
"جواب من قلب المجاعة: رسالة امرأة مصرية تكشف أسرار الشدة المستنصرية"
"رسالة من قلب المجاعة: جواب امرأة لزوجها التاجر في زمن الشدة المستنصرية"
---
مقدمة:
في أواخر القرن الحادي عشر، وبين جدران القاهرة العتيقة، كانت امرأة بسيطة تجلس في ركن بيتها المتهالك، تمسك بقلبها المثقل خوفًا واشتياقًا، وتُملي كلماتها على ابنها أو أحد أقاربها. كلمات ليست عادية، بل شهادة حية من زمن المجاعة الكبرى، الشدة المستنصرية (١٠٦٤ – ١٠٧١م)، حين تحولت القاهرة إلى مسرح للفوضى، وصار الخطف في وضح النهار، والجوع يلتهم أجساد الناس قبل أن تلتهمهم أنياب البشر.
هذه الرسالة، المحفوظة في جنيزا كنيس بن عزرا بالقاهرة، ليست مجرد خطاب عاطفي بين زوجة وزوجها التاجر "أبو ذكري بن سيجمار" المتغرب في الإسكندرية، بل نافذة نادرة على تفاصيل الحياة اليومية في واحدة من أحلك الفترات في تاريخ مصر.
ما هي الجنيزا؟
كلمة "جنيزا" مأخوذة من "الجنازة"، لكنها ليست مقابر للبشر بل للأوراق. عند اليهود، أي ورقة كُتب عليها اسم الله لا يجوز رميها، فكانوا يدفنونها. وبهذا تراكمت عشرات الآلاف من الوثائق التي أصبحت كنزًا تاريخيًا، يضم عقود زواج، قوائم جهاز، نصوص دينية، ورسائل شخصية، كُتبت بين الفاطميين والمماليك والعثمانيين وصولًا للقرن التاسع عشر.
ومن بين أكثر من ٢٠٠ ألف وثيقة، خرجت إلينا هذه الرسالة من عام ١٠٧٠م، في ذروة الشدة المستنصرية.
---
بداية الرسالة: الاشتياق والغياب
تكتب الزوجة:
"وصل كتابك أطال الله بقاءك وأدام عزك وتأييدك، وعن شوق إليك، جمع الله بيننا على أسر حال."
كلمات دافئة، على الرغم من كل ما حولها من موت وجوع. هي تفتتح رسالتها بالاشتياق لزوجها، تتمنى له السلامة والعودة.
لكن سرعان ما يكشف النص عن مأساة الواقع. تقول:
"ولولا ما تعلمه لكنت صحبت بيت دوسا، وقد ذكر أنهم خارجين، ولا أدري يتم أم لا، وبقيت متحيرة، ولا يتم أن أكون في بلد وأنت في آخر، ولا تسأل ما أقسى من الذي تعرف."
هنا يظهر حدث تاريخي مهم: هجرة العائلات من القاهرة هربًا من المجاعة. عائلة "دوسا"، من أكبر العائلات وأغناها، قررت الرحيل. والزوجة بين خيارين: البقاء والخوف من الجوع والخطف، أو الرحيل لتتفرق عن زوجها.
---
الفتنة والفوضى: المشارقة والمغاربة
تواصل حديثها:
"وقعد سيدي في الدكان، وحاله الذي تعرف ويطلب ما لا يقدر عليه، وهو عندي، ونقب علينا المشارقة وأخذوا منا ويبتين قمح من الذي اشتريت لنا لأن الناس احترقوا."
المشهد صادم: بيت يُقتحم، متجر يُنهب، و"المشارقة" – وهم الجنود الأتراك في جيش الفاطميين – يتحولون إلى قطاع طرق.
لفهم ذلك، نعود إلى "فتنة المشارقة والمغاربة". بعد وفاة المعز لدين الله، وتولي العزيز بالله، جُلب الأتراك إلى الجيش، ما أثار غضب البربر (المغاربة). ومع تولي المستنصر بالله – وكان طفلًا – استغلت أمه "رصد" (وهي جارية نوبية) سلطتها لتعيين جنود سودانيين. انقسم الجيش: الأتراك والمغاربة ضد السودانيين. النتيجة: فوضى، جنود يسرقون ويقتلون في الطرقات.
---
غلاء الأسعار وجشع التجار
تقول الزوجة:
"وبلغ التليس ثلاثين، والدور تنقب على الناس، وأنا ضيقة الصدر خائفة، وجواري كثير قد هربوا مع العرب، وخرجت امرأة خالي وبنتها، وناس كثير، وقطع عليهم، ونحن على الهالك إن خرجنا أو قعدنا إلى شيء يرحم الله."
التليس (شوال القمح) وصل إلى ثلاثين دينارًا. تخيل! قبل المجاعة كان رطلان من الخبز بدرهم واحد، أما في ذروة الشدة وصل الرغيف إلى خمسة عشر دينارًا. السبب؟ جشع التجار الذين أخفوا مخزونهم لبيع القمح بأضعاف مضاعفة لاحقًا.
المرأة هنا عالقة: إن خرجت خُطفت، وإن بقيت ماتت جوعًا.
---
ضياع المؤن وانقطاع الطريق
تكتب بلهفة:
"وذكرت أنك أنفذت السكر والورد المربى، وما وصل لي شيء."
انقطع الطريق بين القاهرة والإسكندرية. ما يرسله الزوج من مؤن يتعرض للسرقة أو المصادرة قبل أن يصل إليها.
وتروي مأساة أخرى:
"وأنفذ صاحب المشارقة الديباج يطلبه، ووكل على والدي، وادعى أن ثمنه ثلاثون دينارًا، حتى أخذه الريس أبو ذكري وسلمه لابن الظهير، وجمع كل ما قدر يأخذ معه خمسة دنانير، ولولا الريس ما أن قد أخذه بلا شيء، وقد تسلمها الحبر أبو الفضل وهو مطالب لوالدي بقيمته، فأسأل مولاي أن يكتب يعلمه أن الذي له عليه خمسة دنانير."
ديباج – قماش فاخر من الحرير – يتحول إلى أداة ابتزاز. أبوها مديون بخمسة دنانير، ورجال "المشارقة" يطالبون بثلاثين. بلطجة صريحة تحت حماية "الحبر" (الحاخام) الذي يقوم بدور القاضي.
---
هروب الوزراء... وضياع الدولة
في فقرة أخرى تصرخ بمرارتها:
"وفي اليوم خرج دوسا وجميع أهله معه، وأن الوزير اليوم ابن أخي علي بن أعشى، وقد انفذوا جميع الوزراء، لم يبق في البلد منهم واحد، ونحن تحت حمس ورعب، التليس خمسة وعشرون، الخبز بأربعة ونصف رطل، والخطف بنهار."
الوزراء هربوا تاركين القاهرة للخراب. كل وزير جمع ما استطاع من أموال وهرب. المدينة تُركت للفوضى. أما العامة فصاروا تحت رحمة العصابات. الخطف لم يعد ليلًا فقط، بل في وضح النهار: "الخطف بنهار."
الغاية لم تعد السرقة فقط، بل أحيانًا الأكل الحرفي للبشر. أقسى صور المجاعة.
---
ختام الرسالة: الحب وسط العاصفة
رغم الرعب، ورغم أن الموت يحيط بها، تختم الزوجة رسالتها بحنان إنساني مؤلم:
"ما أوحشه من عيد عيدنا لغيبتك، ختمه الله عليك باليمن والسعادة والعافية، وبلغك ما تؤمله إن شاء الله."
وتضيف:
"قرأت عليك السلام، ووالدي يخصك بالسلام، وولع تقبل يدك، وسالمة وست أبو السرور يقرئونك السلام."
سلامات ومحبة وسط الجوع والدمار. قلب امرأة يصر على أن يظل بيتها متماسكًا حتى لو انهارت الدولة كلها.
---
الرسالة كوثيقة حيّة
هذه الرسالة ليست مجرد نص تاريخي، بل شهادة حيّة، تُغنينا عن أي وصف سينمائي مبالغ فيه. هي تنقل لنا:
غلاء الأسعار المرعب.
الفوضى الأمنية.
هروب الوزراء والأعيان.
جشع التجار.
عجز الناس بين الخوف من الخطف والجوع.
وبالأخص: كيف عاش الفرد البسيط وسط انهيار كامل لمؤسسات الدولة.
---
خاتمة: صوت من الماضي
ربما لم يصل رد الزوج، وربما لم ترَ الزوجة جوزها بعدها. لكن رسالتها وصلت إلينا بعد ألف عام، لتقول: هنا عاشت امرأة، أحبّت زوجها، وكتبت له وسط المجاعة، فصار صوتها شاهدًا على زمن "أكل فيه الناس بعضهم".
