مقالات اخري بواسطة Hesein Ahmed
تحت سقفٍ مثقَّب بالمطر

تحت سقفٍ مثقَّب بالمطر

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

image about تحت سقفٍ مثقَّب بالمطرالفصل الأول: تحت سقفٍ مثقَّب بالمطر

كانت الساعة تقترب من منتصف الليل حين عاد عمر الريّس إلى البيت.
الشارع غارق في ليلٍ بارد، والمطر يتساقط كأن السماء تحاول غسل شيء لا يُغسَل. حمل بيده كيس خبزٍ مبلّل، وبالأخرى ظرفًا صغيرًا أخفاه في جيبه، لا يريد لأحد أن يراه.

فتح باب الشقة القديمة، فأطلق صريرًا اعتاد عليه منذ طفولته.
كانت أمه جالسة قرب نافذة مكسورة من إحدى الزوايا، تضع منشفة لوقف تسرب المطر. رفعت رأسها فور أن رأت ابنها.

"اتأخرت يا عمر."

ابتسم بتعب:
"كان عندي شغل متراكم… وأردت أن أطمئن على المدير قبل أن أغادر."

لم تُصدّق كلماته، لكنها لم تسأله أكثر.
هي تعرف أن ابنها يتظاهر بالقوة منذ سنوات… منذ ذاك اليوم الذي نُقل فيه والده إلى المستشفى ولم يعد بصورته نفسها.

من داخل الغرفة، خرجت أخته الصغيرة مريم وهي تحمل دفتر المدرسة.
"عمر… عندي اختبار بكرة. تقدر تراجع لي؟"

أجاب بلا تردد، رغم الإرهاق:
"أكيد يا ميمو. بس خليني أبدّل هدومي."

دخل غرفته الضيقة.
تساقطت قطرات المطر من شعره على الأرض. نظر حوله… نفس السرير القديم، نفس الحائط الذي بدا كأنه يتنفس ضيق المكان، نفس الطاولة التي يحلم فوقها بمستقبلٍ مختلف.

أخرج الظرف من جيبه.
فتحه ببطء… كانت الورقة بداخله إشعار إنذار من البنك:
"دفع القسط خلال سبعة أيام… وإلا يُتخذ الإجراء القانوني."

ضغط بأصابعه على أطراف الورقة حتى كادت تتمزق.
كان يعلم أن أمه لا تحتمل مزيدًا من الأخبار السيئة، وأن أخته لا تتحمل أن تُطرد من المدرسة.
وهو… لا يتحمل أن يعود ذلك الشاب الفقير الذي كانت الدنيا تسخر منه دائمًا.

جلس على حافة السرير، يركّز نظره على الورقة، وتشتعل داخله رغبة قديمة:
يجب أن يثبت قيمته… يجب أن ينقذ عائلته… مهما كان الثمن.

رنّ هاتفه فجأة.
كان الرقم من شركته.
تردّد لحظة، ثم أجاب.

جاءه صوت المشرف بصوتٍ غامض:
"عمر، جهز نفسك. في فرصة كبيرة جايّة لك… ترقية تستحقها. لكن محتاج نتكلم بكرا بدري. الموضوع حساس."

تحرك قلبه كمن يسمع وعدًا بالخلاص.
ونفسه، التي تحملت الفقر طويلاً، بدأت تتمسك بخيط الأمل.

لكن شيئًا في لهجة الرجل… كان ينذر بأن الطريق القادم ليس نظيفًا كما يتمنى.

أغلق الهاتف.
رفع عمر نظره نحو المرآة.
رأى وجهًا متعبًا… لكنه يحمل شرارة تحدٍّ عنيدة.

ثم قال لنفسه بصوت لا يسمعه أحد:
"لو كان هذا الطريق سيُخرجنا من هالحفرة… فأنا مستعد أمشي فيه."

وفي الخارج، اشتدت أصوات المطر… كأن السماء تحاول تحذيره.

الفصل الثاني: الباب الذي لا ينبغي أن يُفتحimage about تحت سقفٍ مثقَّب بالمطر

استيقظ عمر قبل شروق الشمس، رغم أنه لم ينَم إلا ساعات قليلة.
كان يشعر بأن اليوم يحمل شيئًا غير مألوف… شيئًا ينتظره منذ سنوات، وشيئًا يخشاه في الوقت نفسه.

ارتدى قميصه المكوي بعناية، وربط ربطة عنقه بيدٍ مضطربة، ثم خرج من البيت بخطوات سريعة حتى لا تلاحظ أمه ارتباكه.

كان البرد لاذعًا، لكن قلبه أكثر اضطرابًا من الطقس.
وصل إلى الشركة قبل الجميع، فوجد المصعد خالياً. حين فتح الباب، كانت رائحة المعقمات تملأ الطابق، وصوت أجهزة الكمبيوتر يهمس في الظلام.

دخل مكتب المشرف فؤاد دون أن يطرق، بعدما سمع صوته يقول:
"تعال… الباب مفتوح."

كانت الغرفة مضاءة بمصباح واحد، والستائر مغلقة كأن كل شيء داخلها سرّ يجب إخفاؤه.
فؤاد، الرجل الذي لا يبتسم عادةً، كان يجلس خلف المكتب ويداه متشابكتان.

رفع نظره إلى عمر وقال:
"اجلس."

جلس عمر، يحاول أن يبدو هادئًا.

تنحنح فؤاد ببطء قبل أن يبدأ:
"أنت موظف ممتاز يا عمر… ومرّ عليّ قليل من أمثالك. عندك طموح، وملتزم، و… مجتهد لدرجة أنك تعمل فوق طاقتك."

لم يفهم عمر ما إذا كان ذلك مدحًا… أم مقدمة لشيء ثقيل.

تابع فؤاد:
"في مشروع جديد… حساس. لو مشينا فيه صح، الشركة كلها راح تقفز قفزة كبيرة. والقيادة تفكر في شخص يديره."

لمع بريق في عيني عمر:
"وش المطلوب؟"

ابتسم فؤاد ابتسامة صغيرة، ليست مطمئنة بالضبط.
ثم مدّ إليه ملفاً أسود، وضعه أمامه كأنه يضع قنبلة.

"اقرأ… هذي بيانات عملائنا الجدد. نحتاج نعدّل بعض الأرقام… تعديلات بسيطة، مجرد إعادة ترتيب، عشان يظهر المشروع قدام المستثمرين بشكل أفضل."

توقف عمر عن التنفس لثوانٍ.
تعديل الأرقام؟
يعرف جيدًا ما يعنيه ذلك.

قال بحذر:
"بس… هذا يعتبر تزوير."

رفع فؤاد حاجبه:
"تزوير؟ لا يا عمر… هو تجميل للأرقام. كل الشركات تسوي كذا. ومن مصلحتك تمشي معنا. لأن اللي ينجح هالمشروع… بيكون المدير الجديد للقسم. وراتبه… راح يغير حياتك وحياة أهلك."

تجمد عمر.
عاد ذهنه فورًا للورقة التي أخفاها في درج غرفته… إنذار البنك.
عاد لصورة أمه وهي تحاول سد تسرب المطر بمنشفة قديمة.
لوجه أخته الصغيرة وهي تقول: "علمني يا عمر."

قال بصوت خافت:
"والأرقام اللي نبغي نغيّرها… كبيرة؟"

فتح فؤاد الملف، قلب أوراقه، ثم قال بلا مبالاة:
"مجرد أشياء بسيطة، ومحد يقدر يكشفها. وصدقني… لو اعتذرت، في ناس كثير يتمنون الفرصة."

سادت لحظة صمت طويلة.
كان عمر يشعر بثقل يجثم على صدره.
هناك طريقان أمامه…
أحدهما مستقيم، لكنه بطيء وموحش.
والآخر قصير… لكنه مظلم.

قال فؤاد فجأة، بصوت أكثر حدة:
"تبغى الترقية… ولا تبغى تبقى موظف بسيط طول عمرك؟"

شعر عمر بطعنة في كبريائه.
الطموح، الفقر، الديون، مسؤولية عائلة كاملة… كلها أفكار اصطدمت في رأسه دفعة واحدة.

أغلق الملف ببطء، وقال:
"أحتاج أفكر."

ابتسم فؤاد بثقة وكأنه يعرف القرار مسبقًا:
"خذ وقتك… بس لا تطوّل. المشروع يبدأ هذا الأسبوع."

وقف عمر، ويده ترتعش دون أن يظهر ذلك.
خرج من المكتب بخطوات متثاقلة، شعر وكأن الباب خلفه أغلق على شيء من نقائه.

وفي المصعد، عندما رأى انعكاس وجهه في المرايا، أدرك شيئًا مخيفًا:

أنه يقف على حافة الطريق الذي قد يصنعه… أو يدمره.

الفصل الثالث: حين يصبح الصوت الداخلي عدوًّا

خرج عمر من الشركة كمن يمشي فوق حافة سكين.
السماء كانت صافية هذا اليوم، بعكس ما يشعر به داخله.
كان كل شيء حوله طبيعيًا… السيارات، المارة، صوت الباعة…
لكن داخله كان صاخبًا، كأن معركة تدور بين عقلين.

وصل إلى البيت في وقت الظهيرة، فوجد أمه تحاول تشغيل المدفأة القديمة، بينما مريم تدرس على ضوء الشمس الداخل من النافذة.

ابتسم بضعف وقال:
"رجعت بدري اليوم."

نظرت إليه أمه باستغراب:
"خير؟ ما فيك شي يا عمر؟ شكلك مو مرتاح."

هز رأسه:
"لا لا… بس تعبان شوي."

بالرغم من محاولته إخفاء توتره، كانت عيناه تقولان الكثير.

اقتربت منه مريم وهي تمسك دفترها:
"عمر… المدرسة تطلب رسوم الفصل الجديد. قالت لنا المعلمة نجيب الإشعار بكرة."

توقّف قلبه لثانية.
رسوم جديدة؟
الديون القديمة لم تُدفع بعد… والإنذار البنكي ينتظر.
والآن… عبء جديد.

ابتسم لها رغمًا عنه:
"لا تشيلين هم. كل شيء بيترتب."

لكن داخله كان ينهار.

**

في غرفته، جلس عمر على سريره، وأخرج ملف فؤاد من حقيبته.
فتح الورق، وبدأ يقرأ الأرقام… كل رقم فيها كان كأنه يدفعه خطوة نحو الهاوية.

جلس طويلًا، حتى سمع طرقًا خفيفًا على الباب.
كانت أمه.

دخلت بهدوء وجلسَت بجانبه.
قالت دون مقدّمات:
"يا عمر… أنت مو مرتاح. قول لي وش صاير؟"

لم يستطع الكذب.
لكن لم يستطع قول الحقيقة أيضًا.

قال بصوتٍ منخفض:
"أمي… في فرصة قدامي. كبيرة مرة. بس… طريقها مو واضح."

رمقته بنظرة أم تعرف ابنها أكثر مما يعرف نفسه.
وقالت:
"مو كل فرصة فيها لمعان… تكون ذهب. بعض اللمعان يخوّف."

رفع نظره نحوها، كأنه طفل يحتاج إلى ضوء.
"بس لو ما أخذتها… ما رح نطلع من هالوضع. الديون… مريم… بيتنا… كل شيء يحتاج."

وضعت يدها على كتفه برفق:
"أهم من كل هذا… قلبك يا عمر. إذا خسرته، ما راح تكسب أي شيء بعدها."

تلك الكلمات ضربته بقوة، لكنه لم يستطع التمسك بها.
كانت الحاجة أكبر من الحكمة.

**

في الليل، حين نامت أمه وأخته، جلس وحده على الطاولة.
فتح الملف مرة أخرى.
أمام عينيه كان هناك سؤال واحد:

هل سينقذ عائلته؟ أم سينقذ نفسه؟

همس لنفسه:
"لو كان الخطأ بسيط… بس خطأ بسيط… وتنتهي كل مشاكلنا؟ هل هذا غلط؟"

لكن صوته الداخلي ردّ بقسوة:
"الغلط الذي تعرف أنه غلط… ما يكون بسيط أبدًا."

مرّت الساعات، حتى تجاوز الليل منتصفه.
وعندما سمع رنين هاتفه… نظر إلى الشاشة.
كان فؤاد يرسل رسالة قصيرة:

"نحتاج ردك… اليوم."

قرأها مرة، مرتين… ثم أغلق الشاشة.

جلس في الظلام، يفكر، كأن العالم كله ينتظر نفسًا واحدًا يقرر مصيره.

وبين كل الصراعات الداخلية…
بدأ يقتنع بأن هذه “الفرصة”… لن تتكرر.
وبأن التضحية بشيء بسيط من ضميره… قد يكون ثمنًا أقل من خسارة العائلة التي يحبها.

وفي لحظة ضعف…
قرر أن يميل نحو الطريق المظلم قليلاً.

لم يقلها بصوت، ولا كتبها…
لكن في داخله، القرار كان يقترب، خطوةً بعد خطوة.

كان هذا هو بداية السقوط الحقيقي
السقوط الذي لا يشعر به الإنسان إلا بعد أن يصل إلى القاع.

الفصل الرابع: خطوة واحدة… تغيّر كل شيء

استيقظ عمر قبل الجميع.
لم يكن نومه نومًا؛ كان جسده ممددًا على السرير بينما رأسه خاض حربًا طوال الليل.
شعر بثقل في صدره كأن أحدهم يضغط عليه.

وقف أمام المرآة، غسل وجهه طويلًا، لكنه لم يستطع غسل القلق العالق تحت جلده.

في المطبخ، كانت أمه تُعد الشاي.
قالت له بابتسامة مرهقة:
"على الأقل افطر قبل ما تطلع."

أخذ الكوب دون أن يرفع عينيه.
نظر إليها لوهلة…
كدمات الإرهاق تحت عينيها، يداها المتشققتان، صوتها الذي أصبح أضعف مما كان.
وتذكر الرسوم الدراسية… القسط المتأخر… المطر يتسرب من السقف…
وحلم الطفولة بأن يعيد لهذه المرأة كرامتها وحياتها.

قال لها بصوت خافت:
"أمي… أنا بوعدك. كل شيء راح يتغير."

ابتسمت له بقلق:
"أهم شيء يا ولدي… لا تغيّر نفسك لأجل الدنيا."

خرج قبل أن تضيف كلمة أخرى… لأنه يعرف: لو سمع جملة إضافية، ربما ينهار قراره تمامًا.

**

في الطريق إلى الشركة، سار بخطوات ثقيلة نحو مصير لا يشبهه.
لم يكن يشعر بأن هذا اليوم طبيعي؛ كان كأنه يمشي نحو باب يعرف أنه لا ينبغي أن يفتحه… لكنه يفتحه رغمًا عنه.

عندما دخل مبنى الشركة، بدا كل شيء أكثر لمعانًا من المعتاد:
اللوحات، الممرات، الأرضية، حتى أصوات الطباعة.

كأن العالم يحتفل باللحظة التي سيسقط فيها.

وقف أمام مكتب فؤاد، وتردد لثوانٍ.
ثم طرق الباب.

"ادخل."

دخل عمر، وكان فؤاد يتظاهر بالانشغال.
رفع رأسه، ابتسامة صغيرة تزيّن وجهه كأنها شمتت بما سيأتي.

"اتخذت القرار؟"

لم يتكلم عمر في البداية.
حاول أن يجد جملة تبرر قراره… لكن لم يجد.

فقال أخيرًا بصوت ثابت لم يكن يعبر عن داخله:
"أنا معكم."

انفرجت ابتسامة فؤاد، ابتسامة رجل انتصر في معركة لم يُعلن عنها.
قال:
"ممتاز… ممتاز يا عمر. كنت أعرف إنك ذكي."

دفع إليه الملف من جديد.
"نبدأ اليوم. التعديلات بسيطة. أنا راح أشرح لك خطوة بخطوة."

جلس عمر، فتح الملف، وبدأ يسمع فؤاد يشرح… وكيف يجب تغيير الأرقام… وكيف “لا أحد سيلاحظ”.

لكن في اللحظة التي وضع فيها قلمه على الورقة…
شعر أن شيئًا في داخله ينكسر.
كأنه يسمع صوتًا خافتًا يقول له:

"أنت تعرف أن هذا خطأ… تعرف."

ارتعشت يده للحظة.
لكن فؤاد قال بجفاف:
"سرّع يا عمر… عندنا تسليم."

أغمض عمر عينيه لثانية…
ثم كتب السطر الأول.

وهكذا… بدأ سقوطه الرسمي.

**

في نهاية اليوم، خرج من الشركة ورأسه يدور.
العالم من حوله يبدو طبيعيًا، لكنه يشعر بأنه خرج منه.
الناس يسيرون، يضحكون، يشترون، يتحدثون…
بينما داخله صمت كثيف، ثقيـل، غريب.

وصل البيت، فوجد مريم تضحك وهي تعرض عليه ورقة تخفيض رسوم من المدرسة.
وأمه تطهو طبقًا لم يشم رائحته منذ أشهر.
البيت بدا… أخفّ.
كأن الحياة صارت تُبتسم قليلاً.

لكن في داخله… كانت ابتسامة مرّة.

**

وفي الليل، قبل أن ينام، نظر إلى السقف.
لم يشعر بالفخر… بل بالخوف.
لكنه قال لنفسه:

"مجرد خطوة… وبعدها كل شيء يتصلح. ما راح تنعاد."

لكنه لم يكن يعلم أن الخطوة الأولى… هي أصعب خطوة يمكنك الرجوع عنها.image about تحت سقفٍ مثقَّب بالمطر

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
Hesein Ahmed تقييم 0 من 5.
المقالات

3

متابعهم

0

متابعهم

2

مقالات مشابة
-
إشعار الخصوصية
تم رصد استخدام VPN/Proxy

يبدو أنك تستخدم VPN أو Proxy. لإظهار الإعلانات ودعم تجربة التصفح الكاملة، من فضلك قم بإيقاف الـVPN/Proxy ثم أعد تحميل الصفحة.