رواية الواحة الملعونة آية عبد الفتاح

رواية الواحة الملعونة آية عبد الفتاح

1 المراجعات

الجزء الرابع 
شعاع شمس ينسل من فجوة الستار الصغيرة ليتسلل رويدا رويدا يدعب عينيها ، فتغلقهما جيدا ، كانت تتمني العودة إلى ظلامها ، لكن أنفها أعادها إلى واقعها ليلتقط رائحة مطهرات نفاذة تملئ الغرفة ،
فتحت أهدابها الثقيلة ، تدور عيناها في المكان 
سقف و جدران بيضاء ، و بجوارها عمود معلق عليه كيس به سائل يسيل عبر خرطوم رفيع ليصل إلى يدها الملتصقة بالخرطوم ....
بتأكيد هي في المشفي ، و لكن هل كل ما عشته حقيقة ، أم كان حلما مزعج؟ ، هل تمكن معاذ من إخراجهما من الرمال و أوصلهما إلى المشفي ؟.....
التفتت إلى تلك النائمة بسلام على فراش أبيض مثلها ، تحتضن قدمها اليمني جبيرة بيضاء ....
جذب نظراتها صوت الباب الذي فتح فجأة .... ليظهر شاب نحيف قليلا يرتدي معطف أبيض ، يقترب منها و ينحني يلتقط أوراق معلقة على سريرها ، يعتدل ليقرأها....
فينعكس ضوء الشمس على شعره ليتلألأ بلمعة فضية ...
عقدت نور جبينها بتعجب ، فهذا الشاب يبدو عليه قد طرق أبواب الثلاثين، فكيف ينتشر الشيب بشعره هكذا 
تنحنح الطبيب بصوت عالي ، لتهرب نظراتها إلى سقف الغرفة تلوم نفسها على تأملها الطويل ، 
اقترب منها يمسك رسغها يراقب نبضها و هو يقول بنبرته الهادئة :" حمد الله على سلامتك يا أنسة ... "
خرج صوتها الواهن يهمس بضعف :أنا فين و ايه اللي جبني هنا "
لمس الشاش الأبيض الذي يضم رأسها بعناية و قال : أنت في المستشفي ..."
أفصحت عن سؤال الذي يدور بعقلها :"عارفة إني في المستشفي .... بس ايه اللي جبني هنا ؟ "
اعتدل طبيب بوقفته يدون بعض الكلمات على أوراقها المعلقة ، و همّ أن يجيبها لكن سبقه صوت فرح الواهن و رغم ذلك احتفظ بحماسة الأطمئنان عليها :"حمد الله علي السلامة يانور.... أنتِ عاملة ايه دلوقتي" 
اجابتها نور :"الحمد لله..بس ايه اللي جبني هنا ...."
جلست فرح تسند رأسها إلى وسادتها سامحة له بفحصها هي الأخرى ، و أجابتها :"وقعتي في الشارع ، و أغم عليكي مكنتش عارفة أعمل ايه ؟... لكن الحمد لله ربنا رزقنا بعم حسين راجل طيب ركبنا عربيته و ووصلنا على المستشفي هنا ...و مرضيش يمشي إلا لما يطمن ......"
و قبل أن تنهي جملتها سمعوا طرقات على الباب ، و ظهر الشيخ بابتسامته البشوشة ، يحمل أكياس كثيرة يضعها على الأرض و هو يقول ::"حمد الله على سلامتكم 
‏ عاملين ايه دلوقتي ؟" 
انتقلت عدوي التبسم إليهما ليجيباه بصوت متعب :"الحمد لله "
قالت فرح تزيل أثار تعجب عن وجه نور :"اهو ده عم حسين اللي وصلنا المستشفي"
ظلت محتفظة بابتسامتها و بنبرة منهكة :"شكرا يا عم حسين "
مسح الرجل رأسه بخجل و هو يرد عليها:"لا شكر على واجب يا بنتي ،اي واحد في مكاني هيعمل كده "
أشارت فرح إلى مقعد بجوار فراشها تدعوه للجلوس
فجلس على مقعد يسأل الطبيب :"طمني يا دكتور.... عاملين ايه و هيخرجوا امتى ؟ "
دون بضع كلمات على أوراق فرح و أجابه بعملية : "هم كويسين و ممكن يخرجوا بعد يومين تلاتة ... نطمن بس على جرح راس الأنسة نور لم و لا لا ...و نكتبلها على خروج بإذن الله ....لكن الأنسة فرح هتخرج بس هتفضل رجلها في الجبس لمدة شهر عشان الكسر يلم بسرعة " 
أعاد الأوراق مكانها و استأذن مغادرا ، فساد الصمت للحظات قاطعته نور و هي تقول :"ممكن أسأل حضرتك سؤال "
التفت إليها 
:"طبعا اتفضلي يبنتي "
راقبت ملامحه و هي تسأل : "هو أحنا فين ... أقصد أيه أسم المدينة اللي أحنا فيها دي !"
اهتزت ابتسامته و تلعثمت كلماته قليلا يسألها :"هو أنتوا ...مش من مدينة دي ؟"
هزا رأسهما بلا و أضافت فرح :" معرفش هتصدقني و لا لا 
أحنا توهنا ومنعرفش أحنا فين؟... فجأة صحينا لقينا نفسنا.... "
رمتها بنظرة الجمت لسانها ، و التفتت له تعدل كلام صديقتها :"فرح تقصد أن أحنا توهنا و مش عارفين أيه المدينة دي و لا أحنا فين ؟
و موبيلاتنا مفيهاش إشارة و كنا عايزين نطمن على أهالينا فلوسمحت قولي أحنا فين ؟ ...."
ابتلع الرجل ريقه بصعوبة و لم يجب 
فقالت فرح :
"يا عم حسين سكت ليه؟..هو سر حربي و لا ايه؟...هو ليه كل أما نسأل حد يسبنا و مش يرد في إيه ..."
ارتسمت ابتسامة متوترة على وجهه و قال بكلمات مبعثرة :لا يبنتي ...مش سر ... و لا حاجة بس ...."
تغضن جبين نور بريبة و هي تقول ::"بس أيه يا عم حسين ...."
أطبق عليه الصمت لثواني ، ليقول بنبرة مهتزة : أنتوا هنا في مدينة اسمها..اسمها جوبا ..."
عقدت فرح حاجبيها تتعجب :"جوبا أول مرة أسمع عنها و فين المدينة دي ؟ "
فأشاح الرجل وجه عنها و قال :"دي ...دي جنب الأقصر بس من جوا" 
نور :"أنا عارفة كل القرى و المدن في أسوان و الأقصر بس عمري ما سمعت عن المدينة دي ..."
ظهرت بضع قطرات عرق على جبينه و هو يرد عليها :"ما هي على أطراف الأقصر.... عشان كده قليلين اللي يعرفوها "
نظرت فرح لهاتفها الموضوع على المنضدة بجوار فراشها و التقطته و فتحته : "طب ليه مفيش شبكة هنا "
ثقل لسانه و زاغ بصره عنهما : "ما المدينة دي مفيش شبكة..."
نهض ملقيا كلمات سريعة تسبق خطواته نحو الباب :الحمد لله اطمنت عليكوا ... همشي أنا بقى ... عشان سايب المحل لوحده"
تعجبت نور منه :" ماله الراجل ده كان مرتبك و قام بسرعة كده ليه"
-:" معرفش يا نور"
-‏" أول مرة أعرف أن في مدينة أسمها جوبا و جنب الأقصر "
-‏"فعلا أحنا لفينا الأقصر دي شبر شبر بس عمرنا ماشوفنا المدينة دي يمكن زي ما بيقول مطرفة عشان كده ما اسمعناش عنها زي ما بيقول الراجل ده "
-" و يمكن بيكدب علينا أو مخبي علينا حاجة "
****************
غيوم سوداء تكاتفت مع بعضها لتحاصر القمر المنير و تخفيه عن العالم ، فيخيم ظلام الحزن في القلوب ،كما خيم على قلوبهم بعد اختفاءها 
رغم تحلقهم حول مائدة واحدة ألا أن عقولهم تدور في مدارات متناثرة مبتعدة عن بعضها كلا له عالمه ، و الصمت يعم المكان يقتل الضحكات و الأحاديث ، بالطبع فقمر البيت قد غاب ،
أطباقهم كما هي لم تمس ، وقفت تحملها ، و تتركهم على طاولة المطبخ ، لتترك معهم تحملها و جمودها و تخونها ساقيها تنهار و تقع على الارض ، تندفع الدموع لتتحرر من أسوارها و تسيل كأنهار على وجنتيها ، 
ارتكنت إلى الحائط تكتم شهقة كادت تخرج و تفضحها أمامهم ، و هي تتذكر ذلك اليوم 
........
توكز أبنها كما وكزها القلق بقلبها و هي تأمره :رن عليها تاني يعني ايه مبتردش؟... رن تاني"
التفت أبنها ذا العشرون عاما إليها يقول :"رنيت عليها يجي خمسين مرة ونفس الكلام، التليفون مغلق و غير متاح "

-"إزاي يبني دي قالتلي هترجع يوم الأحد و النهاردة الأربع و لسه مرجعتش ...طب أقولك رن على زميلتها نور "
-" رنيت عليها نفس الحكاية "
تآكلها القلق أكثر لن تنتظر ثانيةً و نهضت عازمة بكل تصميم : "لا أنا قلبي مش مطمن أنا لازم اروح الشركة اللي بتشتغل فيها و أسأل عنها قوم البس يلا عشان تيجي معايا "
لحقها أبنها يقبض على ذراعها و يُجلسها 
، يتحدث معها بمنطق لعلها تقتنع :"يمكن يا ماما طوله في البعثة و لسه هناك ،و أنتِ عارفة المكان هناك الشبكة فيه وحشة" 
لم تستمع له لاغية عقلها ، تاركة زمام أمرها لقلبها ليدفعها دفعا تطمئن على حبة قلبها المفقودة ، تشعر قبضة تكتف خافقها و تخنقه ، و خاطرا يحدثها أن أبنتها بخطر 
أتجهت إلى غرفتها تقول بعزم 
:"لا أنا قلبي مش مطمن بيقولي في حاجة حصلت لبنتي ...يلا قوم البس عشان نروحلهم "
بعد ساعة وصلا إلى الشركة و سألت عن فريق البعثة الذي خرج لاستكتشاف مقبرة بالوادي الجديد من أسبوع ، فأجابتها الفتاة أنها كانت معهم ، و قد عادوا جميعا ماعدا أبنتها و زميلاتها نور و شاب أخر يدعي معاذ ، و ظلوا يبحثون عنهم و لكن لم يجدوا أي أثر لهم ، ازداد إحكام القبضة على قلبها و تسارع تنفسها حتى سقطت مغشيا عليها
............
عادت من ذكريتها تمسح سيول دموعها بقوة ، يجب أن تتماسك أمامهم ، و لا تُنزل أي دمعة أخرى ، تكتم هذه الشهقات الباكية كما تكتم حزنها بقلبها و تغلق عليه ألف باب 
فهي الآن عكازهم و سندهم، عمودهم الفقري ، الذي يُسند الجسد كله ، بأنهيارها ينهار البيت بأكمله ....
وقفت تمسح دمعة هاربة من عينيها ، لا وقت للضعف و الانهيار....
هي الآن تحمل على كتفها مسؤليات كثيرة ، فهي الأب و الأم 
تذكرت كيف كانت فرح تضع المال بين يديها ، لتكمل مصاريف البيت ، و تحضر الكتب لهذا ، و العلاج لذاك ....
تذكرت كيف كانت تربت على كتف أبنتها الصغرى و تأتي بالحلوى لولدها ، و تفرح الأخر بهاتف جديد .....
هي من كانت تنفق المال و تساعدهم في المصاريف، لم تبخل عليهم قط ، فمنذ أن تركهم والدها بعد أن أنهت الثانوية ، خرجت تعمل بجانب دراستها بالجامعة ، لتجمع قوط يومها و تعود بنهاية اليوم و تعطيها كل شئ كسبته ، عدتها أبنها رغم ثقل الحمل عليها بهذا العمر ، لكن لم يكفي هذا المال ، فخرجت هي أيضا تعمل بمصنع لصنع حلويات ، هكذا سيروا حياتهم ..
و الآن كيف تدبر أمرها بدون أبنتها الغالية؟ من أين تكمل مصاريف بيتها ؟ كيف تشتري لهم الملابس و الكتب الدراسية؟ ....
ماذا ستفعل إذا أكتشفوا أن حبة قلبها......؟
استعاذت بالله من هذه الفكرة ، تطردها من عقلها ، هي مازالت على قيد الحياة و ستعود و تحضنها و تملئ عينيها بطلتها الحبيبة 
رفعت عينيها الدامعتان للسماء تستجير بربها ، كي يعطيها الصبر و القوة لتحمل ما هو قادم 
***************
)كل شئ يصيب قلبي بريبة و يجعل عقلي يدور في دوائر مغلقة بلا نهاية ، ليطرح أسئلة لا حصر لها تؤرق مضجعي ، فأسهر ليلي أحاول الإجابة عليها لكن لا أجابة .....
كيف دخلنا إلى هنا و قد كنا نصارع الموت ؟ ...
و هل معاذ حي أم ميت ؟ ... لا أعرف ...و أبي و أختي هل علموا بأختفائي و قلقين عليّ أم لم يعرفوا بعد؟ ... كم مر من الوقت على أختفائنا؟ ....
كل هذه الأسئلة تزيد صداع برأسي لا........ )
أختفي الضوء و حل ظلام على شاشة هاتفها معلنا عن إغلاقه تأففت نور بأنزعاج .....
طرقة طرقتان و يدخل بابتسامته البشوشة يضع أكياس على الأرض ، ليجلس بمقعده كالمعتاد يسأل عنهما و يتبادلوا بعض الأحاديث معا ، ألا عن موضوع دخولهما لهذه المدينة ، أنها حذرت فرح من الحديث في هذا الموضوع ، فمن يصدق أنهما كانا يصارعان الرمال و استيقظا فوجدا نفسيهما هنا ، عم صمت لدخول الطبيب عليهم و بدأ يفحص جبيرة فرح فسألته : أمتى هنخرج من هنا يادكتور "
ابتسم الطبيب بهدوء و قال :"بسرعة دي زهقتي مننا و عايزة تمشى.... "
ابتسمت له بحرج :"مش قصدي يا دكتور بس عايزة أروح بيتنا زمان ماما و اخواتي قلقنين عليا "
- بنبرته الهادئة :"على العموم أنتوا حالتكوا استقرت ، و ممكن تخرجوا النهاردة لو حبيتي ،بس ما تمشي لفترات طويلة و تجيلي بعد تالت أسابيع عشان نفك الجبس و نشوف ايه الأخبار "
ترك قدمها و اتجه لنور يفحص رأسها و يفك اللاصقة على جبينها ، خفضت فرح رأسها :"كده مش هينفع نسافر إلا بعد تالت أسابيع "
أومأ لهما و خرج بهدوءه المعتاد
سألت نور :"طب هنعمل ايه دلوقتي ، دول هيكتب لنا على خروج ، هنروح فين المدة دي؟ "
-"صحيح هنروح فين ، دي حتى الفلوس اللي معانا مش هتكفي "
ابتسم عم حسين يقول لهما :"متشلوش هم يا بنات ، انا لقيت الحل "
التفتا له منتبهين لما سيقول فاستأنف الرجل حديثه :" أنا ليا بيت كبير في شقة فاضية ممكن تسكنه فيها مؤقتا لحد ما تالت اسابيع يخلصوا "
اعترضت نور بشدة :"لا مش هينفع يا عم حسين أحنا تقلنا عليك اوي ده كفاية مصاريف المستشفي اللي أنت دفعتها ....."
قاطعها يقول :"و لا تقلته عليا و لا حاجة و بالمرة تونسوا الحاجة تفيدة مراتي بدل ما هي قاعدة لوحدها "
كادت فرح أن تعترض هي الأخرى لكنه
أوقفها بيده بحزم :"أنا مش هقبل أي رفض و أنتوا دلوقتي ضيوف عندنا و زي بناتي و مش معقول أسيب بناتي يتمرمطوا في الشارع ....يلا سلام بقي عشان سايب المحل لوحدوا سلام عليكم ....."
و خرج تاركا فرح مشدوهة من تصرفه مرة أخرى، أما نور فقد دق مسمار شك أخر داخل عقلها نحوه كيف لهذا الرجل أن يكون كريما معهما لهذه الدرجة ،و لا يطلب منهما مقابل ؟
التفتت فرح إليها :"خلاص يا نور الراجل باين عليه طيب .. هنقعد الفترة دي عنده و خلاص بدل ما نتمرمط "
أفصحت نور عن شكها :"الراجل ده مش مريحني حاسة أنه مخبي حاجة علينا و تصرفه ده حاسة مش طيبة منه ،حاسة أنه عايز مننا حاجة ... أنا مش مرتاحة "
استلقت فرح على فراشها بتعب تقول لها :"ليه بتفترضي سوء النية الراجل ما شوفناش منه حاجة وحشة ..."
نظرت إلى سقف الغرفة تفكر بصوت عالي:"لما سألناه على المدينة ارتبك ...و تصرفه معانا بلطف ..... و دفعه مصاريف المستشفي .....كل ده بيشككني فيه أكتر"
نفضت  فرح  من رأسها تلك الظنون ، رجحت سبب امتلك عم حسين لسيارة قديمة الطراز أنه يحب الاحتفاظ بأشياء قديمة أو هي ارث محبب الى قلبه ، و أغمضت عينيها تريح عقلها من شكوك صديقتها غاضة الطرف عن هذه السيارة القديمة  تسلمها لله ، و قالت  لتطمئنها قائلة :"يا ستي كبري دماغك و إن شاء الله تكون شكوكك دي وهم "
فرددت ورائها :"يارب يكون وهم….."

*************

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

8

متابعين

6

متابعهم

1

مقالات مشابة