 
            صلاح الدين الأيوبي وتحرير القدس
صلاح الدين الأيوبي وتحرير القدس
نتصف القرن الثاني عشر الميلادي، كانت الأمة الإسلامية تمرّ بأضعف حالاتها. انقسمت البلاد إلى دويلاتٍ متنازعة، وتسلّط الصليبيون على أراضي الشام وفلسطين، حتى احتلّوا القدس، المدينة التي تُعدّ قلب العالم الإسلامي. وبينما عمّ الضعف والخلاف أرجاء الأمة، وُلد في مدينة تكريت بالعراق فتى اسمه يوسف بن أيوب، سيُعرف فيما بعد باسم صلاح الدين الأيوبي، أحد أعظم القادة في التاريخ.
نشأ صلاح الدين في بيتٍ مسلمٍ قوي الإيمان، يهتم بالعلم والشجاعة. كان والده من القادة، ولذلك تربّى صلاح الدين على حب الفروسية والجهاد منذ صغره. لكن ما ميّزه لم يكن فقط سيفه القوي، بل قلبه الرحيم وفكره الواعي. كان يحب القراءة، ويستمع للعلماء، ويؤمن أن الأمة لا تنهض إلا بالعلم والوحدة.
حين شبّ صلاح الدين، التحق بخدمة القائد الكبير نور الدين زنكي في الشام. كان نور الدين يحلم بتوحيد المسلمين تحت راية واحدة لمواجهة الصليبيين، ورأى في صلاح الدين ذكاءً وحكمة تجعله أهلًا لهذه المهمة. ومع مرور السنوات، أصبح صلاح الدين أحد أهم القادة في جيش نور الدين، يشارك في المعارك وينظم الجيوش، حتى ذاع صيته في كل البلاد.
بعد وفاة نور الدين، تولّى صلاح الدين حكم مصر سنة 1169م، وبدأ هناك مسيرته في الإصلاح. عمل على تقوية الجيش، وتنظيم شؤون البلاد، ومحاربة الفساد، وكان عادلًا قريبًا من الناس. لم يكن يسعى للسلطة من أجل نفسه، بل كان هدفه الأكبر هو توحيد الأمة الإسلامية من جديد، لتصبح قادرة على استعادة أراضيها من الصليبيين.
وبعد سنواتٍ من الجهد والسياسة الحكيمة، تمكن صلاح الدين من توحيد مصر والشام والحجاز واليمن تحت حكمٍ واحد. أصبح المسلمون أخيرًا قوةً واحدة، يجمعهم الإيمان والهدف المشترك، وهو تحرير القدس.

وجاءت اللحظة الحاسمة عام 1187م، عندما واجه صلاح الدين جيوش الصليبيين في معركة حطّين. كانت المعركة شديدة وقاسية، لكن الإيمان كان أقوى من السيوف. استخدم صلاح الدين ذكاءه العسكري، فحاصر الصليبيين في مكانٍ قليل الماء، حتى أنهكهم العطش، ثم هجم عليهم بقوة جيشه. انتهت المعركة بانتصارٍ ساحق للمسلمين، وسقط آلاف من جنود الصليبيين، وأُسر ملك القدس نفسه.
بعد هذا النصر العظيم، اتجه صلاح الدين نحو القدس، المدينة التي ظلّت أسيرة في أيدي الصليبيين لقرابة 88 عامًا. حاصرها بأسلوبٍ حكيم، دون تدميرٍ أو ظلم، حتى استسلمت في 27 رجب سنة 583هـ (1187م).
دخلها القائد المنتصر متواضعًا، صائمًا، شاكرًا الله على فضله. رفع راية الإسلام فوق قبة الصخرة، وعمّت أصوات التكبير في أرجاء المدينة، والدموع في عيون الناس فرحًا بتحريرها.
لكن أجمل ما فعله صلاح الدين لم يكن النصر العسكري فقط، بل عدله ورحمته. فعندما دخل القدس، لم ينتقم من أعدائه، بل منحهم الأمان، وسمح للمسيحيين بالمغادرة بسلام مقابل فدية بسيطة. حتى المؤرخين الأوروبيين كتبوا عن عدله وقالوا: "ما رأينا قائدًا أنبل من صلاح الدين."
عاش صلاح الدين بقية عمره مجاهدًا في سبيل الله، رافضًا حياة الترف، رغم أنه كان حاكمًا على نصف العالم الإسلامي. وعندما مات، لم يترك وراءه سوى دينارٍ واحد ودرعه وسيفه.
وهكذا، أصبح صلاح الدين الأيوبي رمزًا خالدًا للعدل والشجاعة والوحدة. علّم العالم أن النصر لا يأتي بالقوة فقط، بل بالإيمان، والحكمة، والرحمة. وسيظل اسمه محفورًا في التاريخ، يذكّرنا بأن من يُخلص لله ويؤمن بعدالة قضيته، فإن الله يفتح له أبواب النصر مهما طال الزمن.
 
             
                       
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                         
                      
                                                                         
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                   
                   
                   
                   
                   
                   
                       
                       
                       
                       
                      