رواية الواحة الملعونة آية عبد الفتاح

رواية الواحة الملعونة آية عبد الفتاح

0 المراجعات

الفصل الثالث
حبيبات دقيقة صغيرة جدا ، تتدحرج باندفاع نحو وجهتها ، لتصل إليها ، و بحوافها المدببة الحادة تجرح جدرانها ، فتشهق نور كغريق أُنقذ من الماء ، تسعل بشدة و تبصق ما بجوفها من رمال تكتم انفاسها ، تلهث و صدرها يعلو و يهبط متلفتة حولها بتيه ،

كل شئ أخضر حولها ، أشجار زهور و ورود ، و بعض الفراشات المتطايرة هنا و هناك ..

استندت على الأرض بكفيها لتجلس ، لكنها تأوهت بخفوت تشعر بألم يشق رأسها فجأة ، و صداع ينبض بشدة ....

هي لا تفهم شئ لقد كانت في صحراء 
قاحلة لا تزينها نبتة صغيرة أو قطرة ماء تروي ، هل ماتت و انتقلت إلى جنة خضراء الآن أم ماذا ؟....و أين فرح لقد ابتلعتها الرمال معها ؟

أدارت رأسها بالمكان و عينيها تبحث عن صديقتها ، حتى رأتها مستلقية بجوارها على بطنها غائبة عن الوعي 
هزتها قليلا ، تناديها : "قومي يا فرح ...قومي شوفي احنا فين "

فتحت عينيها تشهق و تسعل لتبصق ما بجوفها ، و بعد أن هدأت موجة السعال ، نظرت لصديقتها التي تتأوه بجانبها و خط من الدماء متجمد في جبهتها ليسير بجانب عينيها

‏جحظت عيني فرح برعب وقالت بصوت متحشرج: "إيه الدم اللي بينزف من رأسك ده يا نور"
‏ عادت تسعل وتشعر بأحبالها الصوتية تكاد تنشق منه ، مازالت تشعر ببعض الحبيبات تجرح حلقها .....

تلمست نور موضع الألم ، فشعرت بالدماء متجمدة على جبينها ، قالت :"معرفش ...معرفش إيه اللي حصل ..... أنتِ كنتِ معايا و كنا بنغرق في الرمال المتحركة و معاذ كان بيحاول ينقذنا .."

‏بصقت فرح ما بجوفها و حاولت التركيز وسط لهاثها ، لقد كانت تحارب الرمال لتخرج منها ، و ما زالت بفمها تشعر بطعمها المقزز ، ردت عليها :"ايوا ...بس احنا جينا هنا ازاي ، و احنا فين ...."
أجابت بتيه اصابها:"معرفش......"

استندت فرح بيديها الاثنتين على الأرض لتجلس مستندة إلى شجرة خلفها ، و عيناها تتأمل ما حولها بتعجب ، هي متأكدة أنها كانت في الصحراء ، فكيف وصلوا إلى مكان به أشجار و زهور يطل على بحيرة كبيرة تتجمع عليها بعض الطيور و تشرب ....

أحست نور بألم رأسها يزداد ، فأراحتها إلى الشجرة هي الأخرى بجوارها تغمض عينيها و تتألم ، هذا الصداع يكاد يفتك بها
و لكنها فتحت عينيها فجأة ، تفتش في جيبي فستانها عن شئ ما ،تعجبت فرح لذلك فسألتها :"بدوري على إيه يا نور؟ "
فأجابتها وهي تخرج هاتفها من جيبها و ابتسامة أمل ارتسمت على وجهها : "بدور على ده ، يمكن في إشارة و نقدر نتصل بحد"

تلاشت ابتسامتها و هي تقول بنبرة سكنها بعض اليأس :"التليفون مفهوش شبكة ...شوفي تليفونك كده "
‏أخرجت الأخرى هاتفها من جيب فستانها ، و عبس وجهها هي الأخرى تخبرها نفس الكلام:" مفيش شبكة"
فتنهدتا معا بيأس، سألتها فرح :"طب هنعمل إيه دلوقتي هنعرف أحنا فين ازاي"
ساد الصمت للحظات 
حتى لمحت فرح طيف أحدهم من بعيد فهتفت :
-"قومي خلينا نسأل أي حد عن المكان اللي أحنا فيه ..."
-"هو أحنا لقينا حد عشان نسأله "
- "اه في واحد ماشي أهو يلا قومي "

نهضت نور تستند إلى شجرة و الصداع يزداد قرعا برأسها ، تشعر أن كل شيء يدور حولها ......لكنها نسيت كل ما يؤلمها عندما سمعت صرخة ألم من صديقتها ، فاقتربت منها و سألتها بقلق : "مالك في أيه "
جلست فرح ، تمسك بقدمها اليمنى تقول : " معرفش فجأة حسيت بألم في رجلي"

جلست بجوارها تخلع حذاء صديقتها لترى ماذا حدث لها ، فعضت فرح على شفتيها تكتم الألم ، تفحصت قدمها جيدا ، لا أثر لأي كدمة أو جرح أو دماء ، ليس بها أي شيء ، تركتها برفق تقول :
-"مفيش جرح و لا أي كدمات يا فرح...يبقي احتمال يكون كسر "
- " إزاي أنا مش فاكرة أني وقعت عليها أو خبطها "
- " معرفش "

عضت شفتيها متحملة ألم قدمها لتقف و تستند إلى الشجرة و سارت بخطوات بطيئة تعرج أمامها ، فوقفت نور متحدية ذلك الدوار و ألم رأسها و لحقت بها حتى خرجتا من البستان ..
*****************
بيوت صفراء مبعثرة متباعدة عن بعضها مكونة من طابق أو طابقين أو ثلاث ، كلها تشبه بعضها لا يوجد اختلاف واحد سوى بعدد الطوابق و بعض المحال الصغيرة ، تحيط بالبحيرة التي تنعكس عليها أشعة الشمس فتتلألا و تزداد جمالا ....

كل شئ يشبه الآخر هنا حتى الناس هنا يرتدون الجلباب رمادي شاحب أو أسود ، و النساء يرتدين عباءات مزركشة ، يلفون رؤوسهن بوشاح ملون .... هل هما بإحدى الواحات أم ماذا ؟

سارت خلف أحدهم تقول :
"لو سمحت "
توقف الرجل عاقدا جبينه يتأملها من رأسها لأخمص قدميها 
تعجبت نور لذلك فتنحنحت بحرج تسأله :"لو سمحت أحنا توهنا منعرفش أحنا فين ....."
لم ينتظرها تكمل سؤالها بل تركهما و سار يكمل بطريقه 
، فنادت عليه فرح :"يا أستاذ.... لو سمحت .."
تجاهلها الرجل و ذهب بطريقه...
تعجبت نور قائلة :"مالو الراجل ده سبنا ومشي و لا كأننا مش مبنتكلم معاه"
-"سيبك منه ، تعالي نسأل حد تاني"

سألوا عدة أشخاص و ردة الفعل نفسها تتكرر ، يتجاهلوهما ، و يمضون في طريقهم و كأنهم لا يقولون شيئا ......

أمسكت رأسها تتأوه بخفوت ، و جلست على أحد الأرصفة تستريح من الدوار الذي أصابها ثانية ، جلست فرح بجانبها تمسد قدمها المصابة تهتف :"هنعمل إيه دلوقتي "
- :" معرفش ..هنعمل ايه؟  "
صوت عصافير بطنهما شق الصمت السائد بينهما ، فقالت فرح :" هو أنتِ مجعوتيش يا نور "
لمست بطنها التي تزقزق من الجوع ، تقول :"جعت جدا ..دوري كده في جيوبك على فلوس "
بدأت الفتاتان تفتشان عن أي نقود معهما ، فاخرجا بعض المال 
أخذتهم فرح قائلة :"استريحي أنت و أنا هروح أجيب أكل من المطعم ده "
رائحتها الشهية نادتها ، فلبت نداءها و تتبعتها حتى وصلت ، وقفت أمام محل صغير ، تقترب من الزجاج لترى الطعمية و هي تنزلق في الزيت ، و تسبح وسط أخواتها ليتدرج لونها الاخضر حتي يصير بني شهي، لعقت فرح شفتيها ،و فمها يتمنى تذوقها كلها 
-"ادخلي يا بنتي ...كلي بدل ما أنتِ وقفة كده "

التفتت إلى مصدر الصوت ، فرأت شيخا يستند على عكازه ، رغم ذلك يحتفظ ببعض القوة ، يغزو شعره لون فضي يلمع تحت ضوء الشمس ، وجهه بشوش يبتسم فتغلق عينيه ، تحاوطها بعض التجاعيد الجميلة ، ابتسمت له بحرج و هي تقول :" لو سمحت عايزة سندوتشين طعمية و سندوتشين فول "
قالت جملتها و أخرجت النقود 
لاحظ الرجل عرجها ، فأخذ منها النقود ، احتفظ بابتسامته البشوشة و دعاها للدخول : "اقعدي هنا يبنتي على ما يجهز طلبك"

شكرته بابتسامة و جلست تنتظر الطلب ، و بعد عدة دقائق عاد ليعطيها طلبها و يودعها بابتسامته البشوشة ، فشكرته بكلمات معدودة و أخذت منه الطعام ...

راقبها و هي تعرج إلى صديقتها ، و تجلس بجوارها على الرصيف المقابل لمحله و يأكلان.... 
***************
صراخ عالي و همهمات عالية و أناس تركض و تتحلق حول الرصيف المقابل لمحله ، أصابه قلق ، و هم يقتحم الجمع يدفع هذا و يتجاوز ذاك ، يحشر نفسه وسطهم حتى وصل إلى وسط الزحام ،
وقعت عينيه على فتاة راقدة على الأرض تغلق جفنيها بسلام ، تحتضن صديقتها رأسها تنادي عليها و تلطم وجه الفتاة تحاول إفاقتها لكنها في عالم أخر لا تسمعها ....

اقترب منهما ، لتتضح له الصورة فالفتاة الباكية هي ذاتها التي كانت تعرج ....
أفاق من صدمته و قال لها :"ايه اللي حصل يا بنتي ..."

خرجت كلماتها مبعثرة مبهمة بين شهقات بكائها الكثير ، لم يفهم منها شئ سوى أن صديقتها سقطت فجأة بين يديها دون مقدمات ..

تفحص رأس الفتاة المغمى عليها ، فلمح خط الدماء المتجمد على جبينها فصرخ بأحد الواقفين :"هات عربيتي هنا يا دنجل "

أومأ الصبي و ذهب ليحضر سيارته ،
زادت همهمات الناس حوله ، و نظراتهم المتعجبة ، يقفون مكتوفي الأيدي لا يفعلون شئ سوى الكلام ، فصرخ بهم الشيخ :
"حد يجي يساعدني نشيلها نوديها المستشفي بدل ما أنتوا وقفين كدا "
فظهرت سيدتان قويتا البنية ، حملاها ووضعاها في سيارته التي وصلت للتو ....

جحظت عيني فرح تتأمل السيارة قديمة الطراز كأنها خرجت لتوها من فيلم أبيض و أسود ، تشبه سيارات رشدي أباظة بأفلامه .....

انتشلها من تعجبها صوت الشيخ يقول لها :"يلا يا بنتي اركبي "
مسحت دموعها الساقطة بأصبعها و ركبت جوار صديقتها تحتضن رأسها بقلق تهمس :"فوقي يا نور ....فوقي "

و أغمضت جفنيها لتحرر دمعتين قلقتين عليها ، فتسيل و تسقط على وجنة نور التي تسبح بعالم أخر
راقبها الشيخ من مرآته و قال محاولا بث الطمئنينة لها :" متقلقيش يا بنتي ...في مستشفى قريبة .......هنروح و إن شاء الله خير .."
*****************

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

8

متابعين

6

متابعهم

1

مقالات مشابة