خفايا أبشع مذبحة في القرن التاسع عشر

خفايا أبشع مذبحة في القرن التاسع عشر

Rating 0 out of 5.
0 reviews

مذبحة القلعة: نهاية المماليك وبداية الدولة الحديثة

المقدمة

تُعد مذبحة القلعة واحدة من أهم الأحداث الفاصلة في تاريخ مصر الحديث، وهي ليست مجرد حادثة دامية وقعت في يوم واحد، بل كانت نقطة تحول غيرت مسار السلطة والسياسة في البلاد لقرون تالية. فقد وقعت في الثاني من مارس عام 1811م داخل قلعة صلاح الدين الأيوبي بالقاهرة، حين دبّر محمد علي باشا، والي مصر آنذاك، خطة محكمة للقضاء على نفوذ المماليك الذين ظلوا لقرون القوة العسكرية والسياسية الأبرز في مصر.
لقد ارتبطت هذه المذبحة بظروف داخلية وخارجية متشابكة، فمن جهة كان المماليك يمثلون تهديدًا مباشرًا لحكم محمد علي، ومن جهة أخرى كان على الوالي أن يثبت ولاءه للسلطان العثماني الذي أوكل إليه مهمة إرسال جيش لمحاربة الحركة الوهابية في الجزيرة العربية. بين هذه المعادلات المتناقضة، وجد محمد علي في المذبحة الحل النهائي الذي مكنه من الانفراد بالحكم والشروع في بناء دولته الحديثة.

خلفية تاريخية: المماليك بين القوة والانحدار

ظهر المماليك في مصر منذ القرن الثالث عشر الميلادي، واستطاعوا أن يؤسسوا سلطنة قوية امتدت لأكثر من قرنين. كان نظامهم قائمًا على الاعتماد على المماليك، وهم عبيد يُجلبون صغارًا من القوقاز وآسيا الوسطى، ثم يُدرَّبون ليصبحوا فرسانًا ومحاربين مهرة. ومع مرور الزمن، أصبحوا هم الحكام الفعليين للبلاد، وأسسوا دولتهم التي استمرت حتى دخول العثمانيين إلى مصر عام 1517م.
ورغم سقوط دولتهم رسميًا على يد السلطان العثماني سليم الأول، فإن المماليك احتفظوا بنفوذ كبير في مصر، حيث بقوا قوة عسكرية واقتصادية لا يُستهان بها. كانوا يسيطرون على الأراضي الزراعية، ويفرضون نفوذهم على الأهالي، ويتدخلون في شؤون الولاة العثمانيين الذين حكموا مصر.
وحين ظهر محمد علي في المشهد السياسي بعد خروج الحملة الفرنسية سنة 1801م، وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع هذه الطبقة العسكرية المتجذرة، التي رأت فيه منافسًا خطيرًا. وعلى الرغم من محاولاته المتكررة لاستمالتهم بالهدايا والمناصب، فإنهم ظلوا يتآمرون ضده، ما جعله يفكر في التخلص منهم جذريًا.

محمد علي ومشروعه السياسي

كان محمد علي، الألباني الأصل، قائدًا عسكريًا طموحًا جاء إلى مصر ضمن فرق الجيش العثماني. وبفضل ذكائه ودهائه السياسي، تمكن من كسب ثقة زعماء الشعب المصري من العلماء والمشايخ، الذين رأوا فيه الرجل القادر على تحقيق الاستقرار بعد سنوات من الفوضى التي أعقبت خروج الفرنسيين. وفي عام 1805م، بضغط من زعماء الشعب، عُيِّن واليًا على مصر.
منذ اللحظة الأولى لحكمه، أدرك محمد علي أن مشروعه لتأسيس دولة قوية لا يمكن أن ينجح في ظل وجود المماليك، فهم يشكلون خطرًا دائمًا على استقرار حكمه. كما أن السلطان العثماني كان ينظر بريبة إلى قوة المماليك، ويخشى من عودتهم إلى السلطة. لذا، وجد محمد علي نفسه أمام فرصة تاريخية للتخلص منهم وإرضاء السلطان في الوقت ذاته.

الظروف الممهدة للمذبحة

في عام 1811م، أصدر السلطان العثماني أمرًا لمحمد علي بإرسال جيش مصري إلى الحجاز لمحاربة الوهابيين الذين هددوا نفوذ الدولة العثمانية في الجزيرة العربية. ورأى محمد علي في هذا التكليف فرصة ذهبية؛ فخروج الجيش إلى شبه الجزيرة العربية يعني أنه سيترك القاهرة خالية من قواته، وهو ما قد يغري المماليك بالانقلاب عليه. لذلك قرر أن يسبق الأحداث ويقضي عليهم قبل إرسال الجيش.
لهذا الغرض، دعا محمد علي كبار أمراء المماليك وأكثر من 400 منهم لحضور احتفال رسمي في القلعة بمناسبة خروج الجيش إلى الحجاز. كان الاحتفال في ظاهره تكريمًا للمماليك ومشاركة في حدث وطني، لكنه في باطنه كان كمينًا محكمًا للتخلص منهم.

تفاصيل المذبحة

في صباح يوم الثاني من مارس 1811م، احتشد المماليك بملابسهم الفاخرة وخيولهم المهيبة في موكب مهيب داخل القلعة. ساروا في صفوف منظمة عبر الممر الضيق المعروف باسم "ممر ساحة القلعة"، بينما كان الجنود الألبان والعثمانيون يتمركزون على جانبي الطريق.
بمجرد دخول المماليك إلى الممر وإغلاق الأبواب خلفهم، أعطيت الإشارة، فانطلقت النيران عليهم من كل جانب. ارتبك المماليك ولم يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم بسبب ضيق المكان، فقتل معظمهم في لحظات قليلة. حاول البعض الفرار، لكن الأبواب كانت مغلقة بإحكام. ومن نجا من الرصاص، لاحقه الجنود في شوارع القاهرة حتى قضوا عليه.
ويُروى أن عدد القتلى تجاوز 400 مملوك، ولم ينجُ منهم سوى قلة قليلة، أبرزهم الأمير أمين بك، الذي اشتهر بقفزته الأسطورية بجواده من فوق سور مرتفع للقلعة، ليهرب من الموت المحقق. وظل هذا المشهد حاضرًا في الذاكرة الشعبية المصرية كرمز للبطولة الفردية وسط كارثة جماعية.

النتائج المباشرة

أدت المذبحة إلى القضاء النهائي على نفوذ المماليك في مصر. فبعد قرون طويلة كانوا فيها القوة العسكرية والسياسية الأولى في البلاد، انتهى وجودهم السياسي في لحظة واحدة. لم يعد لهم قدرة على التآمر أو المنافسة، وأصبح الطريق ممهدًا أمام محمد علي للانفراد بالسلطة دون منازع.
كما عززت المذبحة مكانة محمد علي أمام السلطان العثماني، الذي رأى فيه واليًا مخلصًا استطاع أن يخلّص الدولة من صداع المماليك المتكرر. وبذلك حصل محمد علي على دعم سياسي قوي من الدولة العثمانية، ما ساعده على ترسيخ حكمه.

النتائج البعيدة المدى

بالتخلص من المماليك، فتح محمد علي الباب أمام تنفيذ مشروعه الطموح لبناء دولة حديثة. فقد أعاد تنظيم الجيش على أسس جديدة تعتمد على التجنيد الإجباري وتدريب المصريين بدلاً من الاعتماد على المماليك. كما اهتم بتطوير الزراعة والصناعة، وأرسل البعثات العلمية إلى أوروبا، ما جعل مصر في عهده نموذجًا للتحديث في المنطقة.
ومع ذلك، فإن وحشية المذبحة ظلت محل جدل بين المؤرخين. فبينما يرى البعض أنها كانت ضرورة سياسية لتثبيت حكمه وحماية مشروعه الإصلاحي، يرى آخرون أنها كانت عملاً دمويًا يفتقر إلى الإنسانية، وكان بالإمكان إيجاد حلول أقل قسوة.

الخاتمة

إن مذبحة القلعة ليست مجرد حادثة عابرة في تاريخ مصر، بل هي لحظة فارقة أنهت عصر المماليك الطويل وفتحت الطريق أمام محمد علي ليؤسس دولته الحديثة. ورغم قسوتها، فقد ساهمت في تغيير مسار التاريخ المصري، حيث انتقلت السلطة من طبقة عسكرية مغلقة إلى يد حاكم طموح استطاع أن يضع مصر على طريق الإصلاح والتحديث.
وبينما تظل المذبحة رمزًا للدموية والخداع السياسي، فإنها أيضًا تعكس طبيعة الصراع على السلطة في ذلك العصر، حيث كانت القوة هي الوسيلة الأولى والأخيرة للبقاء. وبذلك تبقى مذبحة القلعة علامة بارزة في التاريخ، تحمل في طياتها دروسًا عن السياسة والسلطة والدهاء.

image about خفايا أبشع مذبحة في القرن التاسع عشر
comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

2

followings

6

followings

8

similar articles
-