بذلة الغوص و الفراشة: الجزء الحادي و العشرون

بذلة الغوص و الفراشة: الجزء الحادي و العشرون

0 المراجعات

البقل 


«إنه الثامن من يونيو. وفقا لذلك يكون قد مضى على انطلاقي في حياتي الجديدة ستة أشهر بالتمام. رسوماتكم تشغل الحائط،
و رسائلكم تتراكم في الخزانة باستمرار وبها أنني لا أستطيع أن أجيب عليها واحدة واحدة، فقد خطرت لي فكرة هذه «الساميزدات»
لسرد مجريات أيامي، من تحسن الحال وتضاعف الآمال. في البداية سعيت لإقناع نفسي بأن شيئا لم يحصل. وفي حالة نصف الوعي التي  تلت غيبوبتي التامة، كنتُ أرى نفسي راجعا من وسط الإعصار
الباريسي محاطا في أقصى الحالات بزوج من العكازات».

كذا كانت الكلمات الأولى لرسالة بارك، التي قررت في أواخر الربيع أن أرسلها إلى أصدقائي وأقربائي.

موجها إياها إلى حوالي ستين مستلها عساها تحدث وقعا ما وتُصلح شيئا من أضرار
الإشاعة، والحال أن المدينة، ذاك الوحش ذو المائة فم والألف أذن الذي لا يعرف شيئا ويتحدث عن كل شيء، كانت قد قررت أن
تصفي حسابها معي.

في مقهي «فلور»، أحد تلك المعاقل الرئيسية للعجرفة الباريسية، حيث تنطلق النائم انطلاق الحمام الزاجل، كان بعض خلاني قد سمعوا تُفها مجهولين يتحاورون بشراهة نسور اكتشفت لتوها غزالة مبقورة البطن: «أتراك علمت أن .ب. قد تحول إلى بقل؟»
قال أحدهم «بالطبع بلغني ذلك. بقل، نعم، بقل». يجب الإقرار بأن «بقل» كلفظ يمكن اعتباره لطيفا في قصر البين ذاك، لاسيما وأنه
تكرر مرات عديدة أثناء طفحي لقمتي طبق الربيت الويلزي.

أما طريقة التلفظ فمغزاها أن ضيق العقل والتفكير وحده قد ينكر أني من الآن فصاعدا أكثر صلوحية لتجارة بواكير الخضار والفواكه مني لمرافقة الرجال.
كان الزمن زمن سلم، وبالتالي لم يكن أحد ليطلق النار على حاملي الأخبار الزائفة. لذا إن أنا أردت إثبات أني ما أزال أملك قدرة فكرية
أعلى مما لدى نبتة «لحية التيس»، وجب علي ألا أعتمد إلا على نفسي.
هكذا إذن نشأ تراسل جماعي رحت أتابعه من شهر لآخر، فأتاح لي أن أبقى على تواصل مستمر مع من أحب. بل يمكن القول
إن كبريائي الآثم آتي ثماره.

إذ عدا بعض العصيين على الإقناع، المتشبثين بصمتهم العنيد، فهم الجميع أن بإمكانهم التواصل معي في بذلة غوصي، حتى وإن سحبني ذلك بين الحين والحين إلى تخوم
لم تكتشف بعد.
أستقبل رسائل لافتة، تخرج من أغلفتها وتفرد، ثم تُعرض على.عيني وفق طقس قراءة استقر مع الوقت، مانحا وصول البريد
صبغة احتفال مقدس يغلفه الصمت. أقرأ كل رسالة بنفسي وبعناية فائقة. بعضها لا تخلو من الأهمية.

تتحدث عن معنى الحياة، وسيادة
الروح، وعن السر الكامن في كل وجود. وفي ظاهرة غريبة لانقلاب الأوضاع، لاح لي أن أولئك الذين أقمت معهم أبسط العلاقات هم من يضغطون إلى أقصى حد في طرح هذه الأسئلة الجوهرية، وأن
خفتهم تحجب عمقهم. هل كنتُ أعمى وأصتها؟ أم أن نور المأساة
ضروري لينير لرجل نهاره الحقيقي؟
هناك رسائل أخرى تروي في بساطة أحداثا صغيرة لتبرز انسياب
الزمن؛ زهور تقطف مع الغسق، رتابة يوم أحد ممطر، بكاء طفل قبل
أن ينام. 

هذه العينات من الحياة، المأخوذة من اللب، هذه النفحات من السعادة، أثارت عواطفي أكثر من أي شيء آخر.

سواء كانت في ثلاثة أسطر أو في ثماني صفحات، آتية من الشرق الأدنى البعيد أو من
لاقالو بيريه، أحتفظ بها مثلما يحتفظ بكنز. ويوما ما سأسعى لإلصاق بعضها ببعض لصنع شريطة من ألف متر ترفرف في مهب الريح، مثل راية، معلنة مجد الصداقة.
وسوف يبعد ذلك النسور.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
اسلام ابراهيم
المستخدم أخفى الأرباح

articles

460

followers

610

followings

115

مقالات مشابة