
رواية: غريبٌ عنه
رواية: غريبٌ عنه
كانت المدينة تغرق في الضباب كل ليلة، كأنها تخفي شيئًا لا يجب أن يُرى. الشوارع فارغة إلا من خطى رجل يرتدي معطفًا أسود طويلًا، يسير ببطء نحو المجهول. لم يكن يتذكر لماذا أتى إلى هنا، ولا حتى اسمه الحقيقي. كل ما يعرفه أنه يبحث عن شخص ما... رجل يشبهه كثيرًا لدرجة الرعب.
في كل نافذة مظلمة يمر بها، يشعر بعيون تراقبه، لكنه لا يرى سوى انعكاس صورته. ومع ذلك، ذلك الانعكاس لا يبتسم كما يفعل، بل يحدق فيه ببرود كأنما يقول له: "أنت لست أنا... أنت غريب."
بدأت الذاكرة تعود إليه على هيئة شظايا؛ حادث قديم، وعد مكسور، وخيانة تركت ندبة في قلبه. ومع كل خطوة يقترب من الحقيقة، يزداد الضباب كثافة، كأن المدينة نفسها تقاوم كشف الأسرار.
وعندما وصل إلى أطراف الميناء، ظهر أمامه رجل آخر يقف في نفس الوضعية، بنفس الملامح، بنفس المعطف. لم يستطع أن يميز هل هو ظل... أم حقيقة. اقترب منه ببطء، لكن الآخر لم يتحرك. وحين صار وجهاً لوجه، أدرك الحقيقة القاسية:
كان يطارد نفسه طوال الوقت. نسخة أخرى منه، تحمل كل ما أنكره، كل ما حاول أن يدفنه.
مدّ الغريب يده إليه، وهمس بصوت بارد يشبه صدى الموت:
"لن تهرب مني بعد الآن."
وفي تلك اللحظة، غمر الضباب المكان بالكامل... لتبقى المدينة شاهدة على حكاية رجل صار غريبًا حتى عن نفسرواية: غريبٌ عنه
الفصل الأول: المدينة الضبابية
كان الليل قد أسدل ستاره على المدينة. الأبنية العالية بدت مثل أشباح متجمدة، والشوارع غارقة في ضباب كثيف يجعل كل شيء باهتًا. وحده كان يسير على الرصيف الحجري، خطواته تتردد بصوت مكتوم، وكأن الأرض نفسها ترفض أن تعترف بوجوده.
لم يتذكر اسمه. هذه كانت أول صدمة اكتشفها حين فتح عينيه في هذه المدينة. لا ماضٍ واضح، لا ذكرى صافية سوى ومضات غريبة: باب مغلق بإحكام، وجه مبتسم يتحول فجأة إلى قناع مظلم، وصوت يهمس: "ستظل غريبًا... حتى تجدني."
عقله يلحّ عليه بأسئلة لا إجابة لها: من أنا؟ ولماذا أنا هنا؟ ولماذا أشعر أن كل زاوية في هذا المكان تراقبني؟
اقترب من جدار قديم، عليه مرآة مشروخة مثبتة وسط حجارتها. تطلع إلى صورته، لكن ما رآه لم يكن انعكاسه. الرجل في المرآة كان يشبهه، نعم، لكن ملامحه أشد قسوة، عيناه أكثر برودًا، وابتسامته خبيثة. لم يتكلم، لكنه حرّك شفتيه ببطء، وكأن الكلمات محفورة في الهواء:
"أنا لست أنت... أنت غريب."
ارتجف قلبه. تراجع خطوة، ثم التفت حوله. لم يكن أحد هناك. الشارع فارغ تمامًا. ومع ذلك، لم يستطع shake الشعور أن هناك مَن يتعقبه.
بدأ يسير بسرعة أكبر، ثم سمع خلفه وقع خطوات مطابقة لخطواته. توقّف، فتوقّفت. استدار فجأة، فلم يرَ إلا الضباب. الفصل الثاني: الظلال أدرك وقتها أن هذه المدينة ليست مجرد مكان... بل فخ، وأن الغريب الذي يبحث عنه ربما يكون أقرب مما يظن
لم يجرؤ على العودة إلى المرآة. كل ما رآه هناك كان كافيًا ليوقظ داخله خوفًا عميقًا لم يعرف مصدره.
تابع سيره حتى وصل إلى ميدان واسع، تكسوه طبقة من الماء الراكِد، تعكس أضواء المصابيح القديمة كأنها نجوم غارقة.
وسط الميدان، انتصب تمثال حجري لرجل مجهول. وجهه مشوَّه من التآكل، لكن عينيه الحجريتين ظلّتا تحدقان نحوه بثبات. اقترب ببطء، وشيء ما في داخله يهمس: لقد رأيت هذا المكان من قبل...
عندما لمس قاعدة التمثال، أحس ببرودة غريبة، كأنما لم يلمس حجرًا، بل لحمًا ميتًا. فجأة، سمع صوت خطوات تتردد خلفه. استدار بسرعة، فوجد رجلاً يقف على بُعد أمتار.
كان يرتدي نفس معطفه الأسود، نفس القامة، نفس الشكل تقريبًا. لكن ملامحه لم تكن واضحة، محجوبة بالضباب وكأن وجهه محوٌّ بالكامل.
تجمّد في مكانه، لا يعرف إن كان يواجه شخصًا حقيقيًا... أم مجرد ظل آخر من ظلاله.
نادى بصوت متردد:
– مَن أنت؟
لم يأتِ جواب. الرجل ظل واقفًا بلا حراك. ومع ذلك، سمع داخله صوتًا عميقًا، ليس في أذنه بل في عقله:
"أنت تعرف من أكون... لكنك اخترت أن تنسى."
شعر بصداع حاد كأن رأسه ينفجر. ذكريات مبعثرة عادت فجأة: غرفة مظلمة، رجل يجلس أمامه، توقيع على ورقة ملطخة بالدماء... ثم صرخة مدوية.
أمسك رأسه بكلتا يديه، والعرق يتصبب من جبينه. وعندما رفع عينيه، كان الرجل قد اختفى. لم يبقَ في الميدان إلا الضباب والتمثال الذي بدا كأنه يبتسم بسخرية باردة.
همس لنفسه بصوت مرتعش:
– لو كان هذا غريبًا عني... فمَن أكون أنا الفصل الثالث: الممر
ابتعد عن الميدان بخطوات مسرعة، يحاول أن يهرب من الصدى الذي ظل يرنّ في رأسه: "أنت تعرف من أكون... لكنك اخترت أن تنسى."
تعرّجت به الشوارع حتى وصل إلى ممر ضيق بين بنايات مهجورة. الجدران متآكلة، متشققة، تتدلى منها أسلاك صدئة، والأرضية غارقة في بقع ماء معتمة. كان المكان أشبه بممر لم يُفتح منذ سنوات.
ومع ذلك، أحس أنّه يعرف الطريق. قدماه تتحركان بثقة غريبة، وكأن شيئًا ما يقوده. كلما خطا خطوة، ازدادت الظلال كثافة على الجدران. كان الضوء من المصابيح البعيدة ينعكس مشوّهًا، مكوّنًا أشكالًا تتحرك ببطء، كأنها تراقبه.
عند منتصف الممر، لمح بابًا خشبيًا قديمًا نصف مفتوح. توقّف أمامه، تردّد لحظة، ثم دفعه.
الباب أطلق صريرًا حادًا مزّق الصمت، ووجد نفسه داخل غرفة صغيرة معتمة. لم يكن فيها سوى كرسي خشبي يتوسط المكان، وفوقه دفتر قديم.
اقترب ببطء، مد يده المرتجفة وأمسك بالدفتر. كان مغطى بالغبار، وعلى غلافه كُتبت جملة باهتة بخط يد يعرفه:
"هذا ليس لك... هذا لي."
فتح الصفحة الأولى، فوجدها تحتوي على سطور غير مكتملة، كأن شخصًا كتب على عجل:
"اليوم رأيته من جديد. لم يختفِ أبدًا. كلما حاولت نسيانه عاد في صورة أخرى. هو لا يريد قتلي... بل يريد أن يحل محلي."
تجمد الدم في عروقه. أحس أن الكلمات ليست مجرد ذكريات شخص آخر... بل ذكرياته هو، كتبها بيده يومًا ما، ثم أنكرها.
وفجأة، أغلق الباب خلفه بقوة. ارتعد قلبه. التفت بسرعة، فرأى ظلًا طويلًا يمتد على الحائط. لم يكن ظله... كان ظل رجل آخر يقف في الغرفة نفسها، يراقبه بصمت.
همس الصوت ذاته داخل رأسه:
"أنت الغريب... أنا الحقيقي. الفصل الرابع: اللقاء الأول
وقف في منتصف الغرفة، متجمّدًا، والدفتر لا يزال بين يديه. الظل على الجدار بدأ يتحرك، يتمدد، وكأن صاحبه يقترب ببطء من مكانه. لم يجرؤ أن يرفع عينيه ليتأكد إن كان هناك رجل حقيقي يقف خلفه أم مجرد وهم صنعه عقله.
لكن صوته سمعه بوضوح، منخفضًا، باردًا:
– قلت لك… أنا الحقيقي.
التفت ببطء.
وهناك كان… رجل يشبهه في كل شيء. نفس الملامح، نفس المعطف، نفس الوقفة، وكأن المرآة خرجت من إطارها لتصير لحمًا ودمًا.
الفرق الوحيد كان في العينين. عينا الآخر كانتا مظلمتين، خاليتين من أي حياة.
– مَن أنت؟ – سأل بصوت متحشرج.
ابتسم الآخر ابتسامة باهتة، وقال:
– أنا أنت… الذي تركته خلفك.
ارتبك، تراجع خطوتين حتى اصطدم بالحائط. قلبه يدق بجنون، والدفتر سقط من يده على الأرض، فتبعثر أوراقه في الهواء.
أمسك رأسه بين كفيه:
– هذا جنون… أنت مجرد وهم.
الآخر اقترب أكثر، خطواته لا تُصدر صوتًا، حتى صار على بُعد أنفاس منه. مد يده ولمس كتفه. كانت اللمسة حقيقية، باردة كالثلج.
قال:
– لم يعد بوسعك الإنكار. أنت اخترت أن تمحو ماضيك… وأنا عدت لأذكّرك به.
فجأة، انطفأ الضوء في الغرفة. صارت الظلمة تامة، ولم يبقَ سوى أنفاس متلاحقة، ونبضه يتسارع حتى يكاد ينفجر. حاول أن يصرخ، لكن صوته اختنق في حلقه.
ثم سمع الهمسة قرب أذنه مباشرة:
"الهروب انتهى… إما أن تواجهني، أو أكونك."
وبعدها… انفتح الباب من تلقاء نفسه، وانفجر ضوء باهر غمر المكان. وعندما عاد ينظر حوله، كان الرجل قد اختفى، وكأن شيئًا لم يكن. لم يبقَ إلا الدفتر الممزق على الأرض، وصفحة أخيرة كُتبت بخط يده:
"الفصل القادم سيبدأ حين تتوقف عن الهرب.الفصل الخامس: الذاكرة الممزقة
خرج مسرعًا من الغرفة، صدره يعلو ويهبط كأنه يركض داخل حلم لا نهاية له. الشوارع ما زالت غارقة في الضباب، لكن الآن صار كل زاوية وكل نافذة تحمل احتمال ظهوره من جديد.
جلس على درج حجري قديم ليستجمع أنفاسه. أغمض عينيه، لكن الصور عادت أقوى: وجه غريب مبتسم، توقيع على ورقة ملوثة بالدم، وصوت صراخ بعيد.
شيء ما بداخله يقول إن كل ما يحدث ليس وليد صدفة، بل نتيجة قرار قديم اتخذه هو بنفسه… قرار حوّله إلى هذا الغريب عن نفسه.
فتح عينيه فجأة، فوجد ورقة مطوية بجانبه. لم يتذكر أن أحدًا مرّ من هنا. التقطها وفتحها بحذر. كانت مكتوبة بخط واضح:
"توقّف عن البحث عني في الشوارع… الحقيقة تسكن داخلك."
ارتعش جسده. كيف وصلت الورقة؟ هل كتبها بنفسه دون أن يدري؟ أم أن الآخر يعبث به علنًا؟
وقف وأخذ يسير بلا هدف حتى وصل إلى بناية قديمة، بابها متهالك نصف مخلوع. شيئًا ما في داخله دفعه إلى الدخول. الدرج الخشبي صرّ تحت قدميه وهو يصعد، حتى وصل إلى غرفة في الطابق العلوي.
الغرفة كانت خالية إلا من مرآة كبيرة تغطي الجدار بأكمله. اقترب ببطء، قلبه يخفق. نظر إلى انعكاسه… فرأى نفسه. هذه المرة لم يكن الانعكاس مختلفًا، بل هو نفسه، بوجهه المرتبك وعينيه المرهقتين.
لكن بعد لحظات، تغيّر المشهد. انعكاسه بدأ يبتسم ببطء، ثم مد يده من داخل الزجاج كأنما يريد اختراقه.
تراجع مذعورًا، لكن المرآة تكسرت فجأة، وتناثرت الشظايا على الأرض.
من بين الشظايا خرج صوته – صوته هو، لكن أكثر برودة:
"لن تهرب بعد اليوم. لقد بدأت تتذكر