعطاء عدد مسلسل
لكل ممر، فإن التردد النهائي للممر یتحكم فیه ذلك العدد المسلسل و یتحكم فیه
موضعه ایضًا في المكان والزمان.. لینتج في النهایة ترددًا یتم حساب رقمه من

اربعة عشر عددًا هو الرقم الدال على تردد ذلك الممر..
النتیجة الثالثة: یقوم الممر بفتح طریقًا للتواصل بین موضع في الحاضر و موضع
ما في الماضي.. و ذلك عن طریق معرفة تردد ذلك الموضع المراد السفر الیه.. و
ینتج عن ذلك نتیجة هامة جدًا.. أنه یستحیل السفر لموضع في المستقبل، لصعوبة

إیجاد شئ لم یوجد بعد..
بعد وضعي لتلك النتائج، احسست بتفاؤل غیر عادي.. فها انا اضع القواعد التي
سأبني علیها تجربتي العظمي و التي ستنقل البشریة لآفاق لم تستطع تخیلها العقول

المظلمة لبعض العلماء..
وبعد شهرین من البحث و التقصي في صحة تلك النتائج، جاءت لحظة الحقیقة.. ها
انا اقف في غرفة مكتبي، و امسك بین راحتى آلة النقل و قد ربطتها الى جسدي

 

حتى لا تنفصل عني ولو لوهلة بسیطة.. اعددت تجربتي جیدًا، و كتبت في ورقة
على سطح مكتبي اوضح فیها ما فعلت، لیعلم الناس قصتي في حالة فشل التجربة

وضیاعي في مجري الزمن او تفتت جزیئاتي و تحولي لغبار كوني..
قمت بشحن الآلة جیدًا لعده ایام.. فبرغم توصلي لحل ببعض معادلاتي یمكنني من
توفیر قدرًا كبیرًا من الطاقة و لكن تلك المرة سأحتاج كمًا من الطاقة كافیًا لإنارة
مبني سكني كامل لعده ایام.. تأكدت من شحن الآلة و ضغطت بأصابعي ارقام تردد
الممر على لوحة الجهاز.. قررت مسبقًا موضع أول رحلةٍ لي.. و اقتنعت بضرورة

السفر لذلك الموضع اولاً.. و بأیدي مرتعشة.. ضغطت على زر البدء..
تذبذبت صورة الغرفة امامي.. و بدأت دائرة من الضوء المشع في التكون وسط
الغرفة.. سرعان ما تحولت لقمع ممتد ف الفراغ امامي.. كان المشهد مهولاً و
یختلف عما حدث من قبل.. لن استطع وصفه ما حییت.. مشهدًا غریبًا و رائعا في
نفس الوقت.. ترددت لحظة و انتابني الخوف من الفشل.. و لكني اتخذت قرارًا منذ
بدایة تلك الفكرة الا اخاف.. سأقتحم الزمن مادمت قد وصلت لتلك المرحلة..
خطوت اولي خطواتي بإتجاه الثقب.. و ما ان لامسته حتى شعرت بقوة هائلة
تسحبني لداخل الثقب.. اتبعها شعور ساحق بالانضغاط.. اعتقد اني فقدت الوعي
لثوان.. فقد استفقت على بقعه من النور تتجه نحوي بسرعه شدیدة.. كلا.. انا الذي
اتجه الیها بتلك السرعة الرهیبة.. و فجأة انتهي كل ذلك في لحظة.. لأجد نفسي في
تلك الارض الاخرى و ذلك الزمان الاخر الذي یسبق حاضري بعشرات السنین..

لقد سافرت في الزمان و المكان بالفعل!!

 

13
انتابتني حالة عنیفة من الدوار و الغثیان، یبدو أن السفر في الزمن لن یكون هینًا.. و
حینها علمت شعور الصرصور عندما انتقل خلال آلتي.. حاولت ان اتماسك قلیلاً،
فما سأفعله بعد قلیل سیستلزم مني كثیرًا من الجهد.. هدأت ضربات قلبي بعد دقائق
معدودة لیستكین بعدها جسدي و ابدأ في مهمتي التي اتیت لهذا الزمان و المكان من
اجل تنفیذها.. رمقت الكلمات المكتوبة على ذلك الباب الخشبي الذي اقف امامه بكل
رهبة و قلق.. ها انا اقف الآن امام باب المكتب الخاص بعمید كلیه علوم الفیزیاء

بجامعه موسكو الحكومیة.. السید جریجوري دیمتریف..
نعم.. لقد كان ذلك اختیاري الخاص لأول رحلة لي عبر الزمكان.. ما كان یجب ان
ابدأ اي رحلة اخرى قبل القیام بتلك الرحلة الهامة.. فقد یتوقف مصیري شخصیًا
على تلك الرحلة.. اتجهت الى الباب و طرقته طرقتین خفیفتین.. شعرت بجلبه
مكتومة خلف الباب، ثم سمعت صوته.. رباه.. سیل من الذكریات ینهال على عقلي
بمجرد سماع ذلك الصوت الاثیر الى نفسي.. انفتح الباب لأجده امامي.. كما تركته
منذ اخر مرة.. وقف امامي بكل قلق لثوان.. ثم بدأ الذهول في وضع بصمته على

محیا السید دیمتریف.. اتسعت عیناه في دهشة.. ثم قالها… جمال!!
هرعت الیه و احتضنته في شوق، بینما تغالب دموعي نفسي، في البدء لم یبد السید

دیمتریف اي ردة فعل، ثم بدأت یداه في لمس كتفي و مبادلتي العناق..
اجلسته على مكتبه في سرعه.. و بدأت الحدیث..

سیدي.. كم اشتقت الیك.. لابد و انك قد فهمت ما حدث.. لقد جئتك من مستقبلك..
جئتك من اواخر القرن العشرین.. لقد نجحت تجربتك بالفعل یا سیدي!!

مازال السید دیمتریف على نفس حالته من الذهول، و لكن بعد ثوان بدأ في تمالك
نفسه.. لیجیبني بصوت مبحوح.. كیف؟؟ كیف یا ولدي؟ ثم استدرك قائلاً: و لماذا

اتیت الى هنا بالذات؟
اجبته في سرعه: اولاً یجب علینا الاسراع في تنفیذ ما اتیت من اجله، فكلانا وقتنا
محدود للغایة.. بعد قلیل ستأتي قوة من رجال المخابرات السوفیتیة لإلقاء القبض
علیك و بحوزتك النموذج التجریبي لآلة النقل، و بعض الاوراق العلمیة الخاصة
بالتجربة.. لذلك یجب علیك ان تأتي معي لزمني حالاً لأنقذك من قبضة هولاء

الوحوش المفترسة
رد السید دیمتریف في خوف: المخابرات!! لا.. لن اسمح لهم بالحصول على الآلة..
و لا یمكن ان اآتي معك یا جمال.. انت تعلم القواعد.. لا یمكن تغییر الماضي.. هذا

كفیل بتحویل مجري الزمن و قد یحدث ما لا یحمد عقباه..
انفعلت قائلاً: و انا لن اسمح لهم بالحصول علیك او على الآلة.. لا یوجد حل اخر!
اجابني وقد بدأت دمعه في الانحدار على وجنته: لن یحصلوا علیها.. سنجد الحل

 

∞ ∞ ∞ ∞ ∞
استطعت ان اعود الى زمننا مرة اخرى بنجاح.. و بمجرد ان عدت الى غرفة

معملي، ارتمیت على مقعدي الخشبي بكل ارهاق.. ثم بدأت في البكاء…
وضعت نموذج آلة السید دیمتریف على المكتب امامي، مستعیدًا احداث مرت منذ
دقائق.. او من المفترض منذ سنین عدیده.. لم استطع ان اجزم موعدها.. و لكنها
حدثت بالفعل، دُونت في سجل الزمن بمجرد عودتي لتلك الفترة من حیاتي البائسة..
إنقاذ الآلة عند السید دیمتریف كان اكثر اهمیة من إنقاذ نفسه.. حیاتي الفانیة اقدمها
فداءًا لتلك الآلة.. لا احد یجب أن یصل الیها یا جمال.. لا احد، قالها و عیناه تلتمع
بالدموع لیتجه الى و یعانقني عناقًا حارًا، ثم اعطاني الآلة و بصوت یشوبه التأثر..
قالها.. افتدي الآلة بحیاتك، واستعملها في الخیر دائمًا، و ابدًا.. لا تحاول تغییر
الماضي یا ولدي العزیز.. ثم هرع الى مكتبه لیبدأ في التخلص من اوراق التجربه
قبل ان یصل الیه رجال المخابرات.. وقفت في منتصف الحجرة، وامسكت بآلتي
بیدي الیمني بینما یقبع نموذج السید دیمتریف في قبضتي الیسري.. بدأت ضبط
اعدادت الآلة لإعادتي لحاضري بواسطة نفس الممر الدودي المتاح لساعات قلیلة،
هي الفترة الزمنیة الناتجه عن قدرة الآلة على تخزین الطاقة بداخلها.. و قبل ان
اضغط زر النقل، نظر الى السید دیمتریف وقد ارتسمت نظرة ارتیاح على وجهه..

و أردف:
حفظك الرب یا ولدي.. و سلامي لـكاترینا و زینب..

قبل ان اجیبه.. لمحت بطرف عیني تحركات رجال المخابرات من النافذة الزجاجیة
الصغیرة المطلة على ساحة الكلیه.. اخبرته في رعب: لقد أتوا!! فصرخ السید

دیمتریف بأن انتقل بسرعه قبل وصولهم..
ضغطت الزر و انا اسابق الزمن للسفر قبل ان یأتي رجال المخابرات، بدأ الممر في
التكون بالفعل، و لم انتظر كثیرًا.. اخترقت الممر و بدأت في الانتقال، و كان اخر
ما سمعته طرقات عنیفه على باب المكتب و شهقة ذعر من السید دیمتریف… یا

إلهي.. انه یحدث بالفعل..
و ها أنا اجلس على مقعدي الخاص بغرفة المعمل المقام بمنزلي القدیم.. مازلت في
دهشة من أمري.. هل استطعت بالفعل ان اعود للماضي، و هل ما قمت به انقذ الآلة
بالفعل من الوقوع في أیدي المخابرات السوفیتیة ام انهم استطاعوا بوسیلة ما معرفة

نتیجة تلك التجارب التي قمت بها مع السید دیمتریف؟؟
امتلأ عقلي بالاسئلة، فاضطررت للجوء الى فراشي،،، لعله یحمل الجواب او

الراحه.. ایهما اقرب..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

انتهیت من قراءة تلك الورقة، ثم وضعتها بجانب ما قرأته من مذكرات جدي
الراحل.. عقلي ممتلئ بالأسئلة انا ایضًا.. ما هذا الذي اقرأه؟؟ هل بإمكان اي انسان

 

تصدیق ذلك الكلام المدون بتلك المذكرات؟ ما حسبته ضربًا من الخیال العلمي
وقصص الاطفال، هاهو حقیقي.. و جدي هو من یخبرني بذلك، و الذي عهدته
طوال عمره مثالاً للدقة و الالتزام.. هل تلك الورقات سردًا لمغامرة لم تحدث من

قبل لبشري؟ ام هي مجرد كلمات لعجوز مصاب بالشیخوخة؟
انزعجت من ذلك الخاطر الاخیر، فلم استطع تخیل جدي، العالم القدیر و الانسان
المثقف الواعي، و قد صار یعاني خرف الشیخوخة و عناءها.. كلا.. إن جدي على
حق، و سأظل دائمًا محتفظًا بتلك الفكرة في ثنایا عقلي.. لن أسمح لبعض الخواطر

ان تقلق راحتي..
إن تصدیقي لكلمات جدي لهو دلیل على اقتناعي بفكرة السفر في الزمن.. و هذا ما
ینكره العالم اجمع.. ولكن كما قال السید دیمتریف.. من ینكر تلك الفكرة، لم یستطع
اثبات خطأها بالتجربة، و هو ما یسمح بوجود هامش بسیط لصواب الفكرة و قدرتنا

على تحویلها من خیال لواقع ملموس..
تملكتني الحیرة، فلم أجد حلاً لذلك إلا باستكمال القراءة.. ربما بذلك یمكنني اثبات

صحة اعتقاداتي و تهدئة عقلي الذي لا یرغب في الهدوء او الاستكانه..
امسكت بالورقة التالیة.. و بدأت في التهام الكلمات المدونة على سطحها بخط جدي

المنمق كعادته..
بعــد ان عــدت مــن تلــك الرحلــة الزمنیــة الشــاقة بــدنیًا ونفســیًا.. استلزمني
الامــر عـده ایـام مـن الراحـة، لـم اقـرب فیـها معملـي، و لـم افكـر فیمـا سـأفعله
فـي الخطـوات القادمـة.. لأول مـرة فـي حیـاتي لأ ادرس او احـضّر لمـا انـوي
فعلـه فـي المرحلـة المقبلة.. انتابتني حالة من العشوائیة.. خرجت من جوانب المنزل
لأسیر هائمًا على وجهي لا ادري لأین تأخذني اقدامي.. حتى وجدت نفسي عندها..
استند بیدي على الجانب الحجري لضریح زوجتي الغالیة كاترینا و بجانبها ترقد

ابنتي الحبیبه زینب رحمهما االله…
انهمرت دموعي بشدة و قرأت لهما الفاتحه، ثم افترشت الارض بجانب الحائط،
لأغرق في نوم عمیق، رأیت فیه كاترینا و زینب مرتدیتا اردیة بیضاء.. و قد ارتسم
على وجوههم تعابیر السلام و الهدوء.. شعرت كما لو أني في الجنه.. وامامي تقف

حوریات عدن بجمالهن الذي یفتن الالباب..
افاقتني ید خشنه لرجل في الخمسینیات من عمره یسألني عن سبب تواجدي هنا في
ذلك الوقت.. لم أجیبه و قمت مسرعًا و رحلت عن ذلك المكان بینما یضرب ذلك
الرجل كفًا بكف مبدیًا استغرابه الشدید من هولاء المجاذیب الذین یراهم مرارًا و

تكرارًا..
عدت الى منزلي و قد انتابني هدوء عجیب، و كأن ذلك الحلم الجمیل قد انزل على
قلبي السكینة و على عقلي الهدوء و راحه البال و قلة التفكیر.. قضیت لیلتي ذلك
الیوم في مشاهده ألبوم صور عائلتي الراحلة.. شاهدت صور لـ كاترینا معي امـــام
منزلنــا بموســكو.. و اثنــاء تجولنــا فــي منــاطق تاریخیــة و اثریــة عــدیده

 

بروســیا.. ثم صــورنا معـًـا بمصــر، و ارتــدائها لــلزي المصــري التقلیــدي و
تحولــها مــن انســه روســیة لربــة مــنزل مصــریة تجیــد عمــل الملوخیــة و
طبــق الفــول المــدمس بــالزیت الحار.. ارتســمت البســمة على شــفتي لمــرات
عــدیده اثنــاء مشــاهدتي لتلــك الصــور المصــحوبة بــأجمل ذكریــات حیــاتي، و
كــم انــهمرت الــدموع بعــدها.. أذّن الفجــر اثنـاء انـهماكي فـي تقلـیب تلـك
الـذكریات.. فقمت لأداء الصـلاة.. و بعـد ان انتـهیت منها.. تخمرت فكرة بداخلي
ملكت عقلي لساعات و ایام.. لتنتهي بي واقفًا في المعمل ممسكًا بآلة النقل.. سأعود

للماضي مرة اخرى!!
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

تلك المرة قررت موعد رحلتي.. لم استطع كتمان لهفتي و اشتیاقي الى رؤیتهما مرة
اخرى.. سأعود لیوم زفاف زینب.. اجمل ایامي السعیده في حیاتي السابقة..

قمت بضبط الآلة لتنقلني لذلك الیوم، و على مسافة بعیده قلیلاً من مكان الزفاف
لیتسني لي الاختباء و التواري بعیدًا عن اعین الناس.. لم استطع المجازفة بأن یري

احد نسختین مني.. فهذا كفیل بقلب الامور رأسًا على عقب..
انتقلت للماضي، و ساورتني نفس الاحاسیس التي مررت بها المرة السابقة، ولكني
استطعت تجاوزها ایضًا.. لا مشكلة.. یمكنني التغلب على ذلك الدوار.. استندت
على الجدار بجانبي.. و بدأت في السیر بخطوات هادئة و قد ارخیت قبعتي التي

ارتدیتها خصیصًا لإخفاء ملامحي عن اعین المارة..
انا الآن في عام 1982.. ذلك العام الذي رفع فیه مبارك علم مصر فوق شبه جزیرة
سیناء بعد استردادها كاملةً من المحتل الصهیوني.. لیحتلها الفساد و ینشر سیطرته
على رقعه مصر بأكملها.. ذلك العام الذي حدثت به مجزرة حماة البشعه على
الاراضي اللبنانیة الجمیلة.. ذلك العام الذي فازت به الجزائر على منتخب ألمانیا
الغربیة في موندیال كاس العالم لكرة القدم.. ذلك العام الذي تزوجت به ابنتي زینب

رحمها االله..
نظرت في شاشة الآلة لأجد ان وقتي قد نفذ منه عدید من الدقائق، و ان ما تبقي لا
یزید عن دقائق معدودات فهرعت بأكثر ما یمكنني.. لاحت قاعه الفرح على بعد..
اسرعت اكثر و اكثر لأستطیع ان اراهم قبل ان انتقل.. انظر في الشاشة.. الوقت
ینفد.. باق حوالى دقیقتین.. اقترب كثیرًا من القاعه.. اري موكب الزفة یتحرك..
احاول تغییر موضعي لأري كاترینا و زینب بوضوح.. و لكن اجسام المدعوین
تمنعني عنهم.. كم رغبت ان اخترق الصفوف لألمسهم فقط مرة اخرى.. و لكن لا
یمكن.. وقتها سیجدوني واقفًا امامهم و نسخة مني ایضًا واقفة بجانبهم تحتضن

كفیهم..
لقد فكرت كثیرًا ان احاول إلغاء الزواج برمته.. ربما بذلك لن تتوفي زینب اثناء
ولادتك یا ادهم.. فتظل هي معي لترعاني بدلاً من حیاتي وحیدًا.. ثم طردت تلك
الافكار السوداء عن عقلي.. الماضي لا یمكن تغییره و لا یمكن التدخل في اقدار

 

البشر، فمهما فعلت لن یمكنني منع ابنتي من ان یقبض ملاك الموت روحها في
موعدها..

مازلت لا اري كاترینا او زینب بسبب الزحام الشدید حولهم.. كنت ابعد عنهم ما
یقرب من مائة متر.. اري اجزاء منهم و اري تحركاتهم، ولكن لم اري وجوههم
بوضوح حتى الآن.. تركت الحائط الذي اختبأت بجانبه، و مررت بعرض الشارع
لأقترب ولو لقلیل من الثواني قبل ان اضطر لتشغیل آلة النقل و العوده للحاضر

الكئیب مرة اخرى..
اثناء مروري الشارع، و بینما یغطي ضجیج الفرح على اي صوت اخر.. فوجئت
بتلك السیارة المندفعه بقوة تجاهي.. لتصدمني بعنف و تلقي بي امتارًا عدیده على
جانب الطریق.. شعرت بكسر في ساقي و ان وعیي قد قارب على الانتهاء..
اسرعت بكل ما استطع من قوة ان اضغط على زر النقل.. و جررت جسدي
بصعوبة تجاه الثقب الدودي.. و تركت قوة جذبه تسحبني بداخله لتعیدني للحاضر

قبل ان اجذب اي نوع من الانتباه في موضعي السابق..
انتقلت لمعملي مرة اخرى، غارقًا في دمائي و وعیي قد اوشك بالفعل على الذهاب

بعیدًا عني، لأسقط على وجهي و دمي یروي ارضیة المعمل..
دامت فترة فقداني للوعي لساعات عدیده نزفت فیها الكثیر و الكثیر من الدماء..
بمجرد عودة وعیي لي.. اسرعت زاحفًا تجاه الهاتف، استنجدت بصدیقي المقرب

عبد االله.. و طلبت منه احضار طبیب بسرعه لعلاج ساقي المكسورة..
استطاع عبد االله بالفعل ان یصل الى منزلي.. وصلت لباب المنزل بعد جهد شدید،
لیفاجأ عبد االله بحالتي، و ینقلني لمشفي قریب من بیتي.. و بعد ان وضع الطبیب
ساقي في الجبس.. ظللت حبیسًا لمنزلي لعده اسابیع.. تلك الاسابیع ظللت اجتر فیها
حزني و اشتیاقي لزوجتي و ابنتي.. اطالع صورهم و اتذكر ضحكاتهم و كلماتهم..
بعد انتهاء تلك المرحلة اتخذت قراري النهائي.. لن اعود لماضي الخاص مرة
اخرى.. لن استطع احتمال صدمة اخرى.. یكفي ضیاع فرصة رؤیتي لزفاف ابنتي
مرة اخرى.. فهذا ما اكتشفته بعد محاولتي العوده لذلك الممر مرة اخرى.. لأجده
مستعصیًا على المرور.. الآلة تلغي الفترة الزمنیة التي انتقلت الیها من خلال كل
ممر قمت بفتحه من قبل.. و فرصتي الوحیده هي الممر السابق او التالي.. اي وفقًا
لحساباتي، قبل تلك الفترة بثلاثة ایام او بعدها بثلاثة ایام.. لقد ضاعت على

فرصتي.. و لن اقبل بضیاع اي فرص اخرى..
الغریب والمدهش أن ذاكرتي الآن تحمل وقوع حادثة تصادم سیارة بجانب قاعه
الزفاف یوم أن زُفت ابنتي، أي أن التغییر الذي احدثته في الماضي حمل اثاره
للحاضر بالفعل.. تذكرت تحذیر السید دیمتریف بعدم المخاطرة بتغییر أي حدث ولو

قلیل في الماضي.. حتى لا یلقي بظلاله على الحاضر..
لقد صارت فكرة السفر عبر الزمن حقیقة لا جدال فیها بالنسبة لي.. و منذ الآن
قررت أن اكتب مذكراتي لك یا ادهم.. فمذكراتي تلك وسیلة اخرى من وسائل السفر

أ أ أ أ

 

في الزمن.. سأخبرك یا بني بما سأفعله.. لتعلم أي سر خبأه جدك لسنوات عدیده.. و
لیصل الیك سري في وقت سأكون میتًا عاجزًا فیه عن البوح لك به..

اغرورقت عیناي بالدموع بعد قرائتي لتلك الصفحات.. زالت عني أي شكوك في
صحة كلام جدي، و حتى إن كان مخرفًا قد نال منه الهرم و العجز.. لا یمكنني
التشكیك في كلماته الآن.. یا إلهي.. كم عانیت یا جدي.. ها قد انتهیت من بعض
الاوراق و مازال العدید و العدید من الاوراق قابعًا في ذلك الصندوق الخشبي..
تري ماذا رأیت و ماذا علمت؟ كیف حاورك الزمان؟ و ماذا اخبرك في تلك
الحوارات؟ ان كلماتك لم تكشف لي سرًا واحدًا فحسب.. بل إنها فتحت عیناي لأري
اسرارًا مختبئةً ظلت مدفونة في ذلك الصندوق لسنوات مرت.. یعلم االله هل كنت
سأراها ام اظل في غفلتي عنها.. سأقرأ.. سأقرأ كلماتك یا جدي.. لأعلم و اتعلم.. و
لأكشف ذلك السر الذي اردت ایصاله لي.. رحمك االله یا جدي.. و یرحمنا جمیعًا

برحمته الواسعه و یعیننا على فهم ما نراه و نعلمه..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

14
في صباح الیوم التالي، فكرت أن امر بالمحطه الاذاعیة لأري أروي و اطمئن على
احوالها، فطوال الایام السابقة لم اراها، و لم استطع الاكتفاء بالمكالمات الهاتفیة
الیومیة المتبادلة بیننا.. انتهیت من فطوري و ذهبت الى محطة الاذاعه.. مررت
علیها بمكتبها في الدور الثالث فوجدتها غارقة في اوراقها و اعمالها.. تبادلنا
الحدیث لحوالى النصف ساعه.. ثم رحلت لأتركها تكمل عملها في سلام.. قبل
رحیلي عن مقر المحطة، مررت على عم خالد و تبادلنا المزاح و القفشات
الفكاهیة.. قررت أن استجم قلیلاً.. ذهبت لكورنیش النیل لأستنشق بعض الهواء

النقي بعیدًا عن عوادم سیارات القاهرة الخانقة..
بعد ان اعدت تجدید رئتي، عدت الى المنزل و قد حان موعد الظهیرة.. دخلت الى
غرفة المكتب، و امسكت بأوراق جدي لأكمل قراءة ما كتبه لي، و لمعرفة مزید من

الاسرار..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

بعد حادثة اصابتي بكسر في الساق الیمني، داومت الفراش لمده اسبوعین لإرتدائي
جبیرة الجبس.. بعدها فاض بي الكیل من شدة الملل، قمت الى معملي مرة اخرى
لأكمل تطویري للآلة.. لقد كانت فترة الاسبوعین الماضیین كافیةً لإلهامي بالعدید

من الافكار والتطویرات التي ستقفز بالآلة خطوات كثیرة للامام..
كانت المشكلة الاولي بالنسبة لي هي الطاقة، فبسبب قلة الطاقة المخزنة بالآلة، لم
استطع المكوث في الماضي كثیرًا.. لذلك قررت العمل على تلك النقطة.. احتاج

زیاده معدل طاقة الآلة بأي طریقة..
ظلت تلك المشكلة هي محور بحثي و شغلي الشاغل طوال شهر كامل، توصلت فیه
الى بدائل جدیدة للطاقة بإستخدام بعض العناصر و المركبات.. كم اجهدتني تلك
المرحلة بالفعل، ولكنها حمدًا الله، نجحت اخیرًا، و استطعت إطالة الفترة المتاحة
للمكوث في الزمن الاخر الى ما یقرب من سبعین ساعه كاملة، ولم استطع زیادتها
اكثر من ذلك لأنها - وفقًا لمعادلاتي - اكثر فترة ممكنه للآلة تتمكن فیها من الاحتفاظ

بطاقتها اللازمة لإتمام عملیة العودة للحاضر مرة اخرى..
و بسبب تلك النقطة السابقة، قمت ببرمجه الآلة و تهیئتها بخطة استثنائیة، یتم تفعیلها
في حالة عدم الرجوع للزمن الحالى بعد فترة تُقدر بحوالى ستین ساعه، فإن الآلة
ستقوم بفتح أقرب ممر دودي بدیل للممر الرئیسي حیث تم الانتقال منه لذلك الزمن،

و تعود بحامل الآلة الى زمننا الحالي..
أما إذا وقع حادث ما لحامل الآلة، و لم یستطع التواجد مع الآلة وقت الرحیل بعد
فترة الستین ساعه، فإن الآلة ستفعّل الخطة الاستثنائیة و تنتقل وحدها لحاضرنا من
نفس موقع الانطلاق الاساسي، حتى یتم حمایة الآلة من الوقوع في الأیدي الخطأ

أ

 

في الزمن الماضي، و منع أي اختلالات قد تحدث في الزمن بسبب اكتشاف اجدادنا
لتلك الآلة الخطرة..

بعد ذلك الشهر، تخلصت من الجبیرة اخیرًا، و استلزمني حوالى الاسبوع كي تعود
ساقي للیاقتها الطبیعیه، و بالرغم من تجاوزي الستین بعده سنوات، إلا أنني
استطعت الحفاظ على صحتي بالمداومة على ممارسة بعض من الریاضة و الالتزام
بنظام معین لتناول الطعام، و ذلك - بعد عنایة االله و حفظه - هو سبب نشاطي و

لیاقتي الصحیة الجیده بالنسبة لسني الطاعن..
انشغل بالى كثیرًا بزمن الرحلة القادمة، فالخیارات واسعه و ممتده امامي، و الوقت
ضیق و لا اعلم الى متي سیمكنني استعمال الآلة بسلام.. جال بذهني خاطر أن
اسافر لزمن الدولة النازیة، فتلك الفترة لطالما ألهبت خیال الأدباء و الروائیین بما
فیها من أحداث تاریخیة و شخصیات ذات كاریزما عالیه، اشهرهم الهر أدولف

هتلر قائد النازیة الاكبر..
اقشعر بدني فور ان تذكرت هتلر.. فبالرغم من افتتاني الشخصي به، و بشخصیته
الحازمة و عبقریته السیاسیة، إلا أن الرحمة لم تكن من صفاته المحببة، فلقد كان
السبب الاول في مقتل الالاف من الابریاء، بعیدًا عن صحة ما فعله بحق الیهود، إلا

أن شره لم یسلم منه أحد على وجه الارض وقتها..
انتابني القلق، فتلك الفترة لم تكن بالسهلة، و ذهابي لها سیحمل كمًا من المخاطرة و
قد تؤدي لحتفي بالفعل، إلا أن قراري بالسفر مرة اخرى بعد اخر رحلة تمت،
منحني حماسًا لا یوصف، اعاد لذاكرتي حماس الشباب، و الدم الثائر في العروق

یوم أن كنت شابًا في وقت من الاوقات..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

بدأت من الیوم التالى الإعداد لرحلتي القادمة المحفوفة بالمخاطر.. استلزم شحن
الآلة لتجهیزها للرحلة حوالى تسعه أیام.. قضیت تلك الایام التسعه في الاستعداد
للرحلة.. قمت بعمل جرد لمكتبة جدي الضخمه لإستخراج كل ما لدي عن الفترة
النازیة.. وجدت بالفعل حوالى ما یقرب من سته كتب، منهم مجلدین مكدسین

بالصور الفوتوغرافیة التي تسجل أهم فترات تلك الفترة..
استغرقتني القراءة في تلك الكتب السته طوال فترة شحن الآلة، و انتابني كثیر من
الحماس الممزوج بالقلق و الهلع احیانًا اثناء قرائتي لما كتب عن تلك الفترة.. لم
استطع اختیار افضل فترة یمكن السفر الیها للاستزاده و معایشة الاحداث كما حدثت
بالفعل وقتها.. فتلك في رأیي المتواضع، افضل طریقة ممكنه لي حالیا لمعرفة
التاریخ، بدلاً من التقید بما كتب في السجلات، و التي قد یتم تدوینها في ظروف

معینه بهدف طمس الحقائق أو صنع تاریخ مزیف لمن لا یستحق..
بعد تصفیتي لعدید من الاختیارات، اخترت یوم الجمعه الموافق الرابع من شهر
نوفمبر لعام 1921.. ذلك الیوم الذي تم فیه إنشاء ما یسمي بـقوات العاصفة، الذراع

أ

 

المسلح للحزب النازي، والتي كانت من اشد المساندین ولاءًا لقائد النازیة أدولف
هتلر، وتشبه لدینا قلیلاً مراكز القوي و المخابرات في فترة الستینیات..

في ذلك الیوم بإحدي قاعات فندق هوفبروهاوس العریق بالمدینة الالمانیة میونیخ،
سیدعو الحزب النازي لإجتماع سیتحدث فیه هتلر ثم سیحدث هرج و مرج في تلك
القاعه من جانب المعارضین للحزب النازي و هتلر، و یتمكن رجال حرس الحزب
في ذلك الیوم من دحر هجمات المعارضین جمیعًا، لیصبح هؤلاء الحرس بعد ذلك

نواةً لقوات العاصفة.. تلك هي بدایة تكوین جیش النازیة بالفعل..
انقضــت فتــرة التســعه ایام، وتأكــدت مــن شــحن الآلــة بــالكامل.. قمت بتــهیئة
ملابســي.. وجدت بعــض ملابــس والــدي القــدیمة، اعتقــد انــها ســتفي
بــالغرض، فــهي تشـبه الملابـس المعتـادة لتلـك الفتـرة بـالفعل.. وقمت بإمسـاك

الآلـة و ظبـط التـاریخ والمكان.. بسملت في سري.. ثم ضغطت الزر..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

استطعت تلك المرة ان اتخلص من احساس الدوار و الغثیان بسرعه نسبیًا.. یبدو
أنني سابدأ في اعتیاد ذلك الشعور بالفعل.. اخرجني افتتاني و اندهاشي بالمشهد من
التركیز في شعوري بعد الانتقال.. كان المشهد بدیعًا امامي.. فها أنا في زمن یسبق

مولدي بأكثر من عشر سنوات كاملة!!
اخذت في تأمل الناس من حولي في افتتان.. كم تختلف الاذواق وقتها عن اذواقنا
الآن.. انتابني شعور بالعظمة بمجرد رؤیتي لملابس المارة امامي وقتها، اغلب
الرجال إن لم یكن كلهم، یسیر في خیلاء وقد ارتدي حُلته كاملةً، و ازدانت ملابس
السیدات بالنقوش والقبعات الانیقة.. بل إن الاطفال أنفسهم شعرت بالاعجاب لما

یرتدونه من ملابس فخمة تنم عن ذوقٍ عالٍ..
نظرت في ساعتي، إن اجتماع الحزب سوف یُقام بعد حوالى ساعه، یجب على
الاسراع.. سألت أحد المارة من حولي عن فندق هوفبروهاوس مستعملاً لغتي
الألمانیة البسیطة نتیجة قراءات شغوفة لمده سنین في تلك اللغه الممتعه.. دلّني
الرجل على اتجاه الفندق، و إن استدل من لهجتي و مصطلحاتي أنني لست من
المنتمین لألمانیا.. و كم ستكون دهشته إن علم بأني لست من المنتمین لتلك الفترة

الزمنیة من الاساس..
بعد مسیرة ربع ساعه تمكنت من الوصول للفندق.. تأملت واجهه الفندق.. الفندق
مطلي باللون الابیض و یغطیه سقف قرمیدي كأغلب اسقف المباني الاوروبیة
وقتها، و تصطف نوافذه في طابقین ویتوسطها ناصیة الفندق التي تطل من الجانب

على قارعه الطریق..
ولجت الى الفندق و حاولت السؤال على القاعه بأقل الكلمات الممكنه تجنبًا للوقوع
في الخطأ و كشف شخصیتي بزلات لساني.. وصلت للقاعه و حجزت أحد المقاعد

و جلست في انتظار بدء الخطبة..

 

لاحظت ازدحام المكان بعد دقائق بمعارضي الحزب النازي، وهم من یُطلق علیهم
هتلر لقب المشاغبین الحمر، و بدا من تصرفاتهم و كلامهم أنهم من طبقة العمال

الكادحین، و ظهرت رغبتهم في تعطیل الاجتماع..
بالرغم من ذلك، عندما حان الوقت، وقف هتلر وراء المائدة المتوسطة للقاعه لإلقاء
خطابه.. تسارعت دقات قلبي بمجرد رؤیتي له.. تختلف رؤیته في الحقیقة عما نراه
في التسجیلات و الصور، فهو لم یكن طویل القامة، ولكن لحضوره هیبة طاغیة..
بالفعل لهذا الرجل مقدار من الهیبة و الكاریزما یمكن قیاسهم بالاطنان.. فبمجرد
وقوفه واستعداده للتحدث، صمت الجمیع بمن فیهم المعارضین المشاغبین و امسك

كل منهم بكوب جعته و اخذ في احتسائها بهدوء.. و بدأ هتلر في كلامه..
تحدث هتلر منذ البدایة بكل قوة، و اثناء حدیثه كان ینتفض بجسده و ذراعیه في
حركات عنیفه تحرك خصلات شعره الفاحم على جبهته الطویلة، تلك الانتفاضات
التي میزّت طریقة خطابته و التي سحر بها لُب الألمان لسنوات عدیده، تبعوه فیها
نحو النصر، حتى اتت نكساتهم الحربیة لتطیح بحلم الدولة النازیة و شعار ألمانیا

فوق الجمیع التي طالما تغنوا به..
بعد حوالى ساعه من الخطاب، اشتدت حدة اسلوب هتلر، و استغل سیطرته على
الحشد المجتمع بالقاعه، و امتلاكه لعقولهم بخطابه المؤثر، فبدأ في مهاجمه
المعارضین باللفظ و التجریح.. استغل احد الحضور من المعارضین ذلك التجریح
ایما استغلال.. فنهض بقامته الطویلة و نادي للحریة ثلاث مرات، لیردد انصاره من

ورائه هتافاته.. ثم في لحظات اشتعل الموقف..
بدأت اعمال الشغب في القاعه الفخمة، فقام المعارضون بقلب الموائد و الطاولات،
و اتجه بعضهم لجمع الزجاجات الفارغه و إلقائها على هتلر و اعوانه من الحزب
النازي، و اختلط الصراخ بأصوات الزجاجات المتحطمة، و في وسط الهرج
والمرج، استطعت أنا ان افلت بنفسي و اتجه صوب المخرج.. و لكن أثناء خروجي
اثار انتباهي سقوط احد الاوسمة العسكریة لأحد الحرس على ارضیه القاعه بجانب
احد الحوائط، بدافع الفضول امتدت یدي لإلتقاط الوسام و وضعته بسرعه في جیب

معطفي الثقیل الذي ارتدیته لإتقاء البرد أولاً و لإخفاء الآلة بداخله ثانیًا..
اثناء نهوضي، طالتني إحدي الزجاجات الملقاه في الهواء، فأصابتني في جبهتي
إصابه بالغه تدفق على إثرها الدماء من صدغي الأیمن.. حاولت الهرب بأسرع ما
یمكن من ذلك المكان، خاصةً بعد رؤیتي لبعض الاسلحة الناریة التي بدأت في

الظهور من كلا الجانبین..
بعد دقائق، استطاع عدد كبیر من الحضور ان یهرب لخارج القاعه، و بمجرد
خروجي من باب القاعه و اتجاهي لردهه الفندق مع الزحام المتحرك تجاه المدخل،
اندلع انفجار كبیر من خلفنا، اثار موجه هائلة من الذعر اسرعت بدفعي تجاه
المدخل فلم اتبین نتیجة ما حدث، و إن علمت بعد ذلك من قرائتي لكتاب كفاحي
الذي كتبه أدولف هتلر بنفسه، أنه قال أثناء وصفه لذلك الیوم، أن الانفجار قد قتل ما
یقرب من خمس حراس، إلا أن ذلك لم یفت في عضد الحراس المرابطین، فأكملوا

 

مقاومتهم لمعارضیهم حتى استطاعوا دحر ما تبقي منهم، و استكمل هتلر خطابه و
انهي خطابه بمشاركته في الاناشید القومیة التي طالما كانت تُنشد بعد الخطابات..

استطعت الخروج من الفندق، و مازال جرحي ینزف.. حاولت العوده لموضع
الانتقال، و استطعت ذلك بعد مسیرة خمس عشر دقیقة.. تأكدت من ابتعادي عن
اعین المارة.. فأخر ما اریده أن یراني احدهم اثناء فتحي لبوابة الممر الدودي

واختفاءي داخله..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

عدت الى معملي، و بمجرد العودة اسرعت الى دورة المیاة لغسل جرحي الذي
نزف كثیرًا في الدقائق السابقة.. و بعد ان انتهیت من تطهیر و تضمید الجرح..
جلست على مكتبي لأستریح من عناء تلك الرحلة الشاقة.. كانت بالفعل رحلة شاقة
كما توقعت.. ولكني احمد االله اني عدت منها حیًا.. فقد كان الموت قید انمله مني إن

لم استطع الهرب في وقت مناسب للنجاة من ذلك الانفجار القاتل..
ما حدث لي خلال رحلتي السابقة و ما قبلها ایضًا، اثار لدي موجه من القلق.. فتلك
الرحلات بأغلبها طالني الخطر فیها مرات عدیده.. إذن ماذا افعل إن حدث

المحظور و وقع ما لا یُحمد عقباه و نال مني الموت في احدي تلك الرحلات؟؟
قررت بعد تلك الرحلة أن احتفظ بالمذكرات في مكان آمن، و في نفس الوقت، یمكن
لك ان تصل الیه بعد مماتي.. لم أجد مكانًا افضل من بیت صدیقي عبد االله.. فذلك
الصدیق الوفي قضیت معه اغلب سنوات عمري، و استطیع أن اترك المذكرات
معه بدون اي قلق او اي خوف.. و هذا ما حدث.. فكنت اترك المذكرات معه قبل
كل رحلة اقوم بها.. فإن عدت بسلام.. ذهبت الیه في الیوم التالى و اخذت منه
المذكرات لأدون ما حدث لي فیها.. و إن لم أعد و قبض روحي ملاك الموت..

كانت المذكرات في امان عنده.. و تصل الیك بعد أن یتأكد عبد االله من وفاتي..
توقفت عند نهایة تلك الورقة من مذكرات جدي.. لأتمتم بصوت خافت:

اهي المذكرات جت لي فعلاً یا جدو.. االله یرحمك.. و متخافش.. صاحبك ادي امانته
فعلاً..

ربطت بین ما قرأته الآن و سر الوسام العسكري القدیم.. ذاك هو الوسام الذي
وجدته مع اروي و سألت صبحي عن حقیقته.. قمت من موضعي لأتجه لدرج
المكتب حیث تركت الوسام.. اخذت في تأمله للحظات.. إذن.. فذلك الوسام ینتمي
لأحد حراس هتلر النازیین.. یا لسخریة القدر.. هاهو ینتهي به المصاف معي بدلاً

من ان یوضع في أحد متاحف برلین..
رنّ هاتفي المحمول بغته، و ارتفع صوت الرنة الممیزة لـأروي.. نظرت للساعه
بسرعه لأجدها تقترب من الواحده و النصف ظهرًا.. غالبًا لقد انتهت من عملها و

ترغب في سؤالى ان نخرج معًا بعد عودتها للمنزل..
امسكت بالهاتف و قمت بالرد فورًا..

أ

 

- ألو.. ایوا یا حبیبتي؟
باغتني صوت بكاء اروي بشكل هستیري.. فسألتها في سرعه ممتزجه بالفزع:

- اروي!!!! حصل ایه؟؟ بتعیطي كده لیه؟؟ حصل ایه یا اروي؟
اجابتني وسط نحیبها و بكائها:

- الحقني یا ادهم.. شوف الحیوان اللي اسمه ممدوح عمل معایا ایه؟
انتابني الغضب فورًا فاجبتها:

- عمل ایه الزفت دا؟؟
لم استطع تبیان كلامها من كثرة نحیبها، لیزداد غضبي و ثورتي.. فأجبتها بسرعه:

- اروي لو انتي لسه عند الشغل، استنیني انا جایلك حالاً..
ارتدیت ملابسي في عجله لأستطیع الوصول لـأروي و اعلم ماهیة الورطة التي

حدثت لها.. یا االله.. ارحمنا برحمتك فأنت ارحم الراحمین!!
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

15
استلزم من الوقت ما یقرب من النصف ساعه كي أصل لـأروي.. و بمجرد وصولي
للمحطة، ذهبت لمكتبها فوجدتها بجانب رفیقاتها، و قد انهمر الدموع من عینیها

فاغرقت ملابسها من شدة البكاء.. انفعلت بشدة محاولاً فهم سبب بكائها الشدید..
بدأت في سرد ما حدث وسط نحیبها و بكائها المتقطع..

كنت قاعده في مكتبي شغالة كالعاده.. لقیت استاذ ممدوح بیطلبني فورًا.. سبت اللي
ف ایدي و رحت له، دخلت.. قعدت.. بدأ یسألني اسئلة كتیرة مش منطقیة و مش
عارفة سببها.. انتي ایه حدود علاقتك بأدهم؟ هل مستواه المادي كویس؟ هل
مستریحة معاه ولا لأ؟ لیه ارتبطتي بیه بالذات دونًا عن بقیة اللي معاكي في
المحطة؟ شویة اسئلة بجد معرفتش سببها ایه.. و لما نبهته أن الاسئلة دي شخصیة و
ملهاش علاقة بالشغل قمت طالبه اذنه بإني اخرج من المكتب وقمت.. جه بسرعه
علیا و قاللي مش قصدي واالله.. انا بس بهتم بیكي زي اختي الصغیرة و اكتر..
ولقیته حط ایده على دراعي.. ساعتها معرفتش امسك نفسي وقمت مزعقه في

وشه.. واتهمته بالتحرش بیا في مكتبه.. الحیوان..
و هنا انهمرت دموعها بغزارة، لأبدأ انا في الاشتعال.. إذن.. لقد جعلت صراعنا
شخصیًا بالفعل أیها الوغد.. حسنًا.. الویل لك.. قاطع استطراد أروي ثورتي

الداخلیة..
اول ما قلت له كده.. لقیته بدأ یزعق و یرفع صوته، و راح فتح باب المكتب و خلي
الكلام قدام الناس، و اتهمني انا اني بحاول ارشیه جنسیًا علشان یخفف عنك الجزاء
و یرجع برنامجك تاني بعد اللي عملته مع محمود الشربیني.. الحیوان عاوز یبوظ
سمعتي قدام الناس.. انا انذهلت اول ما سمعت الكلام دا بیطلع منه، و من كتر إتقانه
لدور المسكین، شویة ناس من اللي واقفین شكلهم صدقوه فعلاً.. انا مقدرتش
استحمل بجد.. جریت على مكتبي و زمیلاتي لحقوني بالعافیة و اغمي علیا مرتین..
فاض بي الكیل بعد حدیث اروي.. ذلك الوغد البائس استحق ما سأفعله له.. انطلقت
الى مكتب ممدوح بالرغم من محاولات أروي المستمیتة لإیقافي.. لن یوقفني احد

الآن.. سألقن ذلك السافل درسًا لن ینساه بالفعل!!
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

خلال ثوان، وصلت لمكتب مدیر المحطة، و لم اعر انتباهًا للسكرتیرة.. لقد اتجهت
مباشرةً نحو باب المكتب.. دفعته بقوة متسببًا في شروخ جسیمة في مواضع عدیده
منه.. دلفت للمكتب فوجدت ذلك الوغد جالسًا بكل اریحیه على مقعد مكتبه ممسكًا
بهاتفه المحمول و قد غرق في نوبة ضحك مع المتحدث بالطرف الاخر.. بمجرد

دخولي، اختنقت الضحكات في حلقه، لیخرج صوته متحشرجًا..
- انتا ازاي دخلت كده یا بني ادم؟

 

لم اجبه.. على الاقل باللفظ.. فلقد كانت إجابتي هي الامساك به من یاقة قمیصه، ثم
اذقته طعم قبضتي.. كان الامر غریبًا بالنسبة لي، فأنا طوال حیاتي لم اكن من
المتشاجرین و لم ألجأ للعنف كوسیلة لحل مشاكلي ابدًا، و لكن الموضوع الآن
اختلف.. فأنا ادافع عن شرفي و شرف حبیبتي اروي.. و لابد لذلك الوغد الدنئ من

نهایة لكل تجاوزاته المتكررة..
انهالت علیه اللكمات مني، اللكمة تلو الاخرى، حتى شعرت أن قبضاتي صارت
كآلة میكانیكیة تعمل بدون قائد، تسببت لكماتي في اصابته بكدمات و جروح قطعیه
غائرة بوجهه، سالت من جرائها الدماء بغزارة شدیدة.. بعد دقیقتین من اللكمات و
السباب المتواصل، صار وجهه كتله من اللحم المفروم، و استطاع بعض الزملاء

ان ینقذوا ممدوح من یدي بصعوبة بالغة..
استقوي ممدوح بمن حوله و استغلهم كوسیلة للضغط، فبدأ في الصراخ و العویل و

محاولة إنكار أي تهم عن نفسه، و إلقاء اللوم على و على أروي..
- شفتوا یا نااااس.. شفتوا البیه المحترم؟؟ جاي یتهجم علیا جوا مكتبي؟ یعني الهانم
بتاعته بتحاول تغویني و هو جاي یضربني.. دي بقت سوق خضار مش مكان شغل

محترم!!!
اجبته بكل غضب: متتكلمش انتا عن الاحترام یا.. وارفقت جملتي بصفعه على
وجهه اخرسته و زادت من اشتعال الموقف.. لیتمكن بعدها من الصیاح بوجهي

ولأول مرة بعد امساك زملائي لي و محاولة ابعادي عنه..
 

- اخرج برااااااااااا.. انتا مرفووووود انتا و السنیورة.. اطلعوا برة المحطة یا شویة
كلااااب!!

تناوبنا السباب و الصیاح حتى قام زملائي بإنهاء الموقف و محاولة تهدئة الطرفین..
عدت الى اروي لأرحل معها، فوجدت أن احدي زمیلاتها قد قامت بإیصالها لمنزلها
بعد ان فقدت الوعي مرة اخرى.. خرجت بسرعه لأستقل الحافلة لكي أصل
لـأروي.. و اثناء ذلك قمت بالاتصال بها على هاتفها المحمول، فأجابت اروي

بصوت رقیق غلبت علیه اثار التعب:
- ایوا یا ادهم.. انا اسفة بجد.. اغمي علیا و لقیت شیرین بتاخدني معاها في العربیة

توصلني للبیت..
اجبتها في هدوء: خلاص مفیش مشكلة.. انا خدت حقنا..

اجابتني في سرعه: عملت ایه؟ اوعي تكون اتهورت زي عادتك یا ادهم!!
رددت: اتهورت.. لأ متقلقیش.. مفیش اي تهور.. هاحكیلك اللي حصل لما اجیلك

اجابت: لأ یا ادهم.. متتعبش نفسك ارجوك.. انا ان شاء االله هریح في السریر و ابقي
كویسة بكرة..

 

اصررت على المجئ الیها و لكن لم یكن لإصراري فائده امام عناد اروي الشدید..
لأضطر للذهاب لمنزلي عوضًا عن منزلها، و قد انتابني الغضب مما حدث الیوم،

ومما آلت الیه الأمور..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

عدت للمنزل.. لم اقم بتغییر ملابسي من فرط غضبي و عدم تركیزي.. فكان نومي
هو الحل الأمثل للهروب من ذلك الموقف..

استیقظت مساءًا على صوت أذان العشاء.. قمت بالاستحمام و اداء صلاة العشاء و
ما فاتني قبلها من صلوات ضیعتها اثناء نومي.. وبمجرد انتهائي، اتصلت هاتفیًا

بـأروي للاطمئنان على حالتها.. اجابتني والدتها بصوت هادئ:
- ازیك یا ادهم یابني دلوقتي؟ عامل ایه؟

-الحمد الله یا امي.. اروي عامله ایه دلوقتي؟
 

- واالله یا ادهم لسه نایمة.. من ساعه ما جت و هي راقده في السریر.. بس بإذن االله
تصحي بكرة فایقة..

انتابتني الحسرة، فلقد رغبت في سماع صوتها للتأكد من سلامتها، و لم استطع
بالطبع ان اطلب من امها ان توقظها من نومها.. إذن فلیتأجل حدیثنا للغد.. اجبت

والدتها و خیبة الامل واضحه في صوتي:
- خلاص یا امي.. خلیها تستریح و إن شاء االله بكرة اجي اشوفها إن امكن

- تنور یابني البیت بیتك في اي وقت.. ربنا یخلیك لینا یا ادهم..
- العفو یا امي.. ربنا یخلیكي انتي لینا.. السلام علیكم..

انهیت الاتصال ثم قمت لأري ما یمكن عمله الیوم فلم أجد افضل من استكمال قراءة
مذكرات جدي.. عسي أن تكون بلسمًا شافیًا لجروح نفسي، و خیر مخرج من تلك

الساعات القاتمة..
ظللت لأیام في حالة نفسیة بدیعة.. فلقد كانت رحلتي الاخیرة بالرغم من متاعبها
الجسیمة، إلا أنها اعطتني دفعه معنویة شدیدة لأكمل تجاربي و اطور من آلتي

العزیزة..
كان موعدي مع القدر في تلك اللیلة التي اعدت فیها فتح صندوق مقتنیات والدي
الراحل - رحمه االله - حیث وجدته موضوعًا اسفل دولابه.. ذلك الصندوق كان
كالبوابة التي فُتحت لتعید ذكریاتي امام ناظري كشریط فیلم سینمائي.. وجدت
الغلیون الخاص بوالدي، نظارته ذات العدسات الزجاجیة شدیده النقاء، محفظته
الجلدیة الفخمة المصنوعه بأیدي افضل الصناع الایطالیین.. ثم ساعته.. تلك الساعه
الذهبیة الممیزة من الطراز المسمي بساعه الكاتینة ذات السلسلة و التي اشتهر بها
والدي في شارعنا قدیمًا.. نالت تلك الساعه اعجابي منذ ان رأیتها في صغري…

أ أ

 

تناولتها بأنامل مرتعشة، تأملتها في رهبة و اعجاب.. تلك النقوش المتداخلة، و
مقبضها الصغیر المنمنم، و بیت الشعر المنقوش على غطائها الذهبي والذي نظمه
والدي بنفسه و طلب ان یتم تدوینه على الساعه.. و ما الحیاة إلا رحلة.. كلنا فیها

مسافر..
اعدت قراءة البیت مرات و مرات.. یالها من جمله بلیغه، تحمل في طیاتها معانٍ
عدیده.. و لقد ادركتها بالفعل بعد ان سافرت في ثلاث رحلات استعدت فیها ازمان
غابرة.. كلنا نسافر في حیاتنا.. نسافر في المكان و في الزمان، و لكن سفرنا محكوم
بقوانین صارمة تمنعنا من العودة.. و ها أنا قد اخترقت تلك القوانین و عدت

بالفعل.. عدت اكثر من مرة.. و قد اعود مرات اخرى ایضًا..
استغرقت في ذلك الصندوق لساعات، عدت بعدها لتجاربي و تطویري لآلة النقل..
بعد ان انتهیت من مشكلة تخزین الطاقة، واجهتني مشكلة اخرى.. ألا و هي الحجم
الكبیر نسبیًا لجزء اعاده النقل، و الذي اضطرني في الرحلات السابقة ان احاول
تخبئتها بأي شكل او بوضعها في ثنیات ملابسي الثقیلة.. لذلك اردت ان اتوصل لحل

یغنیني عن عناء اخفاء الالة..
استطعت بعد مراحل متتابعه ان اقلص حجم الالة كثیرًا، فصارت في متناول الید
بدلاً من كونها في حجم علبة متوسطة الحجم.. لا اعلم لماذا.. و لكن مرأى ساعه
والدي القدیمة لم یبتعد عن ذهني.. و انتابتني رغبة شدیده في استعمال تلك الساعه

فیما یتصل بتجربتي..
قمت بفك الساعه بحرص شدید، و استطعت بخبرتي المتواضعه ان اغیر قلب
الساعه الیدوي بجهاز میكانیكي صغیر یتولي تشغیل الساعه بشكل عادي، و في
نفس الوقت امكنني ان افرغ مساحة كبیرة داخل الساعه، فحملت بداخلها الجزء
الخاص بإعاده النقل، و بعد انتهائي من جمع اجزاء الساعه، صارت الساعه الآن

هي آلتي الجدیده..
شعرت بفرحه عارمي تجتاحني لنجاحي في تنفیذ تلك الخطوة الهامة.. فذلك
التطویر الاخیر اتاح لي ان اتخلص من مشكلة الحجم و ما قد ینتج عنها من مشاكل
و اخطار تهددني في رحلاتي بسبب انتباه الاخرىن من حولي للآلة.. بالاضافة
لذلك، فلقد جمعني ذلك التطویر بجزء من والدي سیظل معي دائمًا في رحلاتي..

أستمد منه الدعم و الثبات.. و اشعر معه بالاطمئنان و الراحة..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

اغلقت مذكرات جدي، مكتفیًا بما قرأت الیوم و خلدت للنوم مرة اخرى استعدادًا
لزیارتي لـأروي صباح الغد..

استیقظت في الصباح على صوت رنین جرس الباب.. قمت مسرعًا، و بمجرد ان
فتحت الباب فوجئت بـأروي واقفة امامي..
- أروي!! انتي ایه اللي قومك من السریر؟؟

 

اجابتني اروي في هدوء:
- بعد اللي حصل امبارح قلت لازم انا اللي اشوفك بنفسي

احتضنتها و قبلتها على جبهتها..
- ربنا یخلیكي لیا.. بس برضو مكانش ینفع تتعبي نفسك و تیجي.. انا كنت جاي لك

كمان شویة
ابتسمت قائلة: خلاص انا جیت لك لحد عندك.. اخبارك ایه دلوقتي؟

بادلتها الابتسام و اجبتها اثناء دخولنا لغرفة مكتب جدي:
- الحمد الله انا كویس مادام شفتك.. و متقلقیش.. اخدت حقنا من اللي اسمه ممدوح

دا..
انزعجت قلیلاً لدي سماع اسمه.. و رجتني قائلة:

- بلاش تنطق اسمه تاني.. حسبي االله ونعم الوكیل فیه.. انا بعد ما صحیت امبارح
باللیل، شیرین زمیلتي حكت لي على التلیفون انه رفدنا من الشغل؟

اجبتها بحزن: اه.. للاسف.. كده بقینا عواطلیه احنا الاتنین..
ابتسمت ثم غمزت بعینیها و قالت: احسن.. خلصنا من وشه.. ان شاء االله ربنا

یعوضنا في شغلانة تانیة
استمر حدیثنا لدقائق اخرى حتى انستني واجب الضیافة.. فقمت لعمل كوبین من
الشاي لنا.. تبعتني للمطبخ و تحادثنا قلیلاً اثناء اعدادي للشاي، ثم عدنا للمكتب مرة

اخرى..
وضعت اروي كوب الشاي امامها على سطح المكتب ثم سألتني في اهتمام:

- مقولتلیش ایه الموضوع اللي كان عاوزك فیه استاذ عبد االله المحامي؟
لم ارغب ان اروي لها موضوع مذكرات جدي.. فاختلقت الاجابة لكي انهي هذا

الموضوع:
 

- ااااه.. دا كان بیكلمني في مواضیع بخصوص المیراث و كده.. و بیسألني لو
احتجت اي حاجة اني اطلبها منه على طول.. راجل ذوق اوي فعلا..

قبل ان تتفوه اروي بكلمه اخرى، رنّ جرس هاتف المنزل بصوته المزعج،
فاهتزت أروي من المفاجأة و ارتطمت یدها بكوب الشاي الذي سرعان ما هوي

على الارض و تهشم لعشرات القطع الزجاجیة..
اسرعت اروي بتجمیع القطع المتناثرة فیما قمت أنا لإجابة الهاتف.. خرجت الى
الردهة لأجیب على المكالمة، فوجدته متصلاً قد اخطأ الاتصال.. عدت الى غرفة

المكتب.. لأندهش مما رأیت..
ً

 

وجدت اروي واقفة في وسط المكتب.. حاملة بین یدیها ذلك الشئ الذهبي.. انها
ساعه جدي الذهبیة!!

∞ ∞ ∞ ∞ ∞
سألتني أروي في براءة:

- إیه دي یا ادهم؟؟ وانا بجمع الازاز المتكسر، لقیتها مرمیة جنب المكتب في حته
مش واضحة.. دي شكلها ساعه دهب بجد!! علیها نقوش حلوة اوي و مكتوب علیها

جمله كده مش عارفة اوضحها اوي.. مكتوب و ما الحیاة إلا…. إلا..
اجبتها في دهشة: رحلة.. كلنا فیها مسافر!!
ردت بدهشة مماثلة: صح.. عرفت منین؟!

اجبتها: دي ساعه جدي االله یرحمه.. بس ازاي وصلت هنا؟
اجابت في تلقائیة: مادام بتاعة جدك یبقي اكید هتبقي هنا في مكتبه.. بس حلو اوي
الزرار اللي فیها دا.. شكله ممیز عن الساعه كلها و اكملت جملتها بالضغط على

ذلك الزر..
صرخت بها قائلاً: لأأأأأأأأأأ…

اندهشت عندما صرخت بها كذلك.. تلك كانت المرة الاولي التي اصرخ بها بتلك
الطریقة وبدون سبب مقنع.. فسألتني و قد تملكتها الصدمة:

- ایه یا ادهم!! زعقت لي لیه؟؟
لم استطع اجابتها بسبب عقلي الذي ازدحم بالاسئلة و الاستفسارات.. كیف لم تنتقل
في الزمن بمجرد ضغطها للزر؟ هل تلك الساعه هي بالفعل ساعه جدي الذي طور
آلة الزمن بها؟ لقد اكدت اروي ذلك بقرائتها لبیت الشعر المدون على ظهر الساعه..

و لكن لماذا لم تنتقل؟ هل كانت مذكرات جدي كلها اوهام من صنع خیاله؟؟
اســرعت تجــاه أروي و اخــذت منــها الســاعه لأعاینــها عــن قــرب.. اندهشــت
اروي مـن افعـالي، و شـرعت فـي سـؤالى بعصـبیة بینمـا لـم التفـت لمـا تقول.. فقـد
انشـغلت بـالفعل فـي معاینـه السـاعه.. انها نفـس النقـوش التـي كتـب عنـها جـدي
فـي مذكراته.. و نفس بیت الشعر المدون.. و ازرار الساعه التي ترتبط بآلة الزمن
بداخلها، كما أن التاریخ المضبوط بالساعه في خانة التاریخ لم یمت لیومنا بصلة
فعلاً، و عقارب الساعه لم تشر لوقتنا الآن.. ماهذا الذي اراه.. واقع ام خیال.. حقیقة
ام وهم؟؟ شعرت بعقلي ینشطر نصفین من كثرة ما اعانیه الآن من التفكیر.. و قطع

تفكیري صیاح أروي..
- ادهم رد علیا!!! انتا بتعمل كده لیه؟؟

اجبتها بهدوء: من فضلك یا اروي.. سیبیني دلوقتي لوحدي..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

لم ادر كیف طلبت منها هذا الطلب.. ولا كیف قلته بتلك الطریقة.. حتى اروي نفسها
لم تصدق ما سمعت.. ولكنها خرجت من الباب مسرعةً و الدموع تتفجر من

عینیها..
امسكت بالساعه.. غیر مصدق لما حدث.. سواء عثور اروي على الساعه بالصدفة
البحته.. او ما قلته لـاروي الآن.. بعد دقائق استفقت من تلك الحالة التي غرقت فیها
قلیلاً.. و انزعجت مما حدث، یجب أن اكلم اروي في الهاتف حالاً لأعتذر لها عن

سوء تصرفي..
لقد اثبتت العلماء انه لا وجود لما یسمي بآلة الزمن.. و هاهي اروي تثبت ذلك
بالتجربة العملیة.. لقد ضغطت زر الساعه فلم یحدث اي شئ او یتغیر ما حولنا قید
انمله.. لقد اندفعت و صدقت ما حدث لرغبتي في رؤیة جدي الراحل ولو لمرة

اخیرة.. و لكن كلا.. لقد توفي جدي بالفعل.. و ما ذهب لن یأتي ثانیة..
كنت قد هممت بطلب أروي على الهاتف، و لكن استوقفني تلك الخاطرة الاخیرة..
ما ذهب لن یعود ثانیة.. تذكرت كلمات جدي في مذكراته.. لقد وضع للآلة خطة
استثنائیة تجبرها على أن تعود للحاضر تلقائیًا بعد ستین ساعه إذا لم یتم الانتقال
یدویًا للحفاظ على التجربة من الوقوع في الایدي الخاطئة بالماضي.. و كذلك قال
جدي ان الساعه یتم شحنها بالطاقة من اجهزة المعمل الخاصة به.. فماذا لو أن
الساعه قد نفذت الطاقة المخزنه بها، لذلك لم یحدث اي انتقال عندما ضغطت اروي

على زر الانتقال..
بدأت ملامح الصورة تتجمع امامي قلیلاً.. هرعت لمذكرات جدي اقلبها في سرعه

حتى وصلت لآخر صفحة و قرأتها في عجلة..
قررت في رحلتي القادمة ان اسافر لزمن الحجاج بن یوسف الثقفي.. ذلك الرجل
الذي اختلفت فیه الاراء، فهناك من وصفه بالمبید و السفاح لكثرة من قُتل في عصره
ظلمًا، و لجرائمه الشنعاء في حق المسلمین حتى وصل به الامر لضرب الكعبة
المشرفة بالمنجنیق.. بینما یصفه البعض الاخرون بحافظ القرأن الكریم و القائد
المؤمن الذي یبكي لسماع ایات الذكر الحكیم.. إن هذا الرجل لشخصیة معقدة بالفعل

تحتاج ان اسافر لزمنه لأعلم عنه الحقیقة من افواه ابناء شعبه وقتها..
انتهت الورقة الاخیرة من مذكرات جدي بتلك الكلمات.. لا یوجد ذكر لما رأه في

تلك الرحلة..
اخذتني الصاعقه عند وصولي لتلك النقطة… جدي ذهب للماضي في اخر رحلة من
رحلاته العدیدة.. ولكنه لم یأت للحاضر.. فقط الساعه هي التي تمكنت من العودة

مرة اخرى بسبب خطة الحمایة..
فقط الساعه..

جدي حُبس في الماضي..
جدي لم یمت..

 

جدي مازال حیًا!!!!!
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

 

16
لم احتمل هول المفاجأه تلك المرة، فقد فاق ذلك كل الحدود.. كل ما قرأته بتلك

الورقات في كفة، و ما وصلت الیه الآن في كفة اخرى تمامًا..
أیعقل أن یظل جدي حیًا، وحیدًا في زمن آخر یسبق زمننا بمئات السنین؟!

و هل إذا صحت استنتاجاتي.. فما الخطوة القادمة؟؟ ماذا بیدي ان افعله لأعیده
لحاضرنا؟

سیتطلب ذلك مني ان اعود لذلك الماضي لأنقذه مما یقابله من مصیر غامض في
ذلك العصر المظلم الذي وصفه جدي بورقته الاخیرة..

ارتمیت على الفراش و في یدي اخر ورقة كتبها جدي.. انها تثبت ولا شك انه لم یعد
من رحلته، كما أن وجود الساعه مع علمي بتفاصیل الخطة الاستثنائیة لإنقاذ الاله..

كل ذلك یؤكد بالفعل صحة نظریتي..
جدي قد یكون حیًا و معزولاً بالماضي، و یجب على العودة لإنقاذه..

بعد ان اتخذت ذلك القرار، بدأت اجهز نفسي لما قد یحدث.. سأحتاج اولاً لشحن
الآلة بالطاقة، و هذا ما لم اكن قادرًا علیه لولا الاستعانه بإرشادات جدي في
مذكراته.. فلقد شرح الخطوات كاملةً و كیفیة استعمال الادوات و الاجهزة الخاصة
بذلك، و ارفق شرحه بالرسوم الموضحة لكل خطوة.. كأنك علمت بما سیحدث الآن

یا جدي..
الآن امامي تسعه ایام بالتمام و الكمال لتكمل الآلة دورة شحنها.. بدأت في الاستعداد
شخصیًا لتلك الرحلة.. حسبما قال جدي في مذكراته، لقد كانت المعلومات هي اللبنة
الاساسیة لأي رحلة یقوم بها.. اتجهت لمكتبة جدي الضخمة، محاولاً استخراج ما

قد یلزمني من الكتب المتعلقة بفترة الحجاج بن یوسف الثقفي التاریخیة..
خلال تلك الایام التسعه، لم یشغل بالى سوي القراءة ثم القراءة ثم القراءة.. و مع كل
كلمة تطالها یدي و تقرأها عیناي، یزداد فزعي و خوفي من تلك الفترة المظلمة

بالفعل..
ابو محمد الحجاج بن یوسف الثقفي، القائد الاموي الذي استطاع بدهائه و مكره و
خبرته الحربیة ان یصل لتولي الامارة على مكة و المدینة و الطائف و العراق، لیبدأ
في بسط نفوذه و سلطانه على تلك الاراضي و یخضعها لسیطرته بالرغم من وجود

بعض القلاقل و الثورات بالعراق وقتها..
علمت لماذا اختار جدي تلك الفترة بالذات لتكون مقصدًا لرحله اخرى من رحلاته
المكوكیة في مجري الزمن، فالحجاج لم یكن بالشخصیة السهلة، و كان زمنه بالفعل
مثیرًا للدهشة و الفضول ایضًا.. فبالرغم من شهرته بالمبید و السفاح والسفاك و
التي اتفق علیها اغلب مؤرخین تاریخ المسلمین، إلا انه اشتهر ایضًا بتعظیمه للقرآن

و عمل في بدایات شبابه كمحفظًا للقرآن و الحدیث للفتیة و الغلمان..
أ

 

تأتي بعد ذلك حادثة رمي الكعبة بالمنجنیق اثناء حصاره لمكه وقتما حارب عبد االله
بن الزبیر بعدما طلب عبد الملك بن مروان ان یتم التخلص منه.. تلك الحادثه ذكرها
اغلب المؤرخین واكدوها، بینما رد ابن تیمیه على تلك الواقعه و دحضها -كما
قرأت في مكتبه جدي - فذكر في احد كتبه قائلاً والحجاج بن یوسف كان معظما

للكعبة لم یرمها بمنجنیق..
ظلت شخصیة الحجاج مثیرة للجدل حتى بعد وفاته.. فقد قرأت في احد الكتب انه
اثناء احتضاره بمرض في امعائه یشبه في اعراضه سرطان المعده، أنه دعا الله و
قال: اللهم اغفر لي فإن الناس یزعمون أنك لا تفعل.. بعد ذلك وجدت في احد كتب
ابن كثیر التي تمتلئ بها مكتبه جدي.. انه قال فیه كان فیه شهامة عظیمة وفي سیفه
رهق، وكان یغضب غضب الملوك وكان جبارًا عنیدًا مقدامًا على سفك الدماء
بأدني شبهة، وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنیعة ظاهرها الكفر، فإن كان قد تاب منها
وأقلع عنها، وإلا فهو باق في عهدتهاولكن یخشي أنها رویت عنه بنوع من زیادة
علیه.. و كان یكثر تلاوة القرآن و یتجنب المحارم، و لم یُشتهر عنه شئ من التلطخ
بالفروج، و إن كان متسرعًا في سفك الدماء. فلا نكفر الحجاج، ولا نمدحه ولا نسبه

ونبغضه في االله بسبب تعدیه على بعض حدود االله و احكامه، وأمره الى االله..
اكتسب كراهیه الاتباع قبل الاعداء، فلقد كرهه الامویون أنفسهم لأفعاله الشنعاء
كحرب ابن الزبیر و قتله إیاه بعد النصر في مكه بخلاف العدید من القرارات
الدمویة التي اتخذها وقت إمارته التي قاربت العشرین عامًا.. كما حقد علیه
الخوارج لما فعله بهم من قتل و ذبح، و كرهه الشیعه ایضًا لعدم احترامه آل البیت،

فنسجوا حوله الاساطیر و الخوارق حتى قارنوه في وصفه بالشیطان نفسه..
اختتمت قراءاتي بالجمله التي ذكرها المؤرخ إبن سعد في كتابه الطبقات الكبیر،
فقال: أن الحجاج قال واصفًا نفسه: ما أعلم الیوم رجلاً على ظهر الأرض هو أجرأ

على دم مني.. فأي رجل كان ذلك الحجاج بالفعل؟!
ادعو االله ان اجدك سالمًا یا جدي.. فقد اشتقت الیك بالفعل و قد حان وقت اللقاء..

∞ ∞ ∞ ∞ ∞
تتابعت الایام و انتهت المهلة المحددة لشحن الآلة، و حانت لحظة المعرفة.. الآن
سأري الیقین بنفسي، لأدرك حقیقة مذكرات جدي.. أكانت روایةً صادقةً لأحداث
غریبة مرت بجدي، ام كانت اوهام الشیخوخة التي تصیب كل من هرم و شاخ

وقارب عمره نهایته مثل جدي رحمه االله..
راجعت قواعد السفر، و احتجت ما یقرب نصف یوم لتحقیق المعادله الصحیحة
التي تمكنني من التوصل للرقم المسلسل الخاص بالثقب الدودي الذي سأعبر من
خلاله.. استعنت بنصائح و معادلات جدي التي استخرجتها من مذكراته القیمة، و
اكملت الباقي بمعلوماتي القلیلة الناتجه عن بعض قراءاتي في مجال الفیزیاء.. عسي
أن اكون قد وفقت في ذلك، وإلا سوف اضیع في فضاء الزمكان و اغدو ترابًا

منثورًا..
ً

 

وقفت في مكتب جدي حاملاً الساعه، مستعدًا لتلك الرحلة الغریبة، قمت بضبط رقم
الثقب الدودي و تأكدت من جاهزیتي لما سیحدث.. انتابني الخوف للحظة، و تمنیت
لو أمكنني التراجع والاعتقاد بعبثیة الفكرة و البعد عنها تمامًا.. و لكني تذكرت سبب

سفري، أنا مسافر لزمن اخر لأنقذ جدي.. و لن اتواني عن تلك الفكرة ابدًا..
ضغطت زر النقل، لأشعر بذبذبات شدیده حولي.. اغضمت عیني خوفًا مما قد
یحدث ثم قررت ألا اغمضها.. سوف أشاهد ما یحدث.. مدفوعًا بفضول عارم،
وجدت المكان من حولي و قد بدأ في التلاشي، و امامي الثقب الدودي ممتدًا في
الفراغ یلتقمني كما التقم الحوت سیدنا یونس علیه السلام في احشائه، یتلاشي
الصوت والضوء من حولي لیبدأ في الانضغاط بجانبي و نمر جمیعًا من ذلك
الثقب.. احساس صعب بالتلاشي و الوجود في ذات الوقت، و كأن الهواء قد تلاشي

هو الآخر، فانطبقت رئتي و مُنع عنها التنفس حتى إشعار آخر..
فجأه تقترب مني بقعه الضوء.. اتجه الیها بتسارع شدید.. ثم لا شئ سوي الارتطام

بعنف على أرضیة رملیة حارقة..
ازیز من الآلة ثم صمت رهیب..

لقد تم الانتقال بنجاح…
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

الآف المطارق ترتطم برأسي من علٍ.. و كأنني على ظهر سفینه في مهب الریح،
لم استطع الوقوف في البدایة بسبب ذلك الغثیان الشنیع.. تقیأت ثم اغمضت عیني
لدقائق معدوده حاولت فیها استكشاف موقع انتقالي.. الرمال الحارة تلهب یداي و

ذراعي.. طقس حارق و الشمس تتوسط السماء.. إذن انا في وقت الظهیرة..
بالنسبة للمكان و الزمان، فأنا الآن في عصر الحجاج بن یوسف الثقفي، و بالتحدید
في منتصف العام التسعین الهجري او العام 709 بما یوافقه في التأریخ المیلادي..
اختار جدي مدینه واسط التاریخیة التي انشأها الحجاج على الضفة الغربیة لنهر
دجلة و جعلها عاصمه له في منطقة سواد العراق وقت أن كان والیا على تلك

البلاد..
انتقلت بواسطة الثقب الدودي التالى للثقب الذي استخدمه جدي، اي انه متواجد بتلك
المنطقة منذ ثلاث ایام.. اتمني من االله ألا یداهمني الوقت و استطیع العثور علیه حیًا

قبل ان ینتهي وقتي انا ایضًا..
استطعت تمالك نفسي قلیلاً.. وقفت منتصبًا بعد عناء شدید.. نظرت حولي فلم أر إلا
رمال الصحراء تحیطني من جمیع الجهات.. و في الافق تلوح مدینه واسط
بأسوارها العالیة و بوابتها الضخمة.. لزم الوصول الى تلك المدینه ما یقرب مسیرة
النصف ساعه تحت شمس الصحراء المشتعله.. ارهقني قیظ الصحراء، فما أن

وصلت الى بوابة المدینه حتى هرعت لأقرب نخلة استظل بها..

ً أ أ

 

اثناء استظلالى بتلك النخلة الیابسة، أخذت في تأمل ما حولي.. مازلت مندهشًا مما
اراه، فمنذ ما یقرب الساعه كنت بمنزلي بحي شبرا، و ها أنا الآن بالعراق في زمن

قبل یسبق زمني بما یفوق الألف عام..
من حولي تنتشر الدكاكین و المباني القدیمة.. أو الحدیثة إن صح القول، فأنا الآن في
حاضرهم و لیس بماضي.. الدواب تسیر بوسط السوق یقودها رجال و غلمان
بملابس قماشیة غریبة و عمام مختلفة الالوان.. وعلى مسافة بعیده یتجول بعض
الجنود بسیوفهم و خوذاتهم اللامعه تحت اشعه الشمس المتوهجة.. تلتقط أذني العدید
من الجمل من حوارات بین البائعین و الزبائن، او بین السائرین تجاهي.. اللغه
عربیة لا شك في ذلك، ولكنها لهجه مختلفة تمامًا عن لهجاتنا المعاصرة، بل إنها
تختلف قلیلاً عن لهجات اهل الشام و العراق في وقتنا هذا.. لهجات قدیمة تمامًا..
ولكني استطعت ادراكها بصعوبه.. فلیوفقني االله في ذلك وإلا سیكون الموت هو

نصیبي..
بالطبع جذب اختلاف هیئتي و ملابسي انتباه جمیع من حولي، و بالرغم من حذري
و ارتدائي لملابس بسیطة حاولت ألا اظهر فیها الفرق الشاسع بین جودة ازیائنا

وجوده ازیاء الماضي، إلا انني مازلت غریبًا عنهم بملابسي تلك..
بعد ان استرحت قلیلاً، بدأت في جولة البحث مسابقًا للزمن لكي اجد جدي خلال
مهلة الستین ساعه المحددة لي قبل ان اعود لحاضرنا.. سألت احد الباعه إذا شاهد
شخصًا مختلفًا قلیلاً خلال الایام السابقة.. اعتقد انه لم یفهم طلبي في البــدایة،
ولكنــه بعــد ذلـك اجـابني بـالنفي، تركتـه ذاهبًـا بـإتجاه احـد الباعـه المجـاورین
لـدكانه.. و لكـن الاجابـة ظلـت بالنفي.. اسـتغرقت منـي عملیـه السـؤال تلـك مـا
یقـرب مـن سـاعتین.. لأعود بعـدها الى النخلـة التـي اتكـأت علیـها جـارًا خلفـي
اذیـال الخیبــة.. لقد فشــلت فــي إیجــاد جــدي.. لم یــراه احــد، و لــم اســتطع
معرفــة موضــعه فــي ذلــك الزمان.. بــدأت فــي طــرح الاســئلة على نفســي..
لماذا تــوقعت وجــوده بتلـك المـدینه اسـاسًا؟؟ ربمـا قـد جـاء الى هنـا و انتقـل
لمـدینه اخرى خـلال الیومین السابقین.. ولكنني ابعدت تلك الفكرة عن خاطري..
فإذا اراد الذهاب لمدینه اخرى لكان من الاولي توفیرًا للوقت ان ینتقل لتلك المدینه
مباشرةً.. ثم جال بذهني سؤال اثار تفكیري تلك المرة.. لماذا اعتقدت ان جدي قد
یثیر الریبة بهیئته إذا انتقل لهذا الزمان؟ من المفترض انه بعد خبرته الشدیده
بالانتقال لأزمان اخرى، فقد استطاع التنكر بشكل ناجح كي یستطیع التكیف مع من

حوله و بذلك یندمج بین المارة بدون ان یثیر الشكوك..
اثارت تلك الفكرة هلعي، فأنا الآن لا ابحث عن شخص واحد یمكن تمییزه، بل إني
ابحث عن شخص تتفق هیئته مع ما یقرب نصف اهل تلك المدینه.. تملكني الیأس و
الحزن بعد ان توصلت لتلك النقطة.. ها أنا قد سافرت في الزمن، و لكنني فشلت في

العثور على جدي الحبیب..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

ً

 

ارتفع صوت الآذان من منتصف السوق معلنًا عن صلاة العصر.. قمت من
موضعي و اتجهت الى المسجد الذي بناه الحجاج.. وصلت الیه فهالني عظمة بناء
ذلك المسجد و ضخامه حجمه.. تأملت لبرهه روعه زخارفه و جمال رسومه.. قطع

تأملي استعداد الناس للصلاة.. وقفت بجانبهم و اعلن الإمام الصلاة..
انتهینا من أداء الصلاة.. لیعقب الصلاة خطبة قصیرة تحدث فیها الامام قلیلاً، و
اختتمها بالدعاء للوالى الحجاج و للخلیفة الولید بن عبد الملك سدد االله خطواتهم و

هداهم لما فیه خیر الامه..
خرجت بعد ذلك من المسجد، و اثناء عبوري لبوابة المسجد، وجدت من یستوقفني
و یضع یده على كتفي الایسر.. ارتعبت قلیلاً و التفت لأنظر الیه.. وجدته رجلاً في
الاربعین من عمره، طالت لحیته السوداء قلیلاً حتى بدایة صدره العریض، ویبدو
من نظرات عینیه السوداوتین انه ممن یتصفون بإتقاد الذهن وحضوره.. ألقي على

السلام ثم قال:
كم ادهشني مظهرك وتأملك في نقوش مسجدنا الجامع بذهول واضح منذ ان خطت

قدماك ابواب المسجد.. أأنت غریبًا عن تلك المدینه؟
اجبته في قلق: نعم.. لقد جئت من بلاد بعیده كثیرًا عن مدینتكم..

ابتسم قائلاً: إذن یجب علیك أن تحل ضیفًا لدي.. فنحن نكرم من یأتي لمدینتنا،
خاصةً إذا كان غریبًا مثلك لا دار له ولا موضع..

حاولت التملص و لكني تذكرت عادات العرب قدیمًا، و سلوكهم و كرمهم الشدید مع
الضیف، فلم استطع الجدال كثیرًا.. سرت بجانبه متخذین الطریق الى منزله بجوار

سوق المدینه..
تملكني الفضول، فحاولت انتهاز تلك الفرصة و بدأت في الحوار معه.. اخبرني أنه
المنصور بن مالك بن الحكم احد كبار تجار مدینه واسط لدیه من البنین خمس و من
البنات واحده.. یقطن بمنزله الذي بناه بنفسه بجانب السوق لیكون قریبًا من محل
عمله.. یعمل المنصور في تجاره الاقمشة و الملابس و یشتري اجود انواع الحریر

من بلاد الصین لیحیك منها اروع الاردیة والجلابیب..
اخبرني كذلك بسبب تسمیة مدینتهم باسم واسط.. فعندما جاء الحجاج العراق وجد
ادارة كل من مدینتي البصرة والكوفة مفصولة عن بعضها، لذلك كان علیه ان ینتقل
في اقامته بینهما، فرأى من حسن ادارتهما ان یتخذ مكانا وسطًا بین هاتین المدینتین
یكون مقرًا لحكمه، یؤمن منه السیطرة الكاملة علیهما، ویشرف على اعمال
سكانهما، فاختار موضع واسط وبني مدینة فیه، وبذلك اصبحت مدینة واسط مركزًا

اداریًا للإشراف على ادارة البصرة والكوفة..
أثناء سیرنا بالطریق، شاهدت في الافق قصرًا عالیا ذو قبة خضراء تلمع بشده تحت
ضوء الشمس الساطع، فسألته عن الحجاج، محاولاً معرفة حقیقته.. مستغلاً وجودي

مع احد رعیته.. فتقطب جبیناه و بدأ في الحدیث.. قال في البدایة:

أ أ أ

 

بدون الوالى الحجاج لما صرت أنا بتلك المنزلة الرفیعه بمدینه واسط، فهو من أنشأ
مدینتنا و ارسي قوانینها كما ارسي النظام بمدن العراق بأسرها.. ولولا سیاسته
الحازمة في إقرار الأمن لما استطعنا ان نأمن على بضاعتنا او قوافلنا، فلقد امر
حراسه بالضرب على أیدي اللصوص وقطاع الطرق، و حمي اهل مدینتنا من
الاخطار و المنكرات، فأمر بقتل الكلاب الضالة، ومنع التبول أو التغوط في
الأماكن العامة، ومنع بیع الخمور، وأمر بإهراق ما یوجد منها، وعندما قدم الى
العراق لم یكن لأنهاره جسور فأمر ببنائها، وأنشأ عدة صهاریج بالقرب من البصرة
لتخزین میاه الأمطار وتجمیعها لتوفیر میاه الشرب لأهل المواسم والقوافل،
ودعوات المسافرین تلاحقه بالهناء و الثواب عند شربهم من ماء الابار التي حفرها

بالمناطق النائیة لتوفیر الماء لكل مسافر..
ثم اردف قائلاً: و بالرغم من تدقیقه في اختیار ولاته وعماله، واهتمامه بأن یكونوا
من ذوي القدرة والكفاءة، فیراقب أعمالهم، ویمنع تجاوزاتهم على الناس، إلا ان احد
قاده حرسه، و المسمي بـشومان هو اسوأ من یمكنه تقلد ذلك المنصب، فشغله
الشاغل هو تطبیق النظام بكل غلظة و عنف، و لا یأبه لعواقب تطبیق النظام، حتى
إن اودي بحیاة شخص مقابل ذلك.. و للاسف، فإن الحجاج یوافقه احیانًا كثیرة في
افعاله تلك، بل إنه اطلق یده لیفعل ما یشاء مادامت افعاله ینتج عنها مزیدًا من الحزم
و الانضباط.. الویل لمن یقع بقبضة شومان.. وقتها یتمني لو أنه ذهب للدیماس

مباشرةً بدلاً من مروره بـشومان..
قاطعت كلامه مستفسرًا عن الدیماس الذي ذكره، فأجابني قائلاً: الدیماس هو ذلك
السجن الذي انشأه الحجاج بالجانب الغربي من مدینتنا.. هناك یحجز الخارجین على
القانون و یتم استجوابهم بأبشع الطرق عقابًا لهم على سوء افعالهم، و كثیرًا ما یتم

اعدام اغلبهم بساحة المدینه لیكونوا عبرة لم یعتبر..
ابتلعت ریقي بصعوبة، ثم سألني في اهتمام:

- وانت ایها الغریب.. لم اعلم ما اسمك او من اي بلاد بعیده جئتنا؟
لم اعلم كیف اجبه، فقلت في اقتضاب: انا الادهم بن عبد الرحمن.. جئتكم من

مصر..
اجابني في بشاشه عندما سمعني انطق باسم مصر: مصر.. بلد حسن الموضع و

حسن الاهل.. سكانها اطیاب المعشر.. حدثني كیف حالكم الآن؟
شكرته على مدحه، و ابتسمت في داخلي متخیلاً رد فعله إزاء ما سأقوله إذا رویت
له ما نحن فیه الآن.. فالتزمت الصمت قلیلاً ثم اجبته: نحن في اطیب حال، و بالرغم
من بعض القلاقل المتناوبة هنا و هناك، إلا اننا نتخطاها بإراده المولي – عز وجل -
أكد على كلامي و دعا لنا بالخیر و البركات.. قررت أن اتأكد منه عن صحة ما
روي عن قذف الكعبة بالمنجنیق بأوامر من الحجاج وقتما حاصر ابن الزبیر.. و
قبل أن اطرح علیه سؤالى دخل علینا طفل صغیر باسم الوجه یبدو على ملامحه أنه
احد ابناء المنصور.. بمجرد دخوله، ألقي علینا السلام و اتجه لوالده في شوق..

ً

 

امسك به المنصور في حنان، و اجلسه على فخذه الایسر، و بادر بكلامه قائلاً: هذا
ولدي یزید.. اخر ابنائي و اقربهم لقلبي.. ثم أمره بمصافحتي.. فصافحني في خوف
كأي طفل صغیر في مثل سنه، ابتسمت الیه و اجبت المنصور قائلاً: بارك االله لك

فیه و جعله ولدًا صالحًا كوالده..
شكرني المنصور ثم دعاني لتناول الطعام معه.. و بالفعل بعد دقائق، بدأ الخدم في
اعداد مائدتنا بأشهي المأكولات و اطیب الاطعمة حلوة المذاق، استطعت تعرف

بعض تلك الاطعمة و غاب عني معظمها، ولكني لا انكر طیب طعمها بالفعل..
بعد ان انتهینا من تناول الطعام.. تذكرت السبب الرئیسي لمجیئي لذلك الزمان،

فبدأت في سؤال المنصور..
- لقد جئت هنا لأبحث عن جدي.. لقد اتاني خبر أنه جاء الى مدینتكم بالیومین
السابقین، ولكني اجهل موضعه الآن.. و لقد سألت جمیع من قابلت عنه فجاءني

الجواب بالسلب.. فهل یمكنك معاونتي في ایجاده؟
ابدي المنصور ترحابًا شدیدًا، وبدأ في سؤالى عن هیئة جدي و مظهره، فأجبت
جمیع تساؤلاته.. طلب مني الانتظار للغد لكي یأتیني بالخبر الیقین.. اعتراني القلق،
فتلك فترة طویلة للغایة بالنسبة لوقتي المحدود ولا یمكنني ان اضیع منه اكثر ما

ضاع بالفعل..
اقترب المغیب، فوجدت المنصور و قد جاء ببعض الملابس التي طلب مني ان
ارتدیها على سبیل الهدیة، لم استطع اثنائه عن تلك الفكرة، و اضطررت لقبولها في
خجل شدید لكرمه الفائق.. بعد ان انتهیت من ارتداء تلك الملابس لم استطع التعرف
على نفسي، فلقد صرت واحدًا من اهل المدینه بالفعل.. وجدت بعدها المنصور
یطلب مني طلبًا غریبًا.. لقد طلب مني الخروج من المدینه الآن.. اندهشت لذلك ایما
اندهاش، ولكنه اجابني في حرج شدید أن تلك هي التعلیمات الأمنیة للحجاج.. لا
سماح لغریب بالمبیت بالمدینه لیلاً، وعلى اهل المدینه العوده لیلاً لداخل اسوار

مدینتهم..
خرجت من المدینه بالفعل محملاً ببعض الزاد الذي اصر المنصور على اعطائي
ایاه اثناء مكوثي باللیل خارج المدینه.. افترشت الخیمة التي اعطانیها المنصور

راجیًا االله الا تهاجمني دابة من دواب الصحراء اثناء استغراقي بالنوم..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

مرت على تلك اللیلة الباردة بصعوبة.. كانت تلك لیلتي الاولي التي ابیت بها في
ربوع الصحراء القاحلة، و الادهي من ذلك انها كانت في زمان اخر لا یمت
لحاضرنا بصلة.. استیقظت في الصباح فوجدت المدینه و قد فتحت ابوابها لإستقبال
زائریها.. دخلت للمدینه فاتجهت ناحیة السوق، ظللت ابحث عن دكان المنصور
حتى وجدته بالفعل، و لكني وجدت بالدكان احد غلمانه، فسألت عن سیده المنصور

فأجابني أنه مازال بمنزله..

أ

 

تركت الدكان و اتجهت للمنزل لإیجاد المنصور و سؤاله عما فعله بشأن إیجاد جدي
المفقود، و في طریقي وجدت على قارعه الطریق رجلاً بالغًا ینهر یزید ابن
المنصور و بدا و كأنه ینتوي ان ینهال علیه بالضرب.. انتابني الغضب فاتجهت
بسرعه الیه لأوقفه عما یفعل.. امسكت به من تلابیبه، فبدا الغضب الشدید على
وجهه الذمیم، و بدأ في التلفظ بقبیح القول تجاهي.. قبل ان اسأله على سبب ما یفعل،
حاول ان یلكمني في وجهي.. تفادیت لكمته في سرعه، فبادرني بلكمة اخرى نالت
مني تلك المرة.. ارتمیت جانبًا و قد سالت الدماء من انفي.. اتجهت له بكل غضب و
بدأنا في تبادل الضربات.. تجمع المارة و بدأوا في الصیاح.. فوجئت بعدها
بالحراس و قد تدخلوا بیننا، و امسك اثنان بكل منا.. و من بعید جاء رجل طویل
القامة عریض الجبهه مرتدیًا عمامه خضراء تغطي شعره الفاحم، ضخم كث اللحیة
و الشارب، و قد تمنطق خصره بحزام جلدي یتدلي منه سیفان على جانبیه.. و

یرتدي زیًا یشبه زي هؤلاء الحراس الذین یحیطون بنا..
بمجرد وصوله ساد الصمت وانتشر الرعب بین الواقفین، بل إني لا اكذب ان قلت
ان الرعب قد طال الحراس انفسهم.. نظر الینا ذلك الرجل في برود، و اقترب مني
لتظهر اصاباتي واضحه امامه مختلطةً بدمائي التي انسالت من انفي و جبهتي

وفمي..
فتح فمه لیخرج صوته الاجش قائلاً: من انت؟ و ماذا تفعل هنا؟

اجبته في رعب: انا غریب جئت هنا بحثًا عن احد افراد اسرتي.. و وجدت ذلك
الرجل ینهال بالضرب على طفل صغیر.. حاولت ایقافه فلكمني و اصابني بتلك

الاصابات التي تراها بنفسك
صمت قلیلاً.. ثم اتجه للشخص الاخر و سأله نفس السؤال.. فأجاب الاخر قائلاً:

ذلك الطفل اراد اختطاف نعلى الذي تركته بجانبي، فوددت أن اؤدب ذلك الشیطان
الصغیر على فعلته تلك..

اكمل الرجل الضخم نظرته البارده تجاهنا.. ثم اردف بجمله واحده..
اذهبوا بهم الى الدیماس.. لا اسمح لأي انفلات او خروج عن النظام ان یستشري في
ارجاء مدینتنا.. ثم اكمل في غلظة: فلتعلم ایها الغریب ان سیدي شومان سیستمتع

بلقائك ایما استمتاع.. ثم ابتسم في جذل وحشي..
جاءت تلك الجمله لتنهي ما تبقي في من وعي حاولت الحفاظ علیه بالرغم من
اصاباتي الشدیده.. فسقطت مغشیًا على رمال مدینه واسط.. لیجرني الحراس الى

مصیر مجهول في زنازین الدیماس..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

17
ظل وعیي مستمرًا في الهروب من قدرتي على امساكه و الاحتفاظ به، مع كل متر
اعبره تجاه خیول الحراس الذین جروني بكل غلظه.. یتثاقل جفناي و اغمض عیناي
لثوان ثم افتحها فأجد نفسي مازلت في قبضة هؤلاء الحراس.. وصلنا للخیول

فأمسكت بي ایدي الحراس لیرفعوني و یلقوا بي على صهوة احد الجیاد..
بدأت تلك المجموعه في التحرك صوب سجن الدیماس، و ما إن ظهر امام ناظري،
شعرت بالرهبة الشدیده تجتاحني و تحركني بعنف، فهببت في وهن محاولاً التملص
من ذلك الحارس الذي امسك بي.. قمت بدفعه من على الجواد بكل ما اوتیت من قوة

وقتها، فوقع مخلفًا سحابة صغیرة من الغبار الذي تناثر من موضع وقوعه..
امسكت بلجام الفرس الذي صرت انا الآن قائده الوحید.. لم أدر ما افعل فأنا لست
خبیر بالفروسیة كي اتمكن من السیطرة على ذلك الجواد.. ألهمني خوفي وقتها أن
اجذب اللجام بشده لعله ینبه الجواد و یحمله على الهرب، ولكن أتت النتیجة عكسیة

فارتفعت اقدامه في الهواء عالیا و القي بي من فوق ظهره في عنف..
بمجرد ارتطامي بالارض حاولت ان افر من قبضة الحراس.. ولكنهم اجادوا
احاطتي بالجیاد و اغلقوا على جمیع منافذ الهروب بفعلتهم تلك.. فسكنت على
الرمال منتظرًا بطشهم بي و الذي لم یطل انتظاري له، فلقد سارعوا بالامساك بي

وبدءوا في ضربهم المبرح.. حتى فقدت الوعي مرة اخرى..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

شاهدت نفسي في مكان لم اراه من قبل.. ارضه سوداء كاحلة، و قد انغرست بها
الاوتاد التي تربطني بقیود حدیدیة من عنقي ویداي.. السماء حمراء قانیة كالدماء
الطازجة.. و سحب زرقاء مكفهرة تلوح في الافق.. التفت الى یمیني وجدته هناك..
بصراخه المستمر و انفعالاته الثائرة.. إنه الهر ادولف هتلر شخصیًا.. لم أتبین ما
یقوله وقتها، ولكنه نظر لي بعیون ناریة و اكمل خطابه الذي اتضح انه منصب على

بالكامل..
انا احلم.. بالتأكید انا احلم.. ماذلك المكان ومتي اخرج منه.. وعلى بعد امتار قریبة،
وجدت جدي جمال یقترب مني في هدوء.. حاولت ان اسرع الیه لأعود الى كنفه
مرة اخرى مثلما تعودت سابقًا، لكن منعتني قیودي من ذلك.. صرخت في قوة منادیًا
إیاه.. فابتسم و لم یرد.. استمر ندائي، فلم یجیبه إلا باستدارته و ابتعاده عني بنفس

الهدوء الذي جاء به..
تملكني الیأس.. و حانت مني التفاته لـهتلر الذي مازال في خطابه العنیف، ثم وجدته
قد صمت فجأه، و نظر في برود الى تلك السماء الحمراء.. فتجمعت السحب الزرقاء

في سرعه غریبة، و بدأت قطرات من المطر الاسود تقطر من جوانب السماء..

أ

 

هالني المنظر، و قطرات المطر تبدأ في الانحدار على جبهتي لتكمل طریقها الى
وجهي و تتسلل بعضها الى شفتاي.. مذاقها كریه للغایة، ابصقها في عنف محاولاً
ابعادها عن فمي.. ولكن الامطار تزید من هطولها حتى صارت كالشلال المنهمر

بلا رادع..
استفقت فجأه على سطل من الماء و قد اُلقي على رأسي.. هززت رأسي في عنف و

فتحت عیناي في ضعف لأبدأ في تبین ما حولي..
رفعت كفي لأمسح قطرات الماء المنسدله على وجهي، فأوقفني ذلك القید الذي ربط
معصمي معًا.. حاولت فتح عیني عن اخرهم لتوضیح رؤیتي.. وجدت نفسي راكعًا
على ركبتي وسط ثلة من الحراس الذین احاطوا بي، و على رأسهم ذلك القائد ذو

العمامة الخضراء الذي بدأ في التحدث قائلاً:
- تأدب ایها الغریب، فأنت في حضرة القائد شومان..

ثم تحرك في ادب و خضوع مستقبلاً شومان الذي ظهر من خلفه لیستقبلني.. نظرت
الیه في البدایه فوجدت رجلاً ضخمًا یماثل ذو العمامة الخضراء في ضخامته، و إن
كان اشد بأسًا و اكثر غلظة، جبهته ضیقة، افطس الانف، ینسدل شاربه على جانبي

وجهه لیتقابل مع لحیته المشعثة مكونةً ما یشبه كومة القش المحیطه بفمه الغلیظ..
سأل شومان قائد الحرس في اقتضاب:

- من هذا؟
اجابه قائد الحرس في احترام بالغ:

- هذا احد الغرباء من خارج مدینتنا.. امسكنا به محاولاً اثارة الشغب بجانب السوق
الكبیر، ووقت أن قبضنا علیه، حاول الهروب و تعدي على احد جنودك المساكین..

صمت شومان لوهلة.. ثم قال:
- ألقوا به في اقذر زنازین سجننا.. حیث یقبع اكثر المجرمین خسة و نذالة.. فهذا
جزاء من یخالف نظام والینا العظیم الذي ارساه في ربوع ولایته، و یهاجم جنوده

المخلصین.. و في المساء انظر بشأنه و اقضي عقوبته..
ثم اكمل: و اعدموا ذلك الجندي الذي سمح لذلك الغریب ان یعتدي علیه.. فلا مكان

عندي لضعیف..
ابتلع قائد الحرس ریقه بصعوبة، بینما نظرت الى ذلك الجندي الذي اوقعته عن
صهوة الجواد، فوجدت وجهه قد صار مثل الشمع في بیاضه.. ارعبتني فكرة اعدام

ذلك الجندي بسببي، فصرخت منادیًا شومان الذي همّ بالرحیل:
- انتظر.. لم یكن خطأه.. انا من دفعه من على الجواد..

التفت شومان الى في عنف.. ثم اقترب تجاهي حتى دنا وجهه من وجهي بشدة.. ثم
همس قائلاً:

ً

 

- إذن، یجب اعدامه.. فلقد جعل نفسه لقمة سائغه لك..
ثم انهي جملته بلكمه قویة كالها لوجهي افقدتني الوعي للمرة الألف في ذلك الیوم

المشئوم، لتظلم الدنیا من حولي مرة اخرى..
استیقظت فزعًا لأجد نفسي مكومًا بجانب جدران احدي الزنازین الضیقة للغایة،
حتى إنني وجدت موضع جلوسي بصعوبة.. قمت ببطء من مرقدي و نظرت حولي
فلم اجد سوي بعض الرجال و قد افترش اغلبهم ارض الزنزانة الرطبة.. المكان من
حولي شدید الظلمة، سيّء التهویة، و بعد ان اتضحت لي الرؤیة، استطعت تبین
سبعه رجال، اختلفت اعمارهم و تفاوتت هیئاتهم و لكن جمعهم الضعف و الهزال و

سوء الصحة و الحال..
اتجه الى احدهم، و بدا على هیئته الكهولة الشدیدة.. سعل ثم سألني بعدها:

- من انت؟
اجبته في حذر: غریب.. اُسرت ظلمًا.. و من انت؟ و این انا الآن؟

صمت لبرهة.. ثم اجاب في اسي:
- كلنا اُسرنا ظلمًا.. أنا أبي عبید بن یوسف.. كنت منذ سنة اعمل اجیرًا لدي احد
التجار بالسوق، و حدث أن لصًا سرق بعض من بضاعه سیدي، فأودعت السجن
ظلمًا.. اقسم لك باالله اني لم اسرق تلك البضاعه.. و لم یرحم حراس الحجاج
توسلاتي وقتها، فألقوا بي في غیاهب السجن هنا و ها أنا حتى الآن اسیر تلك

الجدران..
ثم نظر الى باقي المساجین الذي جلس بعضهم و نام البعض الاخر، ثم اشار لشاب

جالس و قال:
- اما هؤلاء فقد أتوا من بعدي.. ذاك الفتي هناك.. جاءوا به من اسبوع بسبب

معارضته احد احكام الحجاج فألقي به هنا، و قد یتم إعدامه خلال الایام القادمة..
اجبته في فزع: اعدامه؟!

رد على أبو عبید: بلي.. فعقوبة الخروج على الحاكم هنا هي الاعدام.. و لكن ذلك
الفتي تأخرت عقوبته لحین انتظار عودة شومان قائد الحرس بعد عودته الى واسط..
اخبرته بأن شومان قد جاء بالفعل، فقد رأیته بنفسي منذ قلیل.. فظهر الحزن على

وجه أبي عبید.. ثم تمتم في خفوت:
- إذن فتلك نهایة ذاك الفتي.. یا للخسارة!

و استرسل في حدیثه قائلاً:
- إن الحجاج لشیطان مرید علیه لعائن الرحمن.. قاسي القلب، بل إنه لا قلب له..
رحمتك یا االله.. منذ أن تولي الولایة، و دماء المسلمین تُسفك بیدیه النجسة.. تخطت
أعداد ضحایاه الآلاف و ملأ ارجاء البلاد بجوره و ظلمه.. لقد ارسي حكمه بالشده و

لأ

 

الغلظة، فلم یتورع عن سفك الدماء لتثبیت دعائم حكمه لنفسه و لأبنائه من بعده.. لا
یمكنني انكار بناءه للمدن و امدادها بالخدمات، ولكن في المقابل، امتلأت سجونه

بالمظلومین، و اریقت انهار الدماء في عهده..
ذلك الدیماس الذي نقبع بداخله الآن.. لهو اكبر دلیل على ظلم الحجاج و شدته.. لقد
سمعت الاهوال عنه قبل دخولي هنا.. فقد قیل أن به الآلاف من الرجال و النساء

اغلبهم سُجن ظلمًا او بسبب أمور تافهة..
إعدام الأسري هنا بقطع الرأس أو بالصلب بعد القتل، ولكن الحجاج اختص الصلب
لأكبر معارضیه في الحكم و السلطة.. و بخلاف تفنن الحجاج في ابتكار طرق
تعذیب اسراه، فلقد تفنن ایضًا في معامله الاسري داخل الدیماس.. ففي بعض
الزنازین تجد بعض الجماعات من المسجونین و قد اقترنوا في سلسلة واحدة، فإذا
قاموا، قاموا معًا، وإذا قعدوا، قعدوا معًا، و بالرغم من صغر محبسهم، ففیه یأكلون،
وفیه یتغوطون، وفیه یصلون، و منذ اشهر معدودات، القي الحجاج بأحد معارضیه
بزنزانه مجاورة لنا، وبعدها بأیام أرسل علیه الكلاب تنهشه حتى مات.. ولما مات

رمي بجثته في الخندق ولم یجرأ أحد أن یدفنه حتى مزّقته الكلاب..
صمت أبي عبید قلیلاً و بدأ في البكاء حتى سالت دموعه الى لحیته البیضاء الكثة،

ثم قال وسط بكائه:
- تلك اللیلة سمعنا جمیعًا اصوات الكلاب المفترسة تقطع و تمزق جثة ذلك الرجل،

و صیاحه المتواصل حتى سكت.. سكت تمامًا.. یا االله!!
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

بدأت في الارتعاش لما سمعته.. كیف یفعل الانسان ذلك بأخیه الانسان.. كیف یصل
الحاكم لتلك الدرجة من الظلم و القسوة ضد رعیته.. لم ینص الإسلام على ذلك أبدًا،

و علمت الآن بالفعل صدق الاقاویل التي تناثرت عن ظلم الحجاج وجبروته..
التفت الى أبي عبید و استفسر مني عن حال المدینة بالخارج.. فأجبته آسفًا:

- إنني غریب عن هنا.. جئت منذ یومٍ و نصف، و لا اعلم الكثیر عن واسط.. ولكن
مما رأیته، فإن المدینه بحال جیده.. سوقها عامر بالبضائع و اهلها كثر و مسجدها

عامر بالمصلین..
ابتسم أبي عبید لأول مرة.. ثم ردّ في هدوء:

- لا یغرنك حسن المظهر.. فقد یبدو علینا السعاده و الهناء و رواج الحال، لكنك لا
تعلم ما یفعله الحجاج بنا.. لقد قتل من شبابنا ونسائنا الكثیر بعد أن اعترض بعضهم
على ولایته.. و أمر بقطع رقاب بعض الشیعه الذین جاءوا في رحلة تجارة منذ

سنتین.. منذ تلك الحادثة و لم تخط قدم شیعي ارض مدینتنا..
و تلك الدكاكین التي تراها بالسوق.. اغلبها مضطر لبیع بضاعته و إن خسر بسببها،
فالضرائب الباهظة التي فرضها الحجاج جعلت بعض التجار في حاجة لجمع مال
الضریبة اكثر من حاجته لجمع رزقه.. أما ذلك المسجد العامر بالمصلین، فإمامه

أ

 

من أكبر المنافقین للحجاج.. یسدل غطاء الدین على خطایا الحجاج، و یصوره في
صورة الحاكم المؤمن الزاهد الحافظ لكتاب االله.. إن تلك الاقوال التي تُذكر في حق
الحجاج حول زهده و تقاه إنما هي كذب و تضلیل، فكیف یفعل تلك الفظائع رجلاً

مسلمًا بحق.. لم یأمرنا النبي المصطفي علیه صلوات االله وسلامه بذلك..
استمر أبي عبید في سرد فظائع الحجاج، و أنا غیر مصدق لكمیه الظلم التي قد

یصل الیها الحاكم تجاه رعایاه.. یا االله!!
بعد ان انتهت حكایات الحجاج.. التقط ابي عبید من جانبه كسرة خبز قد اسودت
اطرافها، وبدأ في ازدرادها في صمت.. بدأت انا في الحدیث و اخبرته سبب مجیئي
لمدینة واسط، ولكنني لم اشر من بعید او قریب لموضوع آلة الزمن، فبالرغم من

حكمة ذلك الكهل و لكني لم استطع افشاء ذلك السر مهما حدث..
اهتم أبي عبید بحدیثي بشده.. و عندما ذكرت له أن جدي قد جاء للمدینه خلال الایام
السابقة، ظهر الانفعال واضحًا على وجهه.. سألته في دهشة عن سبب انفعاله..

فكانت اجابته التي القت بقلبي خارج ضلوعي:
- لقد اتي شیخًا غریبًا منذ ایام الى السجن.. و لقد ألقاه الحراس وقتها وقد سالت
الدماء من وجهه و ساقه.. و خلال الفترة السابقة لم نسمع له صوتًا.. فاعتقدنا انه
ابكمًا من كثرة صمته.. یتلقي طعامه في سكون و یظل قابعًا في طرف الزنزانه

طوال الیوم..
ثم اشار بإصبعه لأحد المساجین.. وقال: هاهو ذا..

اتجهت لذلك السجین بخطوات مرتعشة.. أیعقل أن اقابل جدي اخیرًا؟
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

18
اقتربت بكل لهفة و ترقب تجاه ذلك السجین النائم بعیدًا عن باقي رفاقه السجناء..
ثیابه رثة للغایة و تكسو الدماء رقعه كبیرة من تلك الثیاب، فاستحال لونها للأحمر

الداكن بعدما كانت بیضاء كما تبدو..
مددت اصابعي المرتعشة تجاهه، و مسست رأسه في رفق.. تحرك السجین مرتعبًا،
و لكنه ما إن التفت الي، ومن النظرة الاولي.. تأكدت ظنوني.. تلك العیون الداكنه..
امیزها من بین الآف العیون، و إن حلّ فیها الرعب و التعب بدلاً من الحنان

والسعاده.. إنه جدي!!
همست غیر مصدقًا.. جدي!! أنا ادهم….

اتسعت عیناه و تمتمت شفتاه المتشققتان باسمي في صمت.. ثم احتضنني في قوة و
دموعنا تسیل بلا انقطاع.. تحسس جدي بكفه وجهي و بدأت ملامح الفرح و السعاده
تعود للظهور على وجهه.. ذلك الوجه الذي لم یتغیر فیه سوي بعض التجاعید التي
حفرها الزمن بكل قسوه.. و بالرغم منها فإنه ظل محتفظًا بإصراره و عزیمته التي

لا تكلّ..
ظللنا في ذلك التلاحم لدقائق عدیده، تمتم فیها جدي ببعض الكلمات المختلطة التي لم
استطع تبیانها، ولكنني علمت مقصدها.. إنه الشوق الذي یجتاح كلینا.. اغتراب
یفوق العشر سنوات.. سدود و حواجز من الظلم بُنیت بیننا فمنعت كل منا من رؤیة
الآخر.. كل ذلك انتهي في لحظة على ارض زنزانه بارده في زمن یسبقنا بمئات

السنین..
بدأ جسد جدي المرتجف في الهدوء، و إن كان مازال مصدومًا من تواجدي في ذلك
الزمان و المكان.. و لكني أعلم بما یفكر الآن.. بالتأكید لقد توصل عقله لكل ما
حدث.. و هذا ما تأكدت منه بالفعل عندما بدأ بالتحدث بأولي كلماته لي منذ عشر

سنوات..
- أدهم.. كنت عارف انك هتوصل للسر، و تعرف كل اللي حصل لي.. لكن یا ریتك

كنت رحت اي زمن تاني غیر الزمن دا..
اجبته و اللهفة تجتاحني للحدیث معه كالأیام الخوالي:

 

- أستاذ عبد االله جاب الصندوق و قریت فیه المذكرات.. و منها عرفت كل حاجة.. و
لقیت بعدها الساعه بالصدفة، و وقتها قررت ارجع لك تاني.. بس ایه اللي حصل لك

هنا یا جدي؟
هز جدي رأسه في بطء.. ثم قال:

- هاحكیلك یا ادهم..

 

اعتدل جدي في مجلسه، و إن ظللنا في مبعد نسبي عن بقیة المساجین الذین انشغل
اغلبهم عنا بالنوم او بالدعاء بفك كربته او بالغرق في مستنقع یأسه الخاص..

∞ ∞ ∞ ∞ ∞
بدأ جدي في الهمس قائلاً:

- اكید انتا قریت في مذكراتي اني عملت رحلات كتیر في مجري الزمن.. و عرفت
اللي حصل لي فیها..

اجبته بهز رأسي و اردفت: انا انتهت قرایتي عند سفرك لزمن هتلر، و بعدها حصل
لي ظروف منعتني من اكمال القرایة، لحد ما لقیت الساعه بالصدفة، ساعتها قریت

اخر رحلة انتا عملتها لزمن الحجاج، و منها وصلتلك هنا..
نظر جدي الى سقف الزنزانه الحالكة في اسي، ثم اكمل:

- للاسف.. أنا السبب في مجیئك هنا.. كان لازم احرق مذكراتي دي.. كان لازم انا
بس اللي اتوه في الماضي، انتا كنت لازم تعیش حیاتك..

انا بعد ما رجعت من زمن هتلر، سافرت كتیر و كتیر.. كنت كل حوالى شهر او
شهرین اسافر لزمن مختلف عن التاني.. حبي للتاریخ امتزج مع القدرات الرهیبة
اللي سمحت لي بیها الآلة.. انك تقرا عن دخول الاسكندر الاكبر لمصر حاجة، و

انك تكون واقف وسط الجماهیر الغفیرة اللي استقبلته حاجة تانیة..
إنك تسمع مقطوعه لبیتهوفن في الرادیو حاجة، و إنك تسمعها منه شخصیًا في حفل

كبیر ملیان شخصیات معروفة وقتها حاجة تانیة خالص..
إنك تقرأ في كتب المؤرخین المسلمین عن عظمة مملكة العرب في الاندلس حاجة،

و انك تتفسح في جناین غرناطه و قرطبه و ملقة حاجة تانیة خالص..
التاریخ بالنسبة لي كان هدف مش غایة.. أنا مسافرتش في الزمن علشان اسیطر
على العالم، ولا علشان اجمع ثروات و تحف لا تقدر بثمن في حاضرنا.. انا شفت
كل اللي افتكر نفسه قادر على انه یسیطر على الدنیا، وفي الاخر كان كومة تراب..
الاسكندر، نابلیون، هتلر.. و كتیر و كتیر من الزعماء.. كلهم في الاخر نهایتهم
واحده، یا اما الفشل.. یا اما الموت زي بقیة البشر و ضیاع مملكته اللي تعب فیها

من بعده..
مع كل رحلة عملتها.. اتأكدت من خطر تغییر الزمن، الماضي اتسمي كده عشان
مضي.. راح.. مینفعش یرجع تاني.. و إن كان سفري لیه دا یعتبر رجوع، لكنه
رجوع مقید بقوانین صارمة مفیهاش هزار.. أي تغییر ولو بسیط، بیبقي لیه اثار

جانبیة خطیرة ممكن تحطم مجري الزمن تمامًا..
قبل ما اوصل هنا من اسبوع.. كان المفروض اني مسافر للجزائر في زیارة لواحد
زمیلي من ایام زمان، و بالمرة اسافر بشكل طبیعي بدل سفري في الزمن.. كان
بقالى فترة بقرا عن زمن الحجاج بن یوسف الثقفي، و شاغلني تاریخه جدًا.. و

 

بالرغم من رحلاتي الكتیرة لتاریخ الحكام العرب و الدول المتتابعه بعد عصر
الخلافة، لكني مسافرتش قبل كده لعصر الحجاج.. فقررت اسافر في رحلة سریعه،

و ارجع بعدها للتحضیر لرحلة الجزائر..
لكن زي مانتا شایف كده، طبعًا الباخرة راحت علیا، و فضلت محبوس هنا..

اجبته مبتسمًا: الحمد الله.. الباخرة غرقت و محدش نجي منها.. علشان كده استاذ عبد
االله افتكرك توفیت.. و قام جایب لي دفتر مذكراتك بالصندوق المقفول..

اندهش جدي من ذلك الخبر.. و تمتم في خفوت: وعسي ان تكرهوا شیئًا و هو خیر
لكم… سبحان االله..

ثم اكمل في خوف: لكن شكلي كده مكتوبلي الموت.. بدل الموت في البحر، هاموت
على اید سیاف الحجاج

سألت جدي عن سبب دخوله السجن.. فطأطأ رأسه و بدأ في سرد قصة مجیئه لتلك
الزنزانه المظلمة..

- انا جیت هنا زي ما قلتلك علشان اشوف زمن الحجاج، كنت عاوز اعرف
حقیقته.. هل هو طاغیة زي ما اغلب كتب التاریخ صورته.. ولا حاكم عادل قدر
یبني دولة محكمة قویة و ثابته لسنین طویلة.. اخترت مدینه واسط اللي بناها بنفسه
وخلاهــا عاصــمه لولایته.. وصــلت فــي مكــان قــریب خــارج اســوار المــدینه،
و دخلــت وســط النــاس و عشــت وســطهم لمــده یومـین مـن غـیر اي مشـاكل..
عرفت فعـلاً حقیقـة الحجـاج.. عرفت ظلمـه و اسـتبداده.. و بـالرغم مـن انـه قـدر
یبنـي دولـة فعـلاً قویــة.. لكنها كــانت مــن جواهــا هشــة للغایــة.. قوة الــدولة
مــش فــي امنــها او عملــها او تجارتــها و صــناعتها.. قوة الــدولة فــي شــعبها..
و الشــعب كــان كــاره الحجــاج.. و اغلــب مؤیــدیه مــن التجــار المســتغلین
لأوضــاع الــدولة او وزرائــه و حاشــیته و جنده.. الحجاج كان دایمًا خایف من
المؤامرات، كان دایمًا بیفرض الامن بالقوة.. لكنه مقدرش في النهایة انه یمنع قضاء
االله.. مات بمرض في معدته، زي اي انسان عادي.. و من بعدها بدأت دولته في

التساقط..
بعد ما عرفت الحقیقة خلال الیومین و نص اللي عشتهم في الزمن دا من غیر اي
مشاكل.. قررت ارجع قبل ما یحصل اي شئ یأثر علیا.. خرجت من بوابة المدینه و
رجعت للمكان اللي اتنقلت منه للزمن دا.. بس بسبب انشغالى في تشغیل الالة..

مأخدتش بالى من الجنود اللي كانوا راجعین خلال المنطقة دي للمدینه تاني..
طبعًا مشهد فتح البوابة الزمنیة دا بالنسبة لأي حد من الزمن دا لازم یكون مرعب..
قبل ما الحق اعبر من الثقب.. لقیت سهم انغرس في رجلي الیمین.. ارتمیت على
الارض من الالم، و اتحدفت الساعه من ایدي للرمل.. هجم علیا الجنود بسرعه، و
قدروا یسیطروا علیا بكل سهولة.. لكن الحمد الله مفیش حد فیهم اخد باله من الساعه
اللي غرقت وسط الرمل.. افتكروني ساحر، و في الزمن دا زي اغلب الازمنة،

 

السحر فیها مهنة محرمة بیُعاقب علیها اي قانون.. فما بالك بقانون مستبد بیضاعف
فیه العقاب على اي جاني..

و بكده اترمیت في اسوأ زنازین سجن الدیماس.. و منتظر عقوبتي اللي هیحددها
شومان مدیر السجن و احد كبار مساعدین الحجاج شخصیًا..

قاطعته في قلق: شومان رجع تاني للسجن من سفره..
صمت جدي للحظات.. ثم قال في یأس:

- تبقي دي نهایتنا.. الحجاج اعدم الالاف لأسباب اتفه من اسبابنا دي..
ثم سألني جدي عن كیفیة وصولي للسجن، فأجبته و سردت ما حدث منذ أن جئت

للمدینه، الى ان وصلت للسجن..
سألني في لهفة:

- الساعه لسه معاك؟
هززت رأسي مؤكدًا.. و اخرجتها من احد جیوب سترتي الداخلیة.. بمجرد خروجها
التمعت بضوء خافت سقط علیها من خارج الزنزانه.. ارتعب جدي و دسها
بملابسي مرة اخرى.. لم ندرِ هل رأى احد غیرنا ذلك اللمعان.. تلفتنا حولنا في

خوف فلم نجد احدًا یتابعنا.. كلٍ في عالمه الخاص هنا..
اشرق وجه جدي بمجرد رؤیته للساعه مرة اخرى.. و اردف:

- تمام یا ادهم.. حافظ علیها.. و ربنا یفرجها یمكن نقدر نطلع من هنا.. او نفضل
منتظرین الساعه تبدأ تفعل خطة حمایتها بنفسها وتنقلنا للحاضر.. انتا وصلت هنا

من كام ساعه؟
لم احسب الوقت بالفعل.. و لكني حاولت استنتاجه.. لقد قبعت بالمدینه حوالى یومًا و
بضع ساعات، ثم القوا بي هنا، و مكثت هنا ایضًا بضع ساعات.. إذن مجموع ما

قضیته بذلك الزمن یقترب من اتمام الیومین خلال سویعات قلیلة..
اجبت جدي في خفوت: حوالى حاجة و تلاتین ساعه… لسه كتیر على فترة الستین

ساعه..
ردّ جدي في قلق: لأ.. مفیش حاجة اسمها كتیر.. الوقت بیمر.. و كل دقیقة بتعدي
بتقربنا اكتر و اكتر من الرجوع.. اهم حاجة نفضل عایشین و محافظین على الساعه

لحد ما ییجي الوقت..
تمتمت بالدعاء… فلیحفظنا االله برحمته..

∞ ∞ ∞ ∞ ∞
مرت الساعات في بطء، و مازال السمر بیني و بین جدي الحبیب مستمرًا.. حتى بدأ

الارهاق في بسط قبضته على كلینا، فخلدنا للنوم.. أو على الاقل محاولة النوم..

 

استفقت على ملمس ید خائفة تتحسس ملابسي، و تحاول الوصول لجیوب ردائي..
تبًا.. لقد رأى احد السجناء الساعه وقت أن اخرجتها لجدي.. و هاهو الآن یحاول

سرقتها مني..
تظاهرت بالنوم.. ربما یفشل في الوصول الى الساعه، و حاولت ان اضغط بذراعي
بشكل طبیعي على مكمن الساعه لأمنع ذلك اللص من امساكها.. بعدها بلحظات..
بدأت یداه في معرفة طریق الساعه بالفعل.. هنا لم استطع اكمال تظاهري بالنوم..
فقمت مسرعًا ممسكًا بذلك السجین من ملابسه، و كلت له لكمه ادمت فمه الذي یبس

من طول فترة سجنه..
استیقظ جدي وجلاً بعد احساسه بالجلبه الناتجه عما حدث، و كذلك فعل اغلب
السجناء الذي خرج كل منهم من قوقعته لیجد سجینین یتعاركا بداخل تلك الزنزانه
الضیقة.. بدأ كل منا في اشباع الاخر بلكماته، و حاول بعض السجناء بمعاونه جدي

أن یفضا ذلك العراك، فهتف ذلك السجین في قوة:
- هؤلاء الغرباء بحوذتهم الذهب.. لقد رأیته بنفسي..

بهت وجهي انا و جدي.. و بدأنا في القلق بعدما رأینا بعض السجناء وقد ظهرت
على وجوههم امارات الجشع واضحة تمامًا.. حاولت ان ابتعد انا و جدي عنهم
بأجسادنا، متخذین وضعًا دفاعیًا یائسًا لن یفید امام هولاء الوحوش الادمیة التي

عززت مرارة الاسر بشاعتهم و عنفهم..
انقذنا وقتها من ذلك الموقف، باب الزنزانه الذي انفتح على مصراعه بقوة، لیدخل
حارسان من حراس الحجاج لیذیقا كل من بالزنزانه طعم عصیهم و قبضاتهم.. ثم
دلف بعدهم قائدهم ذو العمامة الخضراء و سأل عن سبب الجلبة.. فأشار احد
الحراس تجاهي انا و جدي و ذلك اللص الذي حاول سرقة الساعه.. فأصدر القائد

اوامره بجلب ثلاثتنا للقاء شومان..
اقتادنا الحراس بكل قسوه خلال ممرات و سرادیب ضیقة، حتى وصلنا في النهایة
لباب خشبي كان مدخلنا الى غرفة شومان التي امتلأت بالسیوف و عدید من ادوات

التعذیب الذي اقشعر بدني لمجرد رؤیاها..
نظر الینا شومان في غضب مستمعًا لكلمات ذي العمامة الخضراء الذي سرد ما
فعلناه و بالغ في بعض الافعال.. بعد ان انتهي من كلامه.. تألقت عینا شومان في

جذل، ثم قال بكل هدوء:
- لقد حان وقتكم ایها المجرمون.. إن السیاف ینتظر رقابكم على احر من الجمر، و

كم یشتاق نصل المهند للارتواء بدمائكم الفاسدة..
ثم انهي كلماته بجمله جمدت الدم في عروقنا جمیعًا..

 

- فلتأمروا السیاف بالاستعداد.. فسیتم إعدام هؤلاء في الفجر بعد ساعات..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

 

19
ألقي بنا الحراس تلك المرة بكل عنف - بعد ان كبلوا اقدامنا و ایدینا بالاغلال - في
زنزانه جدیدة أضیق بكثیر من سابقتها.. ارتمیت باكیًا على الارض ادعو االله ان
ینجینا مما فیه، و ارتكن جدي برأسه على جدار الزنزانه في صمت، و دموعه
الحارة تسیل على وجنتیه بینما ظل ذلك السجین الثالث منهمكًا في تمتمات غاضبه

تعبر عن صدمته الشدیدة لما حدث..
مرت الدقائق و كأنها ساعات طوال، و الساعات كالأیام.. و بین الحین و الاخر
یتناهي لأسماعنا خطوات احد الحراس خارج الزنزانه، فترتعش قلوبنا قبل اقدامنا،
و قد تخیل كل منا مصیره تحت نصل السیف.. لكن ننتبه لكذب ذلك الانذار، و أن
تلك الاصوات ما هي إلا خطوات لحارس یتجول بین ارجاء السجن مراقبًا

للزنازین..
غفا جدي و السجین قلیلاً بعد ساعات طالت و استدامت.. و ظللت أنا في وحدتي
متأملاً ما حدث.. منذ البدایة و حتى ما وصلت الیه.. تتابعت مشاهد من حیاتي امام
ناظري، تارة مع جدي في فترة طفولتي، و التارة الاخرى منصتًا لكلمات اروي
التي تنساب من شفتیها الرقیقتین.. اشاهد نفسي مع اصدقائي في تلك اللیلة السعیده
التي قابلتهم بها، و اتذكر كلمات جدي التي دونها بین طیات مذكراته فأتت بي الى
هنا.. الثقب الدودي یمتصني و یرسلني لزمن آخر و ارض اخرى.. ذلك الثقب الذي
لن اراه مرة اخرى.. ماذا لو انتظر الزمن بضع ساعات؟؟ اما كنت انا و جدي
بمنزلنا القدیم الآن؟ بضع ساعات فقط تفصلنا عن موعد فتح البوابة الاحتیاطیة التي
ستنقلنا لحاضرنا.. و لكنها سخریة القدر، نسافر في الزمن لمئات السنوات، و نعجز

عن توفیر ساعات قد تبعدنا عن قبضة الموت المحتم.. سبحان االله..
ظللت في تأملاتي و دعواتي، راجیًا ان یحدث مالا نعلمه و ینقذنا االله مما نعلمه..
كلي إیمان بقدرة االله.. و إن كان مصیري الموت في تلك البقعه من الارض في ذلك
الزمن الغابر عنا.. فلتكن مشیئة االله.. یكفیني رؤیة جدي لمرة اخیرة قبل ان یلتهم

نصل السیف عنقي..
بدأ صوت خطوات الحارس في الاقتراب.. لم اتفاجأ منها، فتلك المرة الخامسة التي
اسمع خطواته خلال ساعات.. لكن تلك المرة استمر الصوت في الاقتراب.. حتى

دنا من زنزانتنا.. و توقف!!
انفتح الباب فجأة، كاشفًا عن حارس من حراس السجن و قد ابتسم ابتسامةً عریضةً..

- حان الوقت.. لقد بزغ الفجر..
اغمضت عیني في قوة.. لیته كان حلمًا.. لیته كان خیالاً.. لكنه للاسف واقع لا شك

فیه..

أ

 

اتجه الحارس و تبعه ثلاث حراس اخرون دنا كل منهم من احد المساجین، فأمسك
به من قیوده و قام بدفعه للأمام لبدء التحرك نحو ساحة الاعدام..

خرجنا من الزنزانه یحیط بنا الحراس الاربعه عابرین ممرات و سرادیب طویلة..
الى أن توقف بنا قائد الحرس قائلاً:

- ادخلوا تلك الغرفة ستجدون اباریق مملوءة ببعض الماء.. توضئوا و صلّوا صلاة
الفجر.. تلك تعلیمات مولانا الحجاج.. و بدأوا في فك قیود ایدینا

ابتسمت للحظة في سخریة.. یا له من حاكم مؤمن!!
بالفعل اتجه كل منا نحو ابریق و بدأنا في سكب الماء على وجوهنا و اذرعنا و
اقدامنا.. و بعد ان انتهینا من الوضوء، اشار الینا الحارس باتجاه القبلة فبدأنا في

الصلاة جماعهً خلف جدي..
ادي كل منا الصلاة فانهمك فیها و كأنها بالفعل أخر صلاة لنا على وجه الارض..
خشعنا جمیعًا خشوعًا حقیقیًا و قد دعا كل منا ربه في السجود حتى رغبنا ألا نقوم

من تلك السجدة…
انتهینا من الصلاة، فأقتاد كل حارس منهم احدنا مرة اخرى و اكملنا طریقنا نحو

ساحة المدینه حیث سیتم اعدام ثلاثتنا..
بمجرد خروجنا من تلك السرادیب المتشعبة.. ارتقینا لسطح الارض و عبرنا لبوابة
السجن، لتري عیناي الشمس لأول مرة منذ دخولي الدیماس.. الشمس في بدایة
شروقها، في زمن لم تلوثه سحب العوادم او یضطرب طقسه بسبب ما فعله
الانسان.. شروق بكر و كأنه الشروق الاول للشمس عبر التاریخ.. اذهلني المشهد و
اثار شجنًا غریبًا داخلي.. فكما تبدأ حیاة یومٍ جدیدٍ.. هاهي تنتهي حیوات ثلاث من

المظلومین..
خطت اقدامنا بوابة السجن الكبري، لیقتادنا الحراس الى الساحة الكبري التي تتوسط
المدینه.. و اثناء اقتیادنا ظلّ اهل المدینه یرمقوني في فضول، و البعض الاخر في
غضب و كأنه ینظر لمن قتل ابنه.. تطوع احدهم لیكیل لأي منا لكمة عابرة، ولكن
استطاع بعض الحراس الذین انضموا للحراس الاربعه السابقین ان یوقفوه قبل

بلوغه إیانا..
تتلاقي عیناي مع عینا جدي في لحظات سریعه متقطعه، لألمح في وجهه الامل..
یالیتني كنت في نصف شجاعتك و رضاك یا جدي.. تتحرك عیني لا ارادیًا لألمح
في نظرة خاطفة وسط الجماهیر وجه المنصور، انتبهت فرائصي بشده فأعدت
النظر، لأجد بدلاً منه شخصًا اخر.. انه مجرد وهم كاذب.. انتابتني الحسرة و
اطرقت برأسي مكملاً عبوري وسط الجماهیر الغاضبة التي اكالت لنا السباب و
الصیاح بلا داعٍ وبلا ادني علم بسبب اعدامنا.. إنها للاسف ثقافة القطیع.. الجماهیر
الغفیرة تتحرك كفرد واحد في الاحداث الكبري.. و ما یسري على شخصیة الفرد
الواحد یسري علیها وقتها.. یبدو أن الحكام الطغاه قد استطاعوا زرع تلك الصفة في

جماهیرهم منذ قدیم الزمان.. یا للاسف..
ً

 

إن المنصة التي سیتم اعدامنا بها تقترب.. و فوقها یقف السیاف شاحذا نصل سیفه..
عفوك و رحمتك یا االله!!

∞ ∞ ∞ ∞ ∞
اقتادنا الحراس و ارتقینا المنصة في بطء، و كل منا یرغب في الابتعاد عن حد
السیف ولو بمقدار شعره یبتعد بها عن الموت.. و في النهایة وصلنا لمستقرنا
الاخیر.. السیف اللامع یعكس لمعانه على وجوهنا، و بعض الجماهیر بدأت في
الاستعداد لرؤیة الدماء تتفجر من اعناقنا، فبدأ هؤلاء في الصیاح لاستعجال السیاف

على تنفیذ الاوامر المعطاه له..
اركعنا الحراس و وضع كل منا رقبته على ذلك الجزء المرتفع من المنصة حتى
صارت رقابنا تحت سیطرة السیاف.. تنتظر كلمة البدء لینهال على رؤسنا بسیفه

البتار..
بدأ قائد الحرس ذو العمامة الخضراء في تلاوة اوامر الاعدام من رق بسطه بكلتا

یدیه قائلاً:
بسم االله الرحمن الرحیم، و الصلاة و السلام على نبیه العدنان.. أنه في یوم العاشر
من شهر رجب من العام الهجري التسعین.. و بأوامر من حاكمنا العادل الحجاج بن
یوسف الثقفي.. بناءًا على ما قام به هؤلاء المجرمین من إخلال بقواعد الولایة، و
اختراق لما ارساه حاكمنا من اوامر تحافظ على نظام الولایة و امن شعبه فمارسوا
الشغب ضد اخوانهم من اهل مدینتا الغالیة و اوقعوا بهم اكبر الضرر و الاذي..
تقرر إعدامهم بقطع الرقبة و صلب جثثهم خارج اسوار المدینه حتى تفسد اجسادهم

لیكونوا عبرة لمن لا یعتبر
أنهي القائد كلماته، و اشار على السیاف ان یبدأ بالتنفیذ..

اتجه السیاف نحونا بزیه الاسود المهیب، و في قبضتیه ممسكًا بسیف عظیم شدید
اللمعان.. اقترب منا حتى دنا من اولنا و كان ذلك اللص الذي لازمنا في الزنزانه..
فصل بین كل منا مسافة تقدر بنصف متر تقریبًا.. و لكني من موضعي استطعت
سماع لهاث ذلك السجین، و رأیت دموع تنحدر من وجهه لتغرق سطح المنصة

اسفله..
صیاح الجماهیر المهتاجة یتعالي.. و ضربات قلبي تتزاید حتى قاربت الوصول
للانهائیة.. السیاف یرفع كلا ذراعیه لأقصي ارتفاع ممكن.. ثم یهبط بهما بكل قوة..

لیقتلع السیف عنق زمیلي من منبته في سرعه..
هالني المشهد و زلزل كیاني في قوة.. مشهد الدماء المتفجرة والذي وصل منها
القلیل لجانب وجهي.. ارتعبت مما حدث فصرخت صرخة عالیة ضاعت في بحر

صیحات الجمع الغفیر الذي حضر ذلك المشهد مستلذًا بشده مما رآه..
اقترب مني السیاف.. لقد جاء دوري.. اراه بصعوبة بعیني التي امتلأت بالدموع..
الموت قادم على بعد خطوات مني.. یمد یده لیمسك بیدي و یأخذني معه لظلمات قبر

أ أ

 

لا ادري ما إذا كان قطعه من جنه ام قطعه من جحیم.. عزائي الوحید أني سأموت
قبل جدي.. ولكن یحزنني لوعه جدي الذي سیري رأس حفیده قد قطعت و رُمیت

في الرمال كجیفة نتنه..
اري جمیع احبابي في لحظات سریعه.. اتمسك بإغماض عیني على ذلك المشهد
الجمیل لیكون اخر ما یبدر ببالى قبل الممات.. اتمتم بالشهاده في خفوت.. منتظرًا

الخلاص..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

تتعالى صیحات الجماهیر.. ولكنها صیحات مختلفة تلك المرة.. صیحات غاضبة
بحق.. صیحات یغلب علیها صوت الثورة.. ضد من؟

یرتطم جسم ما بجانبي على ارضیه المنصة.. افتح عیني في دهشة لأجده السیاف و
قد اخترقت جمجمته سهمًا طویلاً اودي بحیاته على الفور و اسال منه الدماء بدلاً
مني.. تفاجئت ایما مفاجأه مما حدث.. نظرت حولي لأجد الجماهیر تتسلق المنصة و
تهاجم الحراس الذین هالهم المشهد و اخذتهم المفاجأه.. ایما مفاجأه.. إنها المعجزة..

لقد ثارت الجماهیر!!
وجدت ایادٍ تتلقفني و تسحبني في سرعه بعیدًا عن المنصة.. لم استطع تبین
شخصیاتهم.. لم ابال بشئ إلا جدي.. نظرت نحوه لأجده مثلي یتم إبعاده بأقصي
سرعه عن المنصة و إنزاله بعیدًا وسط الجماهیر التي انفض تجمهرها و بدأ كل

منهم في مهاجمه الحراس او هدم تلك المنصة التي اریقت فوقها دماء الآلاف..
اوصلتني الایادي برفقه جدي الى بقعه مستترة خلف احد الدكاكین.. لأجد امامي
المنصور بن مالك ذات نفسه واقفًا وقد ظهرت السعاده على وجهه.. اندفع نحوي

واحتضني في قوة قائلاً:
- اهلاً بك مرة اخرى ایها الغریب.. وأسرع الى قیودي یفكها وبجانبه ولدیه الذین
جاوز كلا منهما سن المراهقة فصار شابًا یافعًا، وقد تناولا قیود جدي وبدأوا في

فكها في اسراع..
مازلت في دهشتي غیر مصدق.. حاولت ان اسأله.. كیف حدث كل ما حدث؟

اجابني في سرعه:
- اعلم أنك مثقل بالاسئلة.. لن یمكنني اجابتها الآن.. فلقد حانت الحرب.. كل ما ترید
معرفته الآن انني لست بتاجر قماش فقط.. بل إنني اتزعم عدد كبیر ممن یعارضون
حكم الحجاج وظلمه واستبداده.. ولقد حاولنا خلال شهور أن نثیر القلاقل لزعزعه
استقرار حكمه الاسود.. ولكن دهاء الحجاج منعنا في كل مرة نحاول فیها.. حتى
جاء حدث اعدامك، وفور علمي بما حدث لك بسبب ولدي یزید.. اقسمت ألا ینال

سیف السیاف من رقبتك..
نظرت له في امتنان قائلاً: لن تتمكن كلماتي من ایفائك حقك بالفعل..

أ أ

 

هز المنصور رأسه في احترام، ثم أردف:
 

- لا وقت نضیعه.. ثم نادي أحد ولدیه.. فهرع الفتي سریعًا خلف الدكان.. وأكمل
المنصور كلامه:

- لقد اعددت لك جوادًا تقوده لتهرب به خارج اسوار المدینه.. ولا تقلق.. فرجالى
سیستكملون إثارة الجماهیر ضد الحجاج.. ادعو لنا بالنصر..

علمت في سري حتمیة فشلهم.. فالحجاج سیكمل حكمه ضاربًا بجمیع الثورات
والقلاقل عرض الحائط الى أن یتوفاه االله بعد خمس سنوات من ذلك العصر.. لكنني

هززت رأسي مصدقًا كلامه في صمت..
أتي الفتي بالجیاد وعلیه سرج جاهز للركوب.. فسألني المنصور: أسرع بالهرب

وسأشتت انتباه الحرس عنك..
نظرت لجدي في رعب.. فأنا لا اجید ركوب الجیاد.. وكأن جدي فهم ما تعنیه

نظرتي.. فابتسم في سرعه قائلاً:
- انا بعرف اركب الحصان یا أدهم.. رحلاتي علمتني الكتیر..

واتبع جملته بالركوب بكل براعه على صهوة الجواد.. فأتبعته وقفزت مثله معتلیًا
الجواد.. وبدأ جدي في الاسراع نحو بوابة المدینة متفادیًا في صعوبة اجسام

الجماهیر الحاشده بساحة المدینه..
رأیت المنصور مقاتلاً لثلة من الحراس الذین تكاتفوا علیه حتى قام أحدهم بإغماد
سیفه في صدره بالكامل.. انتابني حاله من الحزن صرخت من جرائها، فلفتت انتباه

هؤلاء الحرس الذین سارع ثلاثة منهم في اتباعنا بالركوب على جیاد لهم..
اخبرت جدي بضرورة الاسراع هربًا من هؤلاء الحرس الذین یتعقبونا كظلنا
بالرغم من كل مناوشاتنا وسط الجماهیر.. عبرنا بوابة المدینة بعدها بدقائق ومازال

الحراس الثلاثة في اعقابنا.. سألني جدي في قلق:
- لسه الحراس ورانا؟ اجبته بالایجاب.. فسألني مرة اخرى:

- انتا مكان بوابتك فین؟ جاء ردي سریعًا: - ناحیة الجنوب بإتجاه التل اللي هناك..
اتجه جدي نحو تلك التلة وقام بحث الجواد على الاسراع.. ظللنا في طریقنا لدقائق
معدودات.. والحراس مازالوا على مقربة منا.. التل یقترب.. وكذلك الحراس

المصرین اشد اصرار على اللحاق بنا والنیل منا..
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

وصلنا الى التل اخیرًا.. لیهبط كلانا عن صهوة الحصان.. اسرعت بإخراج الساعه
من ردائي واعطیتها لجدي في سرعه مرفقًا بذلك كلامي:

- ابدأ في فتح البوابة وانا هحاول تعطیلهم..

 

رد جدي في قوة:
- ازاي؟ دول تلاته وانتا لوحدك..

اجبته في قلق: اكید هنلاقي سلاح في سرج الحصان دا واتجهت بالفعل نحو السرج
ابحث عما ینقذنا.. فوجدته رابضًا.. ذلك السیف الموضوع في غمده ینتظر من
یخرجه.. امسكت به في قوة، انها المرة الاولي التي احمل فیها سلاحًا.. وها قد جاء

وقتها..
اقترب الحراس منا حتى صارت بیننا أمتار معدودة.. ترجلوا من على صهوة
جنودهم.. ودنا ثلاثتهم وقد امسك كل منهم بسیفه مستعدًا لنزالي… أیقنت عدم جدوى

قتالهم.. فسألت جدي في سرعه وخفوت:
- فاضل كتیر؟

اجابني: خلاص ثواني..
تفتقت عن ذهني فكرة سریعه قد تنقذنا.. حاولت اظهار التماسك والشجاعه..

وصحت بصوت عالٍ:
- قفوا اماكنكم…

بدا على وجه الحراس الثلاثة عدم التصدیق.. فكیف یطالبهم فرد واحد مثلي ومعه
كهل اشیب لا حول لهم ولا قوة بالوقوف وهم حاملي السلاح المدربین على

استعماله أفضل تدریب؟!
ظهر الذهول لثوان على وجوههم ولكنه سرعان ما ذهب لیكملوا اقترابهم مني..

فأكملت كلامي في قوة:
- إنكم لا تعلمون من هذا العجوز الواقف بجانبي.. إنه لساحر عظیم.. بتعاویذه
السوداء سیستدعي انفارًا من الجان والمردة لترمي بكم في غیاهب الجحیم

المستعرة..
لم انتهي من كلامي حتى انفتحت البوابة بالفعل، وبدأ الثقب في التكون في الفراغ
امامنا.. اقترن ذلك المشهد المرعب للحراس بكلماتي التي اثارت خیالهم، فكان
للحدثین معًا وقع السحر تمامًا على نفوسهم.. بدأ ثلاثتهم في الابتعاد وقد تملكهم
الخوف.. وكل منهم یمني نفسه بالهرب.. أسرع جدي بالمرور عبر الثقب.. وعندما
تأكدت من ابتعادهم بقدر یمنعهم من الرجوع مرة اخرى.. قمت بالعبور انا الاخر

لیبتلعني الثقب في ظلامه المحبب لنفسي الآن… انا عائد لزمننا اخیرًا!!
∞ ∞ ∞ ∞ ∞

تتابع الضیاء والإظلام من حولنا، وذلك الاحساس الشنیع بالانضغاط وانتهاء
الانفاس.. ثم العوده السریعه لغرفة مكتب جدي القدیم..

ً

 

تملكني شعور الاعیاء لدقائق، فاستندت على جانب المكتب محاولاً التماسك وبالفعل
استطعت منع نفسي من التقیؤ مرة اخرى.. نظر الى جدي الذي وقف في ارتیاح..

وعیونه تنظر لجوانب الغرفة في شوق ولهفة..
- متقلقش.. مع الوقت هتتعود زي ما انا اتعودت على اعراض السفر دي..

مرت دقائق بطیئة، استعدت بعدها قدرتي على الوقوف بكامل ارادتي.. تنفست
الصعداء لوصولنا للحاضر.. ثم نظرت لجدي نظرة طویلة.. احتضنته بعدها في

سعاده..
ثم توقفت للحظة مستعیدًا ما قاله منذ قلیل..

- مع الوقت اتعود؟ ازاي؟ هو فیه رحلات تاني؟
نظر الى جدي نظرة ملیئة بمعاني واضحة.. ثم ابتسم في صمت..

النهایة
او مجرد بدایة اخرى

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

14

followings

4

followings

0

similar articles