رواية الواحة الملعونة الفصل السابع آية عبد الفتاح

رواية الواحة الملعونة الفصل السابع آية عبد الفتاح

0 المراجعات

الفصل السابع 
نثرت شمس سبتمبر أنفاسها الدافئة ، تخترق الأجساد تبدد صقيع سكن أوصالهم ، ألا هي تراكم على أطرافها منتشرا بين جنباتها ، متخللا قلبها ، ضمت معطف ذا فرو ثقيل عليها ، كلهم متخففون من ملابسهم يتنعمون بدفئ نسمات الهواء ، عدا هي بنى البرد سورا حولها صعب الاختراق متحديا أشعة الشمس 
تحسست معطفها، تلمست أصابعهم الدافئة تناشد دفء ذكراهم بأن تتخللها و تتسرب إلي قلبها .... قربته من أنفها تستنشق رائحة لم يقدر الزمان على محوها ، هبت رياح باردة أحاطت بها بغتة ، تزيحه عنها ، تسقطه على ارضا ، و ما كانت الرياح ألا ذراعان باردان أحاطا بها في ضمة ، اصطكت لها اسنانها ، مصيبة إيها بقشعريرة 
لم تتحرك يدها قيد أنملة ، راقبت الفتاة تبتعد عنها تحشر جسدها وسطهم تدير دافة حديث هي قائدته ،.....أما هي كسراب بينهم 
أنحنت تقبض على معطفها تلبسه تضمه إليها أكثر ،تغمض عينيها تستحضر ذكرى من عطر تعلق به ، 
.........
تراصت تلال من الكتب تناثرت حولها تخفي وجهها ، كما نثرت ملاحظاتها يمين و يسارا ، فوق و تحت ، لكنها سهوت عن تلك البقعة النظيفة ، فتشنج عقلها يدفع قلمها يضيف كلمات أخرى هنا و هناك ، إلى أن تراكمت الجمل و تزاحمت متضايقة من كثرة السكان ، 
تبتسم برضا لما انجزته ، كعادتها لا ترضى عن كتبها إلا و اضخمتها بعبارتها ، رفعت ذراعيها تمددهما في تعب ، متراجعة للخلف ،فيتأرجح كرسيها معها 
وفجأة هوت على بساط غرفتها إثر إعصار هائج دفع بابها ،يغني فرحا يصيح بعبارات كثيرة لم تفهم منها شئ ....
اعتدلت تلتفت لها ، بوجه عبوس تزجرها : " في حد يعمل كده قولتلك مائة مرة خبطي الباب قبل ما تدخلي "
توقف سيل كلماتها تنفجر ضاحكة على أختها الساقطة على الارض بجوار كرسي مقلوب ، شعرها دار به صراع متشابك بين أقلام رصاص يتنازعون بقوة ....
وقفت نورين تجلس على فراشها ، تعدل مقعدها ، و مقلتاها مثبتتان عليها يتطاير منهما شرر منزعج 
كتمت الأخيرة ضحكتها بأصابعها تقول : " معلش محصلش حاجة"
ربطت ذراعيها على صدرها ، تتمسك حاجبيها بعبوسهما...
وضعت الأخرى يدها على جبهة أختها تحرره من غضبه تراضيها كلماتها بدلال : " خلاص بقي يا نونو عايزة احكيلك ايه اللي حصل "
فتحرر وجهها من ضيقه تسألها عن فرحتها،
أطلقت حدقتي شقيقتها قلوب حمراء و قبل خديها ورد جوري ، و شفتاها تغني بصوت يميت عصافير شجرتهم :
- " في إيدك قوى تهد جبال ...في أيديك قوة 
-‏وعليك صبر و طولة بال و عنيك....."
غلقت نورين الطريق على كلماتها تقول :" خلاص يا شادية هتموتي جمهورك..."
فتقول الفتاة بحالمية ذاتها تتخلل صوتها: " أصلك متعرفيش ايه اللي حصل "
و بنفس طريقتها و بابتسامة ساخرة : " أيه يا ختي اللي حصل "
تنهدت نور برومانسية انكمش لها وجه الأخيرة بتقزز : " معاذ "
- " ماله "
-‏ " ضربهم كلهم ، ورماهم على الارض "
-‏ " مش فاهمة ...رمى مين وضرب مين ؟"
فانطلقت كلماتها تسرد لها بحماسة معلق رياضي يحكي للمشاهدين عن الماتش ..
-‏: " اتنين حوله يعكسوني ، راح هو جاي ....كلمة من هنا على كلمة من هنا .. و بوم طراخ طراخ ... جاب جون و ترموا على الارض ...." 
أعقبت قولها تزفر مزيدا من القلوب، بددتها يد اختها توقظها على أرض المنطق : " عادي أي واحد شهم هيعمل كده ..."
-" لا مش أي حد ... ده أكيد بيحبني "
استنشقت الأخرى بعض الاكسجين تستجلب هدوء و صبرا : " كل ده عمله ، يبنتي انزلي على أرض الواقع و كفاية أحلامك الوردية اللي هتوديكي في دهية ، ده موقف صغير و أي راجل لازم يعمل كده و ده مش معناه أنه بيحبك... " 
قابلت كلماتها بعناد ، تسردها لعقلها ذاته ، يرفع بها سقف أحلامها عاليا في عنان السماء ، و يصقف له قلبها مشجعا مباركا خطواته : " بيحبني ، ده بيجبلي كل يوم بيجبلي نسكفيه ، و عزمني مرة علي الغدا ، وبنكلم بعض بساعات و بيحكيلي تفاصيل يومه ، و الموقف ده اكبر دليل انه بيحبني "
لوت شفتيها يمين و يسار تتحسر على قلب أختها الغض المتعلق بأذنها ، التي تسمع كلام أول رجل أظهر لها ذرة اهتمام ، أو ردد كلام الافلام المعسول ، فيتسرب إلى خافقها لا عقلها فيتشربه كتائه بصحراء جافة استبد به العطش ، يشرب القطرات ، ويستيقظ على رمال بفمه مكتشفا أنها سراب فتموت روحه ، ناشدت صبرها تربت على كتف نور كطفلة صغيرة هي أمها تنصحها : " ايه يعني عادي كل ده ما يثبتش حاجة ، ادام ما قال ليكي أنه بيحبك و لا قالك أنه عايز يتجوزك ،...."

فعاندتها متمسكة بلعبتها :"لا يا نورين.... بس بيحبني... نظراته ليا ، طريقة كلامه معايا كل ده بيثـ........"
‏قاطعتها نورين تقول ببساطة : "عادي يمكن بيعملك علي أنك صاحبته أو اخته ، عيشي على الارض و فوقي من احلامك دي ....."
‏اهتز سقف أحلامها الذي شيدته
بل البيت كله فتشبثت يديها بحوائطه ، باصرار أعمى استولي خافقها على عقلها يسيره خلف سراب تتمنى أن يكون حقيقة : " لا بيحبني ...و كمان انتي لسه صغيرة متفهميش حاجة ..."
‏و خرجت من غرفتها تغلق الباب تعجبت الأخرى : " أنا بردو الصغيرة ......."
ضربت كف على كف تلتفت إلى فراشها ، لتلمح معطف والدتها البني ، كانت ترتديه رغم دفئ شهر سبتمبر ، وقع منها ، التقطته تتحسسه بعنايه ترتديه تضمه إليها أكثر ، تستنشق عبير أمها الأخاذ الآن ماذا ستفعل لتعيد تعقل هذه الفتاة الطائشة ؟ ليت أمها كانت هنا لتنصحها......
............ 
تفجرت رعود ضحكاتهن ترتعد لها حمامات بيضاء اختبئت بأعشاشها ، و تفرقعت لها ذكرى ، فانتفضت مثلهم مختبئة بمعطفها اكثر ، تلتقط مسامعها أحاديثهم ضحكاتهم العالية ، تتسأل لماذا مازالت هنا ، وقفت تلقي عبارة خافتة سريعة : " أنا لازم امشي سلام "
و انطلقت أقدامها تشق طريقها ، تتخبط بجسد غاب عقله في غابات الذكريات و الأحزان ...
لكن رصد صقر فريسته التائهة ، يجمع كل شاردة و واردة تصدر منها ، يتسائل : " هي أيه اللي مشي نورين بسرعة دي ، علينا محاضرة "
سؤالها كأنه عادي كتحية صباح ردوا عليها ، أصدقاء نورين :"معرفش يا رانيا ، قالت لازم تمشي و مشت "
ظلت تراقبها إلى أن اختفت خلف اسوار الكلية 
*********
رئتان يستجديا الهواء ليدخلها ، صدر يعلو و يهبط ، و أنفاس متلاحقة ، حدقتاها تدور في المكان ، أريكة و مقعدان يضمهم حوائط مغلفة بورق ملون ، إذن هي في صالة شقة التي يعيشان بها الآن ، انتفضت تطوف عينيها على ملابسها ، جلباب ملون يغرقه عرقها و أصابعها تتشبث بوشاحها ، وهي راقدة عند باب الشقة مستندة عليه ، أصابها الخوف ، دار عقلها يجمع الأحداث ، يربطها ببعضها يجذب اطراف الخيوط ، و أفكاره السوداء تساعده على حياكتها ببعضها 
إذن كل ما رأته حقيقة و ليست خيال ، الفتى الذي تحول إلى ذئب حقيقة ، العينان و الذئب الأبيض حقيقة ، كله ينبض بالحياة ....
‏أيمكن ان يكون أهل الواحة مستذئبين مثل هذا الفتى؟ ..... نعم بتأكيد و لماذا يغلقون المحال ، تسكن الطرقات ؟
يجب أن تبحث عن طريقة الهروب من هذا المكان ، يجب أن تخرج من هنا ، عليها أن تخبر فرح ، لكن هل ستصدقها ؟ نهضت من فورها متجه إلى غرفتهم ، تركض إليها تهزها من كتفها تصيح بأسمها :
" قومي يا فرح ... لازم نمشي ن هنا قومي ....فرح ردي عليا "
تململت فرح تقاوم ثقل جفناها لتشرعهما بكسل ، مسامعها التقطت كلمات مبعثرة غير واضحة و بنبرة سكنها الكسل تقول : " في أيه على الصبح يا نور ....بتصحيني كأن حريقة قامت "
هدأت قليلا عند سماع صوتها، فأردفت : " قومي خلينا نمشي من هنا "
كلمات أطارت النعاس من عينيها تجلس ملتفتة لصديقتها ، وجه شاحب هربت منه الدماء ، عرق يغرق وجهها و أثار دموع جافة تحدث خط بوجنتاها ، قلبها يدق بسرعة كأنه في سباق 
تسائلت بقلق ينهش صدرها : " أيه اللي حصل ، رايحة فين ...و مال وشك اصفر ليه ؟ " 
‏أمطرتها نور بسيل من كلمات مبعثرة مختلطة بصوتٍ خائف ، تراقب وجهها ترصد انفعالاته تخشى ألا تصدقها ....
‏كلامها مبعثر مشتت و لم تفهم الأخيرة منه شئ ، رفعت يدها تقول لها 
"اهدي براحة ، واحدة واحدة ..بصي خدي اشربي مياة و احكيلي واحدة واحدة "
اتبعت جملتها بأعطائها كوب ماء ، فشربته الأخرى دفعة واحدة ، أخذت نفسا عميقا يهدأ من توترها وخوفها ، و اطلقت زفيرا اختلط بشحنات خوفها ....وضعت الحروف ، رتبتها ، نسقت جملها لتطلقها بوضوح ...
فغر فاه صديقتها و اتسعت عيناها ، اعقبتها بضحكة عالية ...
عضت نور شفتيها ، لا فائدة من الحديث هي لا تصدقها بالتأكيد ، سمعتها تقول : " جبتي الكلام ده من انهي فيلم او رواية ،... انتي بتهزري معايا اكيد "
هزت رأسها تحلف بالله أن ما حكته حدث حقيقة ،
فمدت صديقتها يدها تلمس جبهتها تردف : " أنتِ جرالك حاجة، اكيد كنتي بتحلمي ، ابقي اتغطي كويس قبل ما تنامي "
اسندت فرح ظهرها لوسادتها ، متدثرة بغطاء تناشد نوم اضاعته تلك صاحبتها ، 
لم ترفع راية استسلامها جذبت يد الفتاة تزيح الغطاء ، تقسم بأغلظ الأيمان أن ما حدث حقيقة و اتبعت قولها : " فرح صدقيني ، انا شوفته بعنيه "
تأففت فرح من عنادها ، فاسرعت الأخرى تسكب علي حكايتها بعض المنطق : " طب ليه نمتي بدري امبارح بعد الاكل ، طب بلا ش ديه ، ليه عم حسين اصر علينا ناكل قبل ما يمشي "
اجابتها بثقة تزعزع منطقها : " عشان راجل ذوق ، و أنا حسيت اني عايزة أنام عادي يعني بعد الاكل ساعات الواحد بينعس "
زاغ بصر الأخيرة تستجدي عبارات لتصدقها بها : " طيب ليه مصحتيش ، فضلت أهز فيكي امبارح و انادي عليكي ، مع ان نومك مش تقيل ..."
زاد قلق فرح على عقل صديقتها ، أحلام منامها ستطيره قريبا ، ربتت على يدها و انتقت كلماتها تخبرها : " يا نور يمكن كان حلم ، زي اللي قبله بتاع الذئاب "
أشاحت بيدها تنفض كفيها تهدر بعصبية ممسكة بجلبابها : " طب إزاي لبست جلبية اللي ادتهاني (اعطتها لي ) طنط تفيدة ، و نزلت ؟ "
امسكت بيدها تضغط عليها ترد بهدوء تمتص به غضبها :" ياحبيبتي ، يمكن مشيتي و انتي نايمة " 
حملقت صديقتها بها بنظرات ترجوها أن تصدقها لكن هيهات ، ربتت على كتفها تستأنف كلامها : " صدقيني ساعات بتحصل عادي ، روحي اغسلي وشك ، و تعالي نامي ارتاحي "
نهضت نور من الفراش بألية تنفذ أوامرها و عقلها يردد جملة واحدة : " لن تصدقها ابدا ، فما عشته شئ وراء الخيـ....."
قطعت حديث نفسها تجذبها النافذة إلى شخص يسترق النظرات من خلف الستار ، دنت منها ضيقت عيناها تحاول ان تتفرس ملامحه ، لكنه اختفى متلاشيا في ظلام الغرفة المقابلة من شقتهم ...
زفرت بيأس تكمل طريقها للحمام ، ترشق وجهها بماء ، تعيد إليه الحياة بعد يوم مرعب ، عادت خطواتها الرتيبة إلى الفراش تنام بجوار فرح ، لم تخلع عنها العبائة ، تشعر بأن قواها خارت ، تمتم بأن يكون كله حلم ، أو يخلصها الله من هذا المكان العجيب .... 
*************
صفارة دوت في الأرجاء ، اتبعها قطار اخترق محطة فحشر حشد غفير يصعد و اخر ينزل ، مكتظ جدا يكاد يُسقطه و يُهرس بين القطبان ، يدخل بقوة دفع لكن ظنه تحقق ، إذ أختل توازنه ما إن اخترق الزحام سهم مندفع اصطدم به يلج إلى الداخل ، لمح حقيبة سوداء تخترق الجمع بسرعة البرق ، كاد أن يسقط لولا يد مدت له فقبض عليها جذبته للداخل قبل إغلاقه و هرسه بين عجلاته ، لهج لسانه بحمد لله ، و شكر للشاب ، استدار ليعقد حاجبيه بغضب يجلس أمام صاحب الحقيبة الذي كاد أن يوقعه ، همّ أن يطلق سباب و وابلا من كلماته الغاضبة ، لكن ابتلعها ، حشر صوته و تبدد غضبه بثانية واحدة ، أفتر وجه عن ابتسامة بلهاء حالمة و عيناه تعلقت بها ، وجها أبيض و حمرة تشوب وجنتاها و أنفها ، تزيدها جمال ، و عينان تبارك الله في حسنهما ،.... كأنها رسمة جدارية حبست بداخلها 
أمسك بمنديل يمده لها لكن تراجعت يده خشيت أن تخرج من هالتها متضايقة منه و تغير مقعدها ، تنحنح ساحبا عينيه يغض بصره مستغفرا....
أما هي احتضنت معطفها أكثر تستنشق رائحة أمها ، تلك الرائحة التي لا تعوض عنها شئ ، والدتها التي كانت تمسك ذيلها ليل نهار لا تفارقها إلا للدراسة ، لا تمل من احتضانها و ادمان عبيرها ، لم تنسى دعائها لها ، تتذكر جيدا عندما تتكاثر عليها الاحزان تركض على ساقها تريح رأسها فتمسد الاخرى لها شعرها و تقرأ عليه المعوذتين و آيات تحصنها ، لتنتهي بقبلة تطبعها على وجنة صغيرتها ....
ظلوا هكذا حتى توقف القطار لحظات عند محطته ، و بعدها أطلق صفارة الغلق ، لتنتفض الفتاة راكضة تخرج من الباب قبل أن يطبق على جسدها ...
التقط كتاب وقع من حقيبتها يركض خلفها ينادي : " استني يا انسة ، كتاب وقع ...."
أوصده القطار منطلقا بطريقه ، و هو تسمر عنده يراقب ركضها إلى أن طوت طيفها عجلاته ، مر من بعدها صور خاطفة تتعاقب امامه سريعا ، لتهدأ و تتوقف عند غايته ، يخرج بعقل شارد محتضنا كتابها ، يقول قلبه : " من أبكى هذا الملاك "
..تنحنح معتدلا يستجمع شتات نفسه ليكمل طريقه عائدا لبيته .......
‏*******
ساق قدميه بصعوبة ، و دون أن يخلع نعليه هوى على فراشه ، يغلق جفنيه الثقيلان يستدعي نوما و راحة ، لكن سرق النوم من عينيه دفتر أزرق لا يزين غلافه شئ.. ساقط منه على سريره ، هذا ملك فتاة القطار ، دفع فضوله دم سرى بعروقه ، ناسيا تعبه ...
اقترب منه يفتحه ، قابله بأول صفحة اسمها يزينها "نورين جاد الله" 
فقط لم تكثر لا بعنوانها أو بجامعة تدرس بها ، فقط بعض فراشات و ورود تقبع هنا وهناك .تزين بياضها بأتقان ، هل هي رسامه تبدع بفرشتها مزينة كل ركن بعالمها ؟ ...تنحنح يعيد عقله إلي صوابه ....يفكر كيف سيعيده إليها ، هو لا يعلم لها عنوان لا يعرف إلا اسمها الموسيقي نورين ، و هي نورين ، لكن ماذا يعني اسمها ؟ زاد حب الاكتشاف بداخله ، يود كشف أسرار دفترها ، اغلقه يؤنبه ضميره ، يهذبهما ، لكنه وقع في صراع بينهما ، لم يطل كثيرا فقد فاز فضوله بجدارة بلكمة سددها لخصمه اسقطته مغشيا عليه ، يفتح دفترها براحة

- فتاة تسكب مقلتاها الدموع ، ترسم على شفتيها ابتسامة كسرا ، تحبس بحاجز وهمي ، يحاوطها الجميع لكن لا أحد يلتفت لها ........

هكذا رسمت بإحدى صفحاتها قلب صفحات الكتاب 

-ليرى شجرة سقطت أوراقها الصفراء رسم عليها وجه يختلط به الدموع و الحزن ،و تقابلها أخرى رسمت فيها ... شجرة ثانية تخشبت أغصانها تثاقلت عليها الثلوج ، تكاد تسقط من ثقلها ... كتب تحتها ، (هذه هي الصداقات تبدأ ببرعم أخضر يشق الأرض يحارب الأتربة و جفاف ، ينمو يوما بعد يوم لتغدو شجرة وارفة الأوراق ، إن اهملها بستانيها و غادرت شمسها ، تجف و تتساقط أوراقها تثقلها الثلوج إلى أن تهوى بضعف على أرض باردة ...)

ابتسم عقله يخزن معلوماتها بحماسة ، يرقد على سريره متكأ على مرفقيه ، يضعه أمامه ، فضوله يدفع يده لمعرفة المزيد ،

رسمت فتاتان يوليا ظهرهما له ، يجلسا على ارجوحة واحدة ، يتشارك شعرهما بجديلة واحدة تضافرت متحدتان معا ، 
... كتب تحتها (أنا وأختي الغالية )

رسمة أخرى لسيدة ترتدى معطف بني كالذي كانت ترتديه الفتاة ، كان جسدها شفاف كالأشباح ، تمسح يديها الشفافة على رأس فتاتان ينامان على قدميها يظرفا الدمع "
( اشتقت لدفئك أمى و دفئ صوتك العذب الذي يسري في مخترقا مسامعي كالماء الرقراق يرتل آيات الرحمن ، و يديكِ الدافئتان تغدق على رؤسنا براحة وأمان ، صرت أسير كأشباح بلا روح ، أبحث عنك في معطفك ، أفتش عنك عند أريكتنا التي تضمنا جميعا أمام التلفاز ، عطور ذكراكم هي التى تمسك روحي و تبقيها على قيد الحياة ، لا اعرف كيف اتكيف على غيابك )

انطلقت يده تقلب في دفترها صفحة تلو أخرى ، واحدة توخز قلبه ، واحدة تذكره بذكرى غائبة بواقعه حاضرة بعقله ....
و فضوله لا يشبع يريد معرفة المزيد عن تلك الفنانة.... فتاة القطار

**********
تعانقت عقارب الساعة عند الثالثة ، تقطع دقاتها سكون رتيب ، و مثل كل يوم تضخمت نفسها بالأحزان ، تضافرت عليها الهموم ، تريد أن تفرغ هذه المشاعر إلى صديقها ، فتشت يدها هنا و هناك قلبت أوراقها و ألوانها ، بحثت تحت السرير فوق المكتب ، لا أثر له ، أين وضعته ؟ 
ركضت إلى حقيبتها السوداء تفتحها تفتش بين محتوايتتها ، تقلبها على الأرض ، تبعثرها أصابعها الرفيعة..... 
توقفت تلتقط أنفاسها المتسارعة ، تذكر جيدا أنها أخذته معها ،كان معها طول الوقت ... أين ذهب ؟
قطع سيل أفكارها ، تكة الباب ، انتفضت سكاناتها ترتعش خوفا ، تحيط بها وحدتها و وساوستها تضحك عليها ، 
سارت بخطوات سيطر عليها الذعر ، تقدم قدم و ترجع الف ، اختبأت خلف حائط ترى رجل فارع الطول أخفى ملامحه الظلام ، مع كل خطوة ثقيلة يخطوها ترتعد لها اوصالها ، و تلاعبت أشباحها السوداء تتهامس بأنه سارق ، و من سوء حظها هي أتى إلى بيتها فقير الحال ليسرقها ، أم قاتل سفاح سيقتلها ، اصطكت أسنانها خوفا ، شحب وجهها تنفضهم عنها تقبض على عصا تحتمي بها ، جمعت شجاعتها المبعثرة تتقدم بها إليه ، فجأة سقط الرجل على الكرسي ، عاد الفزع يصيب قلبها هل مات هذا الرجل أم ماذا هي لم تلمسه حتى ، ما ذلك الحظ العثر أيأتي ذلك الرجل إلى بيتها الفقير ليموت هنا ؟
اقتربت منه تهزه بطرف عصاها بخوف ، لكنها تراجعت عندما تبينت لها ملامحه ، شهقت شهقة قصيرة تهمس : "بابا ...."
همهم يرد عليها منتظم الأنفاس ، فاستقرت نبضاتها ، تبدد فزعها تختفي معه اشباح وحدتها لتنتظم أنفاسها براحة تشعر بأمان تسرب إلي دمها يعيد لوجهها الحياة....
أبيها أتى إلى بيته بعد يومان كاملان قضاهما في العمل ، لم يعود إلى منزله ، بل فضل المكوث هناك عاكفا على أعماله هاربا من ذكريات ، ذهبت إلى غرفتها ، وعادت تمسك معها غطاء دافئ تدثره جيدا ، اتبعتها بقبلة على جبهته تتمتم بأن يحفظه الله لها ......

***********
احتضنت كفها تتكأ عليها ، تصعد سلالم كثيرة ، توقفت تلهث من فرط التعب 
فنظرت الأخرى لها شزرا ، تقول : " وفقتي ليه علي العزومة ....اديكي تعبتي "
لترد عليها بين لهاثها : " الناس كتر خيرهم عزمونا ، أقولهم لا ..."
إجابتها تعترض على سذاجة صديقتها :
" أه الناس دي أنا مش مرتحلهم 
‏ ، و زي ما قولتلك احذري منهم ....."
‏اشارت فرح إلى رأس الاخرى تردف :"سيبك من الأوهام اللي ملت دماغك دي ... الراجل كويس "
‏تأففت بتبرم لا فائدة من حديثها ،امسكت يدها يصعدا أخر درجاته ، و مع كل خطوة تخطوها يتزايد نبضاتها خوفا و حذرا و شك ، مشاعر مختلطة يثيرها هذا الرجل بداخلها ...
‏انتبهت لصديقتها التى طرقت بابهم ، ثواني و قابلتهم سيدة بوجه احتله العبوس ، وعينها ترمقهم بنظرات عجيبة ....
‏تبادلت الأنظار مع فرح متعجبتان من السيدة ، لم تقل لهما كلمة واحدة فقط صفقت الباب بعنف بعد دخولهما ، فانتفضت الفتاتان ، يراقبانها تختفي وراء ستائر بجوار مدخل البيت 
‏همست فرح : " مالها دي بتبصلنا كده ليه ..."
‏- " عجبك كده ياهانم "
‏رققت صوتها تقلد الأخيرة بحركات ، تستأنف قولها : " الناس كتر خيرهم عزمونا ، اقولهم لا..؟."
‏اكملت جملتها بصوتها الهامس : " ادي حسن الضيافة ... ربنا يستر علينا "
‏كتمت الأخيرة ضحكاتها ، بلعتها ترى الرجل يقبل عليهما بابتسامته البشوشة ، رأتها المنزعجة مصطنعة كاذبة ، رحب بهما قائلا : " اهلا وسهلا شرفتونا و انستونا ، اتفضلوا اقعدوا وقفين ليه ؟ "
‏جلست الفتاتان على أريكة و جلس هو بمقعد جوارهم يوجه حديثه لفرح : " اخبار رجلك أيه يا فرح ؟ "
" ‏الحمد لله ....." 
بترت جملتها تنظر للسيدة التي تراقبهم تكاد عينيها تقتلعان من محجريها لتجلس معهم ، 
انتبه لها حسين و نظر خلفه ، يبتسم بحرج قائلا : " دي مراتي تفيدة ..." 
لم تنطق أي كلمة لكنها رمقتهم بغضب تدخل لمطبخها تحضر أطباق ، توزعها على طاولة الطعام ...
و حدقتي نور لم تغفل عن معنى الاشارات الغاضبة التي ترسلها هذه السيدة و عقلها يقيم الموقف يطرح اسئلة ، يجيب هو عليها ..... أهذه التي سنأنس وحدتها و ترحب بنا كبناتها ؟ هل هي كارهة لوجودنا ؟
استفاقت من أفكارها تثبت عينيها على الرجل الذي يحدثهما : " يلا يا بنات الاكل جاهز. ..."
وقفت الفتاتان تتبعانه بخجل اصطحباه معهما ، تحلقوا حول طاولة واحدة ...
ناد عم حسين :" يا أياد يا سيف الاكل جاهز "
دخلا شابان يتقدمان بخطوات ثابتة ، ضيقت الفتاة حدقتيها تحملق بهما ، 
ازاح كل واحد كرسيه و يجلسان عليه 
أشار عم حسين لاحدهم :" ده أياد ابني اصغر واحد "
أشار للشاب المقابل لنور :" و ده سيف ابني الكبير......"
توجهت أسماعهم قبل أبصارهم حينما سمعوا الكوب الذي هوى تتناثر أشلائه أرضا ، وقفت نور منتفضة كأن ثعبان قرصها ، أطلقت لساقيها العنان تركض من وحوش خلفها تشرع الباب ، لتختفي من أمامهم ، تحت نظرات فرح المتعجبة الحرجة .....

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

articles

11

followers

5

followings

1

مقالات مشابة