يوم نازح في غزة
في خيمةٍ مرقّعة بغزة يبدأ أبو يزن يومه قبل شروق الشمس لا يوقظه المنبه، بل لسعة البرد التي تتسلل عبر شقوق النايلون و صوت الزنانة الذي لم يصمت منذ اكثر من عامين ...
يخرج ليوقد ناراً من بقايا كرتون وأغصان يابسة لإعداد بريق الشاي المر، بينما تتحرك زوجته أم يزن بنشاط في مساحة لا تتعدى المترين لتحضير ما تيسر من الطعام المعلب ، بعد تناول الطعام يبدأ أبو يزن رحلته اليومية الشاقة: البحث عن الماء الصالح للشرب والاصطفاف في طوابير طويلة تمتد لساعات، حاملاً "جالونات" صفراء أصبحت هي رفيقة دربه الدائمة و ثم يقف في طابور طويل يتلوى كالثعبان أمام تكتية المخيم. كان يحمل في يده وعاءً بلاستيكياً صغيراً، يضغط عليه بأصابعه المتعبة وكأنه يمسك بآخر أمل لإطعام أطفاله ذلك المساء.

تمر الساعات بطيئة، يتبادل فيها مع جيرانه في الطابور نظرات الصبر الممزوجة بالخجل من هذا الوقوف، لكن الجوع مر كما كان يردد في سره. عندما وصل دوره أخيراً، مُلئ وعاؤه بقليل من "الجريشة" الساخنة التي تصاعد بخارها ليدفئ وجهه المتجمد من ريح البحر.
عاد إلى الخيمة بخطوات حذرة، يحمي الوعاء بيده الأخرى كي لا تسقط منه قطرة واحدة ، تقاسمت العائلة الوجبة الوحيدة؛ كانت أم يزن تغرف للأطفال أولاً، بينما يكتفي أبو يزن بمراقبتهم بابتسامة باهتة، محاولاً إقناع نفسه بأنه شبع من مجرد رؤيتهم يأكلون.
بحلول الظهيرة ، يتجمع النازحون حول نقطة شحن الهواتف الوحيدة التي تعمل بالطاقة الشمسية، يتبادلون أخبار بيوتهم التي لم يبقَ منها سوى الركام، ويواسون بعضهم بعبارات "الحمد لله" التي لا تفارق ألسنتهم رغم الوجع .
مع مغيب الشمس
، يعود إلى خيمته حاملاً بعض الأرغفة، يغلق سحاب الخيمة الواهن، ويقصّ على أطفاله حكايات عن "بيتنا القديم" وشجرة الليمون في الفناء، ليناموا على حلم العودة الذي يرفض أن يموت
بعد أن ينام الأطفال، يجلس أبو يزن أمام مدخل الخيمة، يراقب وميضاً بعيداً في الأفق. لم تعد النيران تخيفه بقدر ما يوجعه الصمت الذي يعقبها. يخرج هاتفه يقلب في صور قديمة ما قبل 7 اكتوبر ؛ صورة لابنه يزن وهو يرتدي مريول المدرسة النظيف، وصورة لغرفة المعيشة حيث كانت الأريكة الوارفة تحتضن تعب النهار.
في عتمة الليل، تهمس له أن يزن وهي ترقع ثوباً اهترأ من كثرة الغسيل اليدوي: "هل تظن أننا سنبني هناك خيمة فوق الركام؟". يجيبها بيقينٍ لم تزعزعه السنين: "سنبني بيتاً يا أم يزن ، ولو بحجارة الشارع".
في تلك اللحظة، يمرّ جارهم "أبو صبحي" الذي فقد ساقه في الغارات، يتكئ على عكازه ويقترب منهما ليتقاسموا "سيجارة" واحدة أو حكاية عابرة. يتحدثون عن أسعار الخضار التي أصبحت حلماً، وعن المساعدات التي تصل كقطرات في بحر من الاحتياج، لكن حديثهم ينتهي دائماً بالدعاء لمن رحلوا.
ومع اقتراب منتصف الليل، يبدأ المطر بالهطول. يتحول طواف الخيام إلى خلية نحل؛ الجميع يخرج لشد الحبال ووضع الأواني البلاستيكية تحت الثقوب لمنع غرق الفرشات الهزيلة. يبتل ابو يزن تماماً، لكنه يبتسم حين يرى ابنه الصغير غارقاً في نومه، لم يوقظه صوت الرعد ولا خرير الماء.
يستلقي أخيراً على الأرض الصلبة، واضعاً يده تحت رأسه كوسادة، ويغمض عينيه وهو يردد في سره: "بقي يوم آخر.. غداً سنكون أقرب للعودة"….