رواية الواحة الملعونة الفصل الثاني بقلم آية عبدالفتاح
الفصل الثاني
الرياح ما زالت تعوي و تعصف ، تحمل الرمال و تسكبها على جسده ، تضرب عينيه ووجهه …
و هو كأنه حبس في رسمة جدارية لا يتحرك لا يشعر بأي شئ حوله ، نائم على بطنه يمد يديه أمامه ،و لا يزال عقله يطارده بذكرى ما حدث للمرة الثالثة يعيد و يكرر المشاهد ، فتشعر يديه بتفلت أيديهما منها فيعود و يجذبهما و يسحب بكل طاقته ..
لكن أيديهما تتسرب كالرمال من بين أصابعه ، أذناه تسمع صوت استغاثتهما الأخيرة ، وعيناه ترى تلك الدموع و الخوف في أعينهما ، و حراكاتهم العشوائية تودعه ، ما زال يشعر بكل شئ ، و رغم ذلك لا يصدق بأن الرمال انتزعتهما من بين يديه لتدفنهما و تكتم أنفاسهما ، فتزهق روحيهما و يموتان ....
أغمض جفنيه يحاول أن يسيطر على عقله يوقف المشهد الذي يكرره و يسكت ضميره ، لكن صوته يعلو ويعنفه : "أنت المسئول عما حدث ، أنت السبب و ليست الرمال ....."
ضرب بقبضة يده على الرمال بغضب ،فسألت نفسه بتيه :" ماذا ستقول لرئيسك ، و لأسرتهما ، ماذا ستخبرهم ، ..."
قام من مكانه لا يعرف هل يهرب من الرمال المتحركة التي ابتلعتهما ،أم يهرب من ضميره ؟....
يسير ببطء في الصحراء ،يرفع ذراعه ليحمي نفسه من الرمال التي تصفعه كضميره الذي يصفعه بالتهم ، لكن نفسه تدافع و تنفي التهمة عنه و لكن تسقط مهزومة أمامه ...
ساعة ساعتان أو أكثر لا يذكر كم من الوقت مضى وهو يسير؟ لم يشعر بأقدامه التي تحارب الرياح الشديدة
تلفت حوله، لم يتبين أي شيء ، مازال الظلام يخيم على كل شيء ، و الرياح تلسع عينيه برمالها تلهبها ....
توقف فجأة لا يرى ضوء النيران في المخيم ، دار حوله بتيه لا يذكر من أين سار؟ من أين الطريق لهناك؟ ، عاد يسير في اتجاه آخر ، لكنه لم يعثر على المخيم ...
سقط بركبتيه على الأرض و قد استبد به التعب ، و أنهكت ساقاه من السير ، و شفتيه كتلك الصحراء العطشى للماء ، جافة تنتشر بها شقوق الجفاف ....
نام على الارض بيأس و أحاط به الإحباط، فسلم عينيه لهما في سلام ، هاربا من كل شيء....
و قبل أن يغلق أجفانه الملتهبة لمح بحيرة ماء تحيط بها الأشجار على بعد خطوات ،أسند ثقل جسده الواهن على يديه زاحفا كسلحفاة عجوز ،
زحف و زحف حتى وصل إلى الماء ، يغترف منها بيديه الإثنين و يصب في جوفه الجاف ..
فجأة تقلص فمه بتقزز و حاول بصق ما في فمه ، و لكن اندفعت إلى جوفه و صارت تجرح حلقه بحوافها الحادة فسعل بشدة يخرجها من فمه قبل أن تقضي عليه هو الآخر ، فهي رمال و ليست ماء ، و عينيه بدأت تخرف و ترى السراب ..
ألقى بجسده على الأرض مستلقيا بعد أن أنهكه كل شيء يشعر بقواه تخلت عنه ، أغمض عينيه يسكت صراخ لسانه الذي يريد قطرة ماء واحدة تروي عطشه .....
احتضن الرمال مسلما عينيه لذلك الظلام الذي أنقذه من وحش العطش و الجوع ، و ترك السؤال عالقا ، هل سيأتي أحد و ينقذه أم هذه الصحراء ستسجنه و تميته عطشا ؟
*************
بعد يومين
النهنهات ذاتها تصدر من الغرفة ، اقترب من باب غرفتها ، و قرب رأسه من بابها المغلق يسمع شهقات مكتومة ، فتح الباب بهدوء ، يراها تكتم شهقاتها بوسادة مسكينة تعصرها بين يديها كما يعصر الألم خافقها ، فتسكب عليها سيول دموعها التي لا تنضب ،....
إلى متى تبكي يافتاة؟... و هل بكاء يعيد شيء؟ ....
تقدم منها خطوات بسيطة و جلس يربت على كتفها المهتز ...
و كأن هذه التربيتة هي إشارة خضراء لتزداد شهقات بكائها ، و يتحول إلى نحيب ،نزع أظافرها من الوسادة المسكينة ، فارتمت بأحضانه تذرف مزيدا من الدموع تحرر شهقاتها المكتومة .....
فعاد أنين قلبه يصرخ من جديد ، لم يقدر على إسكاته كمحاولاته الفاشلة سابقا ....
ربت علي كتفها ثانية ، و مع كل تربيتة يتمنى أن تسقط على كتفه هو و صدره المتألم فهو يحتاجها بشدة
بصوت مبحوح خرجت كلماتها الباكية :
"يعني خلاص نور ماتت مش هشوفها تاني.... يعني الأول ماما و بعدين هي تسيبنا... أنا كان قلبي حاسس أني آخر مرة أشوفها "
عض على شفتيه يحاول أن يتحكم بنبرة الحزن التي تطغى على صوته ليؤكد بشمعة تفاؤل تنير بضوء خافت قلبه المظلم : "نور مماتتش يا نورين ، أدام ملقوش جثتها يبقى لسه في أمل أنها عايشة "
ابتعدت عنه قليلا ليرى عينيها المنتفختين من البكاء و سيول دموعها الساقطة ، تقول بين شهقات بكائها :"عدى يومين ...و مفيش اخبار عنها هي و فرح ....و لا لقيين أي أثر ...كإن الأرض أنشقت و بلعتها "
ازداد أنين قلبه لكنه أردف بأمل يربت به عليهما : "متفقديش ثقتك بالله يا نورين نور أختك لسه عيشة و بإذن الله هنلقيها بس أنتِ أدعي لها إنها ترجع ،البكا مش هيرجعها ، أدعي لها يا بنتي و متفقديش الأمل في ربنا"
بين كل كلمة يقولها يمسح دموع عينيها المنهمرة ، و يبتسم ابتسامته الحزينة ،فيتبرع لها بذرات أمل تداوي قلبها المكلوم
قلت شهقات بكائها و عادت إلى أحضانه لعل هذا يخفف من ضربات خافقها المتألمة ، و دعت بتضرع :
"يارب ترجع يا بابا ، يارب ......"
*************
بطنه تصرخ و تستنجد به أين الطعام ؟، و صحراء لسانه تستغيث بالماء ، لكن أين الطعام و الماء ؟ .... هل مازال في الصحراء أم هو على فراشه و سيفتح عينيه و ينهض يروي جوفه ، يطعم معدته...؟
قاوم ألم جفنيه و فتحهما بصعوبة مقاوما الرمال التي تدخل عينيه ...
قابلته صورة مهتزة ، لكن الظلام مازال يسود الأجواء ....فأغلقهما متيقننا أنه مازال في الصحراء و بضع دقائق ستغادر روحه جسده البالي....
سمع عواء يقترب منه ، فتحهما ثانية تراءى له جسم مبهم يقترب منه بسرعة عجيبة.....
ما هذا الكائن الذي يقترب منه بسرعة هكذا ؟..
أجابه عواؤه القريب فضغط على عينيه ينكر ما يحدث ، و ضربات قلبه تتسارع تستغيث به و تستحلفه بالهرب ....
أحس بنفس دافئ يقترب من وجهه و يشم كل خليه منه ، و قطرات سائل لزج تسقط على جبهته ....
فتح عينيه ثانية ليرى أنف و فم ذئب قريب جدا منه ، يسيل لعابه عليه و يفتح فمه لترحب أنيابه به
فأغلقهما يصم آذانه عن استغاثة قلبه رافعا راية الاستسلام له ، و الآن سيلحق بالفتاتين دون أن يحمل عبء إخبار أحد ..
فماذا كان سيقول لهم ،
هل سيقول لهم أنه خرج من المخيم غاضبا بعد شجاره مع رئيسه ، فلحقته نور و فرح ليهدآ من روعه ، وحاولا إيقافه لكنه لم يسمع لهما و سار رغم الرياح العاصفة فذهبا معه .....؟
أسلم عقله للظلام ، يعانق الموت ، فأخذه لعالم آخر لعله يرحمه من ألم قبل الموت على يد هذا الذئب .......
******************