ما لا تعرفه عن ابن سينا

ما لا تعرفه عن ابن سينا

Rating 0 out of 5.
0 reviews

ابن سينا: عبقرية خالدة في تاريخ الفكر الإنساني

المقدمة

يُعَدّ ابن سينا (الشيخ الرئيس، أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا) واحدًا من أعظم الشخصيات التي أنجبتها الحضارة الإسلامية، بل من أبرز العقول التي أثّرت في مسار الفكر الإنساني عبر العصور. فقد جمع بين الطب والفلسفة، والفلك والرياضيات، والموسيقى والمنطق، حتى استحق عن جدارة لقب الشيخ الرئيس. لم يكن مجرد عالم موسوعي، بل كان رمزًا للعبقرية التي تجاوزت حدود الزمان والمكان، فكان تأثيره حاضرًا في الشرق والغرب لقرون طويلة.

هذا المقال يستعرض حياته العلمية والفكرية، وظروف عصره، وأهم مؤلفاته، ودوره في تطور الطب والفلسفة، مع تحليل معمّق لإرثه الحضاري والدروس المستفادة من سيرته.

أولا : عصر ابن سينا والبيئة التي نشأ فيها

1- الوضع السياسي

وُلد ابن سينا عام 980م (370هـ) في قرية أفشنة قرب بخارى، في زمن الدولة السامانية. كانت بخارى آنذاك مركزًا علميًا مزدهرًا، لكن العالم الإسلامي كان يشهد صراعات سياسية متكررة بين السامانيين والبويهيين والغزنويين.

2- الوضع الثقافي والعلمي

كان العصر العباسي – رغم الاضطرابات – عصر نهضة علمية. نشطت حركة الترجمة من اليونانية والسريانية والفارسية إلى العربية، وظهرت مراكز علمية كبيت الحكمة في بغداد. وكان العلماء يجمعون بين علوم الدين وعلوم العقل، وهو ما أثّر في تكوين ابن سينا.

ثانياً : نشأة ابن سينا وتعليمه

1- طفولته

نشأ في أسرة فارسية متوسطة الحال. كان أبوه موظفًا إداريًا في الدولة السامانية. لاحظ والده نبوغه المبكر فحرص على تعليمه منذ الصغر.

2- بداياته العلمية

تعلم القرآن واللغة العربية صغيرًا وأتم الحفظ في العاشرة.

درس الفقه والحديث، ثم الرياضيات والهندسة والفلك.

اتجه نحو الفلسفة والمنطق، وكان شديد الذكاء في فهمها.

3- تحصيله في الطب

أظهر اهتمامًا خاصًا بالطب منذ صباه. قرأ كتب الأطباء السابقين مثل جالينوس وأبقراط، لكنه تجاوزهم بالملاحظة والتجربة. في سن السادسة عشرة أصبح طبيبًا بارعًا، وكان يعالج المرضى مجانًا طلبًا للمعرفة.

4- دخوله قصر السلطان

عندما مرض السلطان نوح بن منصور، استُدعي ابن سينا لعلاجه. نجح في علاجه، فكافأه السلطان بالسماح له بالاطلاع على مكتبة القصر الضخمة، مما فتح أمامه كنوز المعرفة.

ثالثاً : مسيرة ابن سينا العملية

1- أسفاره

بعد سقوط الدولة السامانية، تنقّل بين خوارزم، الري، أصفهان، وهمذان. عمل وزيرًا أحيانًا وطبيبًا دائمًا، لكنه كان كثيرًا ما يتعرض للاضطهاد بسبب آرائه الجريئة.

2- حياته السياسية

تولّى منصب الوزير أكثر من مرة، لكنه لم ينجُ من مؤامرات خصومه. سُجن عدة مرات، وفي السجن ألّف بعض كتبه الفلسفية.

3- سنواته الأخيرة

استقر في أصفهان في حماية الأمير علاء الدولة، حيث أكمل أهم مؤلفاته. وتوفي عام 1037م (428هـ) عن عمر ناهز 57 عامًا، ودُفن في همذان.

image about ما لا تعرفه عن ابن سينا

رابعاً : مؤلفات ابن سينا

ألّف أكثر من 240 كتابًا ورسالة في الطب والفلسفة والرياضيات والفلك والمنطق والموسيقى. ومن أبرز مؤلفاته:

1- في الطب

القانون في الطب: موسوعة طبية ضخمة من خمسة مجلدات، تُرجم إلى اللاتينية وظل المرجع الأساسي في الجامعات الأوروبية حتى القرن السابع عشر. تناول فيه تركيب الجسم البشري، الأمراض وطرق علاجها، العقاقير، والجراحة.

الأدوية القلبية: بحث في أمراض القلب وعلاجاتها.

2- في الفلسفة

الشفاء: موسوعة فلسفية علمية تشمل المنطق والطبيعيات والإلهيات.

النجاة: ملخّص لفلسفة الشفاء.

الإشارات والتنبيهات: من أدق كتبه الفلسفية وأكثرها تأثيرًا.

3- في العلوم الأخرى

كتب في الرياضيات: الجبر والهندسة.

كتب في الفلك: شرح حركة الكواكب وانتقد بعض نظريات بطليموس.

كتب في الموسيقى: نظرية الألحان وعلاقتها بالنفس.

خامساً: فلسفة ابن سينا

1- نظرية الوجود

ميّز بين الواجب الوجود (الله) والممكن الوجود (المخلوقات). اعتبر أن الله هو العلة الأولى للوجود.

2- النفس

رأى أن النفس جوهر مستقل عن الجسد، وأنها خالدة بعد الموت. قدّم حججًا عقلية على خلود الروح.

3- المعرفة

اعتبر أن المعرفة تبدأ بالحواس، لكنها تكتمل بالعقل والتجريد.

سادساً : إسهاماته الطبية

1. شرح الدورة الدموية الصغرى قبل ابن النفيس بقرون، لكن بتفصيل أقل.

2. فرّق بين العدوى والأمراض غير المعدية.

3. وصف أكثر من 700 دواء.

4. استخدم التخدير بالاستنشاق قبل العمليات.

5. اهتم بالطب النفسي، وربط بين النفس والجسد.

سابعاً: تأثير ابن سينا في الغرب

تُرجم القانون في الطب إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر.

ظل يُدرّس في جامعات باريس وأوكسفورد ومونبلييه حتى القرن السابع عشر.

أثّر في فلاسفة الغرب مثل توما الأكويني وديكارت.

اعتُبر همزة وصل بين الفلسفة اليونانية والفكر الأوروبي الوسيط.

ثامناً: النقد والجدل حوله

بعض علماء المسلمين انتقدوه بسبب آرائه الفلسفية التي اعتبروها مخالفة للعقيدة، خاصة في مسائل مثل قِدم العالم.

الغزالي خصص جزءًا من كتابه تهافت الفلاسفة للرد عليه.

مع ذلك، ظل له مكانة عالية بين العلماء كطبيب وفيلسوف.

تاسعا: دروس مستفادة من سيرة ابن سينا

1. المثابرة في طلب العلم: بدأ صغيرًا وحفظ القرآن مبكرًا، ثم غاص في العلوم حتى صار موسوعيًا.

2. الابتكار والتجريب: لم يكتفِ بالنقل عن السابقين، بل أضاف وأبدع.

3. العلم سلاح البقاء: رغم الاضطرابات السياسية، ظل العلم إرثه الباقي.

4. العقل والحكمة: جمع بين الدين والفلسفة، وبين العقل والوحي.

الخاتمة

ابن سينا ليس مجرد اسم في كتب التاريخ، بل هو رمز خالد للعقل المسلم المبدع. جمع بين الفلسفة والطب، بين النظرية والتجربة، بين الشرق والغرب. ترك إرثًا علميًا لا يزال موضع دراسة وإعجاب حتى اليوم. ولو لم يترك سوى كتابه "القانون في الطب"، لكفاه أن يكون من أعظم علماء الإنسانية. لكن جمعه بين الفلسفة والطب جعله شخصية استثنائية، تمثل ذروة الإبداع الفكري في الحضارة الإسلامية.

 

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

14

followings

9

followings

5

similar articles
-