
السماء لا تتسع لنا -الفصل التاسع (الكاتبة علا إبراهيم)
ليحدق الضابط في الورقة التي بين يديه، عيناه تتحركان بين السطور، قبل أن تقتنصها أروى فجأة من يده.
كانت بحاجة لرؤية الحقيقة بأم عينها... وحين تأكدت أنها ورقة زواج، لم تستطع حبس دموعها.
انهمرت الدموع على وجنتيها بصمت، وكانت ملامحها بريئة، حزينة، بطريقة جعلت الظابط يتوقف لحظة وهو يحدق في وجهها.
هل هذا الحزن كله تمثيل؟!
أما فاروق فظل واقفًا في مكانه، لا يهتم بدموعها، ولا بانكسارها.
ورغم كل شيء… رغم أنه بدا باردًا، إلا أن شيئًا ما داخله تحرك، لم يكن حزنها هو ما أثّره، بل نظرة الضابط لها…
نظرة فيها شفقة، وربما إعجاب.
ليمد يده فجأة، ويشُبك أصابعه بأصابع أروى…
ضغطة قوية، أراد بها أن يُظهر للضابط أنها زوجته، أنه يحبها…
لكنه في الحقيقة كان يغلي من الداخل.
– «أقدر أخد مراتي وامشي؟»
قالها فاروق ببرود، وهو لا ينظر لأروى.
أجاب الضابط بثقة:
– «طبعًا، يا فاروق بيه… وإحنا آسفين على الإزعاج.»
ابتسم فاروق ابتسامة مقتضبة، وأمسك بيد أروى ليجرّها خلفه كأنها حقيبة، بينما كانت هي في عالم آخر، ما زالت تمسك بالورقة بين يديها كأنها قطعة من مصيرها، تمثال يتحرك فقط لأنه يُسحب.
السماء لا تتسع لنا

---
عند باب السيارة، رمى يدها بقسوة مازال داخلة الضيق من نظرات ذلك العقيد، ونظر لها باستياء، ملامحه لا تحمل أي تعاطف.
– «أنا زهقت من تمثيلك ده.»
قالها بجفاء، وصوته جارح.
رفعت أروى وجهها نحوه بسرعة، الكلمات أصابتها كصفعة.
هل يشعر بها إلى هذه الدرجة؟ هل يظن أنها تمثل؟!
نظرت لعينيه بعينيها اللامعتين من الدموع، كأنها تقول: أنا مش كاذبة… ولا ضعيفة.
لكن فاروق أدار وجهه عنها، هاربًا من نظرتها، تنهد ببطء ثم قال وهو يعيد النظر إليها:
– «بصي… أنا هخليكي مراتي، وهجبلك شقة تقعدي فيها لوحدك، ومش هخليكي تشتغلي في القصر تاني.
وممكن أجيلك يومين في الأسبوع.»
ابتسمت له باستهزاء، وهي تمسح دموعها بيديها…
لا وقت للدراما، ولا للبكاء، فهي من أكثر الناس فهمًا لفاروق.
تعلم جيدًا أنه لا يلين، وأن بكاءها لن يهز له رمش.
اقتربت منه… لا كثيرًا، ليس من طباعها الجرأة، بل هي خجولة، وقلبها طيب.
همست بصوت مرتعش، حاولت السيطرة عليه لكن الضعف تسرب إلى نبرتها:
– «طلقني.»
تفاجأ قليلًا، لكنه ردّ بهدوء:
– «ممكن أطلقك عادي… بس تقدري تقوليلي هتروحي فين؟»
سكتت… كان عنده حق.
أين ستذهب؟ من سيأويها؟ من سيصدقها أصلًا؟
قال فاروق بلامبالاة وهو يفتح باب السيارة:
– «اطلعي يلا… هودّيكي الشقة.
ومش هقربلك خالص… ده جواز مؤقت… لحد ما نشوف هنعمل إيه.»
---
حدّقت في عينيه للحظة قبل أن تصعد، لا تعلم لماذا لا تخاف منه…
ربما لأنها تشعر أنه لا يراها كامرأة… لا يراها مغرية، لا يراها كما يرى الأخريات.
ربما هذا ما يمنحها شعورًا بالراحة… وربما بالخذلان.
صعد هو الآخر في مقعد السواقة، وكل منهما شارِد في عالمه…
هي تفكر في حياتها التي انقلبت، وما وصلت إليه، وما ينتظرها لاحقًا.
القدر يلعب لعبته معها، وهي… مستسلمة تمامًا.
أما هو، فكان غريبًا على نفسه.
لم يفهم لمَ شعر بتلك الغيرة، عندما رأى نظرة الضابط نحوها.
هو لم يَغَر يومًا في حياته… هو لا يهتم…
لكنه تذكر تلك النظرة، وتذكر عيني أروى وهي تتوسل، والضابط يستمع…
فجأة ضغط على الفرامل بشدة، لتصدر السيارة صوتًا حادًا، قطع شرودها.
– «إحنا فين؟!»
سألت أروى، وهي تنظر من النافذة حولها.
الكوبري أمام البحر، لا عمارات، ولا مارة، فقط طريقين خاليين من الحياة.
رد فاروق وهو ينزع حزام الأمان:
– «أنا نازل أجيب حاجة نشربها.»
– «لا شكراً.»
قالتها بسرعة، بهدوء خائف.
لكنه لم يهتم، نزل متجهًا إلى محل بقالة كبير على الرصيف الآخر.
---
كانت أروى تراه من خلال الزجاج، يحمل نفسه بثقة، يختار العصائر، يدفع المال…
شخص غريب… لا تدري كيف تصفه.
أحيانًا حنون، أحيانًا قاسي، أحيانًا طفولي، وأحيانًا بارد كالثلج…
لكن الشيء الوحيد الذي تعلمه جيدًا… أنه طيب القلب، وأنها لا تخاف منه.
عاد بالعصائر وزجاجة مياه، فتح الباب وجلس بجوارها، ناولها كيس العصير دون أن ينطق.
فتحت الكيس ببطء، وجدت زجاجة عصير لها، وزجاجة مياه باردة.
شربت من المياه… لم يكن الطعم هو ما خفف عنها، بل تلك البساطة في لفتته.
هو لم يعتذر… ولم يحنُ…
لكنه أحضر لها عصيرًا.
وهذا وحده، بالنسبة لها، كأن قلبه قال "أنا آسف"…
بطريقته الخاصة.
الكاتبة :علا ابراهيم