قصة كرتبالي الفدائي
قصة كرتبالي الفدائي
تمثل شخصية كِرتبالِي الفدائي إحدى أبرز الأمثلة على التداخل بين التاريخ الرسمي والمرويات الشعبية في الذاكرة العثمانية. وعلى الرغم من أن الوثائق الرسمية لا تذكره بالاسم، فإن وجود القصة في التراث الشعبي وفي روايات الشيوخ والرحالة والمتصوفة يشير إلى أهميتها كمفتاح لفهم مرحلة اضطراب سياسي ونفسي عاشتها الدولة العثمانية في أوائل القرن السادس عشر. في هذا النص الطويل، سنعيد قراءة القصة قراءة علمية سلسة، تمزج السرد بالتحليل، وتفكك الخلفيات العسكرية والاجتماعية والنفسية التي أدت إلى ولادة حكاية “الفدائي” الذي حاول مواجهة السلطان سليم الأول في لحظة دقيقة من تاريخ الإمبراطورية.
---
السياق التاريخي لظهور القصة
ظهرت قصة كرتبالي في سياق انتقال السلطة من السلطان بايزيد الثاني إلى ابنه السلطان سليم الأول عام 1512، وهي فترة اتسمت بصراع داخلي شرس بين أفراد الأسرة العثمانية. فقد كان لسليم ثلاثة أشقاء ينازعونه الحكم، إضافة إلى تأييد فئات من الجيش – خاصة الانكشارية – لبعض المنافسين. هذا الصراع خلق حالة من الانقسام في المجتمع العسكري والسياسي، وجعل انتقال السلطة مصحوبًا بمشاعر خوف، غضب، وقلق جماعي.
في هذا المناخ المتوتر، يصبح من الطبيعي أن ينشأ بطل شعبي مثل كرتبالي: رجل غاضب من طريقة تولي السُلطة، يرى أن الدولة انحرفت عن قيمها، وأن تدخل “الفدائي المنقذ” قد يعيد التوازن. لذلك، فإن فهم القصة لا يمكن أن ينفصل عن البيئة التي ظهرت فيها، وهي بيئة مشحونة بالتنافس الدموي، وتبدل الولاءات، وتوتر العلاقة بين السلطة والمجتمع العسكري.
---
من هو كرتبالي؟ محاولة لإعادة بناء الشخصية علميًا
تحاول المرويات الشعبية تقديم كرتبالي بوصفه جنديًا عثمانيًا منحدرًا من منطقة تُعرف باسم “كِرتبال” أو مرتبطًا بلقب يعني "ذو الكتفين العريضتين". وهذا النمط من التوصيف شائع في الثقافة التركية، حيث تُطلق الألقاب على الأشخاص بناء على صفاتهم الجسدية أو مناطقهم. وتشير بعض الروايات الشفوية إلى أنه كان من السباهية (الفرسان الإقطاعيين)، بينما تذكر روايات أخرى أنه كان من الانكشارية.
ورغم غياب الدليل القاطع، إلا أن تحليل طبيعة شخصيته في القصة يشير إلى أنه أقرب إلى طبقة الفرسان: رجال تربوا على الفروسية، ويمتلكون إحساسًا قويًا بالكرامة العسكرية، وقد يتأثرون بشدة عند رؤية تغيّر في بنية الدولة العسكرية أو إقصاء قادتهم.
وتصوره القصة كرجل تمزقه صراعات داخلية:
فهو مخلص للدولة، لكنه رافض للحاكم.
وهو جندي منضبط، لكنه مستعد لخرق كل القواعد من أجل “إنقاذ” الأمة.
وهو مؤمن بالقضاء والقدر، ولكنه يتحرك بدافع إرادة فردية قوية.
هذا التناقض هو ما يجعل شخصية كرتبالي جذابة للشعوب، لأنه يشبه البطل المأساوي الذي يحاول تغيير التاريخ رغم استحالة النجاح.

---
لماذا استهدف كرتبالي السلطان سليم الأول؟
للاستفهام عن دافع كرتبالي، يجب فهم ما مثّله السلطان سليم الأول بالنسبة للعسكر. فقد صعد سليم للحكم عبر حملة من القوة الصارمة والإعدامات، وأقصى عددًا كبيرًا من الأمراء، وغيّر سياسة الدولة تجاه الصفويين والقبائل التركمانية التي كان لها نفوذ طويل.
تحليل نفسي–سياسي للدافع الفدائي
من زاوية علم النفس السياسي، فإن التغييرات السريعة داخل الدولة تُحدث اضطرابًا في “الأنا الجماعية” للجماعات العسكرية. فالعسكري الذي نشأ تحت سلطان سابق يشعر بأن “الأرض اهتزت” حين ينقلب النظام فجأة. وقد ينتج عن ذلك:
1. إحساس بالخيانة: يرى أن قيادته القديمة تعرضت للظلم.
2. فقدان اليقين: يخاف من المستقبل الغامض.
3. تضخم الشعور بالبطولة الفردية: يعتقد أنه قادر على إصلاح ما أفسدته السياسة.
وفق هذا التحليل، يصبح مشهد كرتبالي وهو يقرر أن يتخلص من السلطان سليم الأول مفهومًا نفسيًا، حتى لو كان غير واقعي تاريخيًا. إنه رد فعل على “الصدمة السياسية”.
---
السرد الشعبي لمحاولة الاغتيال
تروي المرويات أن كرتبالي خطط لخطة دقيقة:
درس ممرات القصر جيدًا، مستفيدًا من خبرته العسكرية.
اختار توقيتًا يوافق تبديل الحراس.
حمل خنجرًا صغيرًا حادًا مخصصًا للقتل الصامت.
تسلل ليلاً وهو مرتدٍ زي أحد حراس القصر.
في اللحظة الحاسمة، تقول القصة إن أحد الحراس انتبه لخطواته، أو أن أحد زملائه – بدافع الخوف أو الحسد – وشى به قبل بدء العملية. فتم القبض عليه قبل وصوله إلى مخدع السلطان.
وتشير بعض الروايات إلى أنه اعترف بأنه كان يريد “إنقاذ الدولة من الفوضى” وأنه لم يرَ نفسه مجرمًا، بل فدائيًا يحاول حماية الإمبراطورية من أخطاء القيادة. هذا الاعتراف يعطي القصة بعدًا رمزيًا قويًا، حتى لو كان متخيلاً.
---
التحليل التاريخي لغياب ذكر الحدث في المصادر الرسمية
يستغرب بعض الباحثين من عدم وجود ذكر لكرتبالي في سجلات الدولة، ولكن هذا أمر طبيعي للأسباب التالية:
1. حرص الدولة على إخفاء محاولات اغتيال السلاطين
التاريخ العثماني حافل بمحاولات ظلت طي الكتمان، لأن نشرها قد يشجع آخرين أو يعطي انطباعًا بضعف السلطة.
2. ميل الروايات الرسمية لتنقية صورة السلطان
سليم الأول كان يُقدَّم كرجل عسكري قوي لا يهتز، وإضافة قصة فدائي حاول قتله قد تُضعف الصورة السياسية التي رسمها المؤرخون الرسميون.
3. طبيعة القصص الشعبية
الروايات الشعبية تهتم بالمشاعر والرموز أكثر من الدقة الزمنية. فهي تخلق أبطالاً يمثلون الجماعة، حتى لو لم يكونوا موجودين تاريخيًا.
من هنا يظهر التناقض بين التاريخ المكتوب والتاريخ المتخيل، لكن كلاهما مهم في فهم المجتمع.
---
الدلالة الاجتماعية لشخصية كرتبالي
القصة تعكس صراعًا عميقًا داخل المجتمع العثماني، يمكن تلخيصه في ثلاثة مستويات:
أولاً: صراع طبقة الفرسان والانكشارية
كانت بداية القرن السادس عشر بداية صدام بين الفرسان التقليديين (السباهية) والانكشارية الصاعدين بقوة. وقد رأى البعض في سليم الأول حاكمًا يميل للانكشارية، ما أثار غضب الفئات المنافسة. لذلك تصبح شخصية كرتبالي – بوصفه فارسًا تقليديًا – رمزًا لتلك الفئة التي شعرت بأنها تُستبعد من السلطة.
ثانيًا: صورة السلطان المستبد
في الوجدان الشعبي، أي سلطان يصل للحكم بالقوة المطلقة يتحول إلى "رجل يجب ترويضه". وهكذا تظهر الشخصيات الفدائية في الثقافة الشعبية كرد فعل رمزي على السلطة المطلقة.
ثالثًا: الحاجة لبطل مضاد
كل مجتمع يخلق بطلًا يقف في مواجهة السلطة، ويسقط عليه أحلامه واحتجاجاته. كرتبالي يؤدي هذا الدور بامتياز.
---
كيف شكلت القصة الوعي الجمعي العثماني؟
استمرت قصة كرتبالي في التداول قرونًا بسبب تأثيرها العميق في المجتمع:
1. أكدت على قيمة الفدائية والشجاعة الفردية.
2. أظهرت أن الشعب قادر على مواجهة السلطة إن انحرفت – ولو رمزيًا.
3. رسخت فكرة أن الدولة ليست فوق النقد حتى في عصور السلاطين الأقوياء.
4. أصبحت نموذجًا لتفسير الغضب المكبوت داخل المجتمع العسكري.
5. منحت بداية عهد سليم الأول بعدًا دراميًا يفهمه الناس بسهولة.
هكذا، تحولت القصة إلى جزء من الذاكرة الثقافية، بغضّ النظر عن دقتها التاريخية.
---
البعد النفسي لشخصية الفدائي
من منظور علم النفس الاجتماعي، يتسم الفدائيون في القصص الشعبية بسمتين أساسيتين:
1. ازدواج الهوية
فهم بين الولاء للدولة والتمرد على القائد، وبين حب الوطن ورفض السلطة. كرتبالي مثال واضح على هذا التمزق، وهو تمزق جندي يشعر بأن شرفه العسكري مهدد.
2. الإحساس المفرط بالمسؤولية
الفدائي عادة يرى نفسه “آخر رجل يقف بين الفوضى والنظام”. هذا النوع من الفكر يظهر في لحظات اضطراب الأنظمة السياسية، حين يشعر الأفراد بأن المؤسسات فقدت دورها.
هاتان الصفتان تظهران بوضوح في وصف المرويات الشعبية لكرتبالي.
---
لماذا نجت القصة عبر الزمن رغم عدم ثبوتها؟
هذا سؤال مهم، والإجابة عليه تكشف الكثير عن دور الحكاية في المجتمع.
أولاً: لأن الناس تحب الحكايات التي تمنحهم القوة
القصة تمنح الجندي البسيط مكانة في مواجهة الحاكم الأعلى. هذا يشعر الشعوب بقوتها، حتى لو كانت القصة رمزية.
ثانيًا: لأنها تشرح التوتر السياسي بطريقة أخلاقية
بدل أن يقال "الصراع على السلطة كان قبيحًا"، تمنح القصة تفسيرًا بسيطًا: “كان هناك رجل شجاع حاول إصلاح الخطأ”.
ثالثًا: لأنها تحوّل التاريخ البارد إلى دراما
التاريخ المكتوب يميل إلى الجفاف. أما القصص الشعبية فتمنحه روحًا.
رابعًا: لأنها تنسجم مع نمط ثقافي تركي–عثماني قديم
نمط “البطل الفردي” موجود في الحكايات التركية منذ العصور الوسطى:
البطل الذي يقاوم السلطان أو الحاكم، لا ليهدم الدولة، بل ليعيدها إلى طريقها الصحيح.
---
الخلاصة العلمية الموسّعة
قصة كرتبالي الفدائي ليست مجرد حكاية رجل حاول قتل سلطان، بل هي مرآة عاكسة لتعقيدات مرحلة انتقالية في تاريخ الدولة العثمانية. ظهرت القصة لأنها تلبي حاجة المجتمع لفهم صدمة سياسية، وحافظت على وجودها لأنها تعبّر عن رغبة دائمة في رؤية السلطة من خلال منظور شعبي، وتؤكد أن التاريخ ليس فقط ما يُكتب في السجلات، بل أيضًا ما يعيش في الخيال الجماعي.
إن كرتبالي، سواء كان موجودًا بالفعل أو خلقته المرويات، يمثل صوت الجماعة المقهورة، وجنديًا وقع في صراع مرير بين الواجب العسكري والضمير الاجتماعي. وهو نموذج للفارس الذي حاول أن يصنع قدره، لكن القدر الأكبر – السياسي والتاريخي – كان أقوى من محاولته.
وهكذا، فإن قراءة القصة علميًا تكشف لنا درسًا مهمًا:
التاريخ لا يُفهم بالوقائع وحدها، بل بالناس الذين يعيشونه، والقصص التي يخترعونها ليبرّروا آلامهم ويجدوا معنى لتغيرات الزمن.