اتهامات الدولة العثمانية
اتهامات الدولة العثمانية

تُعدّ الدولة العثمانية من أكثر الدول التي نالت نصيبها من الاتهامات التاريخية، سواء من خصومها السياسيين أو من بعض المؤرخين المتأخرين الذين اعتمدوا على مصادر أوروبية أو روايات مشبوهة. ومن أبرز هذه الاتهامات ما يُقال عن السلطان محمد الفاتح – فاتح القسطنطينية وأحد أعظم قادة الإسلام – بأنه قتل أخاه الصغير بعد وفاة والده السلطان مراد الثاني. هذه التهمة، رغم شيوعها في بعض الكتب والمقالات، تفتقر إلى الأدلة القطعية وتعتمد على روايات مضطربة لا تصمد أمام التمحيص التاريخي.
تبدأ القصة المزعومة عند انتقال الحكم إلى السلطان محمد الفاتح سنة 1451م، إذ يزعم بعض المؤرخين أن السلطان أمر بقتل أخيه الرضيع "أحمد" أو "مصطفى" خشية أن ينازعه العرش في المستقبل. غير أن أول ما يثير الشك في هذه الرواية هو غياب أي ذكر لها في المصادر العثمانية المعاصرة لتلك الفترة، سواء في سجلات القصر أو في مؤلفات المؤرخين الرسميين للدولة، مثل عاشق باشا زاده أو طاشكوبري زاده. جميع هؤلاء ذكروا تفاصيل دقيقة عن حياة السلطان وإنجازاته، ولكنهم لم يوردوا شيئاً عن حادثة من هذا النوع، وهو ما يجعل احتمال وقوعها ضعيفاً للغاية.
كما أن هذه القصة ظهرت أول مرة في كتابات مؤرخين غربيين بعد قرون من وفاة الفاتح، مثل المؤرخ الإيطالي "كريتوبولوس" الذي كتب سيرته للفاتح بروح من المبالغة والخيال، متأثراً بالصراع الديني والسياسي بين أوروبا والعثمانيين. وغالباً ما استُخدمت هذه الرواية كأداة لتشويه صورة الفاتح وتصويره كحاكم دموي يبرر أفعاله باسم الدين، في محاولة لتقويض إنجاز فتح القسطنطينية الذي كان ضربة قوية للمسيحية الشرقية آنذاك.
من الناحية القانونية والدينية، لم يكن هناك في عهد محمد الفاتح أي نص أو تقليد عثماني يجيز قتل الإخوة. إن المادة التي اشتهرت لاحقاً باسم "قانون قتل الإخوة" لم تُدرج في النظام العثماني إلا بعد قرن تقريباً، في عهد السلطان محمد الثالث (1595م)، أي بعد أكثر من مئة وأربعين سنة من وفاة الفاتح. وبالتالي، فإن نسب هذا الفعل إليه هو خلط زمني واضح، لا يمكن تبريره إلا بجهل بالتسلسل التاريخي أو بتعمد التشويه.
كذلك، تُظهر شخصية محمد الفاتح واهتمامه بالعلم والعمران والفكر الإسلامي أن مثل هذا الفعل لا ينسجم مع طبيعته أو تربيته. فقد كان محاطاً بعلماء كبار مثل الشيخ آق شمس الدين، وكان يلقّب بـ"السلطان العالم"، واشتهر بالعدل والانضباط العسكري والاحترام الكبير للعلماء والرعية. فكيف يعقل أن يُقدم شخص بهذه الصفات على قتل طفل رضيع لم يهدده بعدُ في ملكه؟
ختاماً، يمكن القول إن تهمة قتل السلطان محمد الفاتح لأخيه الأصغر ليست سوى فرية تاريخية خالية من البرهان، رُوّجت في سياق العداء السياسي والديني بين الغرب والعثمانيين. إن إنصاف التاريخ يقتضي العودة إلى المصادر الأصيلة وعدم الاكتفاء بنقل اتهامات متوارثة دون نقد أو تحليل. ولعل ما أثبته الفاتح من عظمة في فتح القسطنطينية، ومن بناء حضارة امتدت قروناً، أكبر دليل على أن شخصيته كانت أسمى من أن تُلطّخ بمثل هذه الأكاذيب.
المصادر والمراجع التاريخية:
- عاشق باشا زاده، تاريخ آل عثمان، تحقيق نجاتي لوغال، دار الثقافة التركية، إسطنبول.
- طاشكوبري زاده، الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية، تحقيق أحمد صقر، القاهرة، 1943م.
- إينالجيك، خليل، الدولة العثمانية: التاريخ والحضارة، ترجمة محمد حرب، دار الهدى، القاهرة.
- أحمد آق كوندوز، السلطان محمد الفاتح: فاتح القسطنطينية وقيم الحضارة الإسلامية، إسطنبول، 2009م.
- كريتوبولوس من إمبروس، تاريخ محمد الفاتح (ترجمة إنجليزية: Cambridge University Press، 1954م) – مع نقد تحليلي لموثوقية رواياته.
- أوزتونا، يلماز، تاريخ الدولة العثمانية، دار الهدى، إسطنبول، 1988م.