دعهم ينظرون إلى الداخل
دعهم ينظرون إلى الداخل
قراءة في رواية ( الحيوان الأخرس) للكاتب الروائي أشرف الخضري
في البداية أحب أن أقول أنني أستمتع بالقراءة وبالذات للكاتب الذي يستطيع الاختراق والتوغل داخل نفسي حتى أتمنى بغبطة طبعاً أن أكون صاحب النص ويظهر انجذابي لأي عمل منذ السطور الأولى فانساق خلف القراءة حتى النهاية وفي حقيقة الأمر هذا لا يحدث كثيرا فأرجئ القراءة لوقت آخر واهما نفسي أنه ربما لم يوفق الكاتب في الاستهلال وقد يحدث ذلك أحيانا
الحيوان الأخرس هذا العنوان الذي وضعه الكاتب للرواية هو أوّل ما يدفع للقراءة طارحا السؤال الذي تبحث عن إجابته من خلال مواصلة التوغل داخل الرواية. من أو ما هو الحيوان الأخرس؟ مع ما يطرحه هذا التساؤل من دلالات متعددة
يبدأ الفصل الأول بوصف ليلة ممطرة، ثم يفاجئك الكاتب بالصدمة الأولى مع الوعي، بعد أن يسرب لك بهدوء، أن النسيان هو الدواء المعجز، الذي كان ولا يزال الوسيلة الوحيدة لدفعك لمواصلة الحياة، وذلك لا يجعلك تنتبه، وتلك هي الصدمة " المطر جميل فقط لمن يلهون معه طبقا لشروطهم وعلى طرائقهم......." ص ٧ وأنك " عندما تنام ليلة واحدة في العراء وتبكي أعين السماء على حالتك. المزرية لن تسقط في عشق المطر أبدا سوف تعرف أن الأشياء الجميلة يمكنها أن تقتلك" ص٨ مؤكدا في نهاية الجملة أنه لا يقصد المطر فحسب بل مطلق الأشياء الجميلة
يدهشك الكاتب ويجعلك تنتبه أكثر وتطرح على نفسك سؤالا هو الأهم على طول المدى أثناء قراءتك للرواية بل و قد يتخطها" كنت بمخيلتي هناك أشاهد و أسمع كل ما أتيح لي أن أراه أو أسمعه، أنا الراوي لهذه الحكاية وحكّاء هذه الرواية شاهدت القتل الأول وسمعت وسوسة النفس، ركبت في السفينة يوم طغى الماء........." ص ٨
من هو الراوي؟ ومن الحكّاء؟ وما الفارق بينهما؟ من الذي شاهد القتل الأول وركب في السفينة يوم طغى الماء؟
هل فعلا من خطر ببالي هو الراوي و الحكّاء الذي أوحى للكاتب؟
" احك لهم "..." دعهم ينظرون إلى الداخل "...
" لا معرفة بلا تجربة "ص٩
لابد أن نقرأ الحكاية و ننظر داخلها وداخل أنفسنا لنعرف الإجابة
في تلك الليلة الممطرة ولدت شيماء طفلتها سميحة بمساعدة نورا تلك الممرضة التي بينها و بين شيماء بقايا من العملة الذهبية المهملة الوفاء
" فالناس يموتون في المدن القاسية في صمت ووحدة ولا يعرف بخبرهم أحد إلا بعد أن تفوح الروائح"
شيماء نبتة لا تدري هي نفسها وربما لا تدري أمها لمياء إن كانت هذه النبتة من بذرة طيبة من زوج لمياء أول حيوان أخرس ظل وسيظل كل شيطان مثله يخسر دائما أم هي نبتة قذرة من بذرة قذرة و لكن اليقين أن سميحة من بذرة قذرة غرسها عزيز في رحم شيماء
عزيز الذي يصدمك به الراوي و الحكّاء فهو نبتة ربما تكون من بذرة طيبة في أرض طيبة و لكن هناك حيوان من نوع آخر هو أبوه فصار هو الآخر شيطان ليصدمك الراوي في وعيك بأن هذا الشيطان و إن نبت وتربى في الجنة التي بلا آثام لن يكون سوى عزيز الشيطان و ليخفف عنك الصدمة بقوله "في أغلب الحالات" ص١٥
ثم يرفع الراوي مستوى الصدمة في الوعي بوصف لا تستطيع إنكاره
لمخلوق يحارب كل جميل بالشر "مثلما يمنحنا الله الموسيقى والرسم والكتابة هناك مخلوق عظيم آخر يمنح اتباعه مواهب خطيرة جدا تسعى بكل قوة عبر الأزمان لتدمير المواهب النقية" ص١٥
تنساق خلف الراوي لتعرف الحكاية حكاية عزيز وشيماء ونبتتهما القذرة مثلهما فيسحبك بنعومة للتعاطف مع هذا الشيطان قبل إن يعيدك لتقبل على الرغم من الأسى الذي يجتاحك طريقة موته حين يقول" الذئب في محبسه ربما يكون لطيفا ينتظر الطعام في صبر ويتقبل النظام وربما الإهانة لكن عندما يخرج للبرية ويتنفس الهواء الحر ويسترد عافيته وكبرياء لا أحد يستطيع توقع متى سيعوي أو متى سينقض" ص٣١
تنتهي حياة عزيز لتبدأ شيماء وسميحة حياة جديدة وضع بذرتها عزيز قبل موته " الجمال خطاب توصية قصير الأجل" هذا ما اتكأ عليه عزيز ثم شيماء وسميحة من بعده دون الوعي لأنه قصير الأجل
في هذه الأثناء ونحن مندمجون في حكاية شيماء وعزيز كانت هناك حكاية أخرى يشاهدها الراوي ويساهم فيها الحكّاء تسير بخطى منتظمة لتلتقي بهذه الحكاية كانت هناك حكاية جيهان وفوزي وفايز
فايز الذي ظهر في حياة سميحة كحمل وديع وسط ذئاب تسعى بكل وسيلة لتنهش جسدها الجميل كما نهشت من قبل جسد أمها التي "كانت طوال الوقت مثل الغزالة التي سقطت بين مجموعة من الذئاب يأكلونها وهي حية دون السماح لها بالموت أولا والتهامها ميتة" ص٣٧
سميحة غير شيماء فقد رأت ما لا يجب أن تراه و تعلمت على الرغم من حرص شيماء ومحاولاتها الفاشلة لحمايتها من السقوط "كانت صغيرة في عمرها فقط لكنها لم تكن صغيرة في وعيها المبكر بجمالها و أنوثتها وركوع الرجال أمام جبروت بياضها....... " ص٢٨
سميحة التي فقدت" الحضن الأبوي الأول الذي يمنح كل فتاة تجئ لهذا العالم شعورا أبديا بالأمان" ص١٢
وجدت في فايز بعضا منه على الرغم من جبروتها كانت أضعف ما يكون أمام ظله
فايز الذي تربى يتيما بعد وفاة أمه و انشغال أبيه في العمل من أجل لقمة العيش على يد جيهان و فوزي فنبت بداخله ذئب ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على فريسته بل فرائسه
فوزي الذي صنعته جيهان أيضا كطعام دائم لحيوانها الأخرس فصار حيوانه الأخرس لا يشبع منها فيسعى للطعام و لو بطريقة شاذة أودت به في النهاية للموت على يد حيوان أخرس من نوع آخر يكره الخيانة ويؤمن بالعملة الذهبية المهملة حتى صار هو نفسه رمزا لها عملة الوفاء
فايز استرق السمع والنظر كما سمعت ورأت سميحة حتى صارا شيطاني بلا وعي في البداية ثم بوعي تام وإرادة حرة بلا رادع لهما بعد ذلك
أما جيهان فقد كانت على وعي وإدراك برغبات حيوانها الأخرس وتبحث له عن الطعام حتى عند فايز الطفل الذي بلغ الحلم مبكرا "قريبا جدا يستطيع هذا البرص الصغير إطعام هذا الحيوان الأخرس" ص٨٦
جيهان التي ظلت إلى آخر نفس تبحث عن طعام حيوانها ماتت وهي تطعمه
فايز ذلك الشيطان الذي تأخر في الظهور كان يسعى للمعرفة و للفهم فيفجر الكاتب من خلال تساؤلاته بعض قضايا ربما تمر على البعض دون أن يلاحظها مثل انهيار العلم أمام لقمة العيش" وكان فايز يسأل والده دائما من أين يحضرون هذه الكتب المدرسية التي يدرسها في المدرسة ولماذا تباع فيها أقراص الطعمية......."
وكذلك قضية الصراع الديني من خلال علاقته بيعقوب الذي كان يلقنه الكثير عن الدين والإنسانية "للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" ص١٠٤
"الناس لا يحبون الفقراء ولا يحترمون الضعيف وأن الإنسان لابد أن يكون كبيرا من الداخل عفيف النفس لا يتخلى عن اعتزاز بنفسه ولا يقبل الهوان ولا يلطخ شرفه....... " ص ١٠٣
كما أدركت شيماء من قبل "الحقيقة السوداء أن الحاكم الأعظم للحياة هو المال وأن الفقر هو السافل الأكبر الذي يزيف حقيقة الأشياء" ص٢٦
ولم يدرك هو ولا سميحة ذلك بسبب المال والانحدار وراء الشهوة إلا بعد فوات الأوان فكان لابد أن يكون هناك من يدرك ويعي معنى الإنسانية والوفاء كانت هناك فوزية التي سعى الراوي ابليس الذي يرى ويسمع والذي ركب في السفينة يوم طغى الماء كما سعى الحكّاء الشيطان الذي يتدخل في كل الحكايات لإسقاطها في بئر الخطيئة كما سقطت سلوى ابنتها لكن الكاتب انتصر من خلالها للفقراء والضعفاء في هذا العالم