ابن بطوطة من القاضي إلى الأسطورة: اليوم الذي غيّر فيه فقيه طنجة وجه التاريخ (1325م)
طنجة المرينية: الوراثة والقدر المحتوم
في عام 703 هـ (1304م)، وُلد محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي في مدينة طنجة المغربية (تحت حكم الدولة المرينية). لم يكن قدراً عادياً؛ فقد نشأ في بيت عريق اشتهر بـالفقه والقضاء.
كان طريق الحياة مرسوماً لابن بطوطة: أن يرث مهنة عائلته، ويُصبح أحد الفقهاء المالكيين في زمن كانت فيه المعرفة الشرعية أعلى مراتب السلطة الفكرية. تلقى الشاب تعليماً دينياً مكثفاً، جعله مُلماً بأصول الشريعة وعلومها، وهو السلاح الذي سيستخدمه لاحقاً "جواز سفر" لعبور الممالك.
لكن طنجة، المدينة الساحلية المفتوحة على الأندلس، كانت تزرع في داخله بذرة فضول نحو ما هو أبعد من مجالس القضاء.
باللون الأحمر مدينة طنجة على الساحل المغربي
المصدر: نبلاء وقضاة لواته: هذه هي خلفية ابن بطوطة العائلية التي تشير إليها المصادر التاريخية.
🚪 القرار المصيري: يوم 2 رجب 725 هـ
لم يكن الحج في القرن الثامن الهجري رحلة سياحية، بل كان قراراً جريئاً وطريقاً محفوفاً بالمخاطر يستغرق سنوات. في يوم الخميس، الثاني من رجب عام 725 هـ (الموافق تقريباً 14 يونيو 1325م)، اتخذ ابن بطوطة قراراً سيسجله التاريخ:
"رحلتُ من طنجة، مسقط رأسي، منفرداً عن رفيق آنس بصحبته، وراكب أكون في جملته، معتمداً حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم."
المصدر: (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) – الذي دوّنه محمد بن جُزَي الكلبي بإملاء ابن بطوطة.
كانت دوافعه ثلاثية الأبعاد: الحج (الواجب الديني)، والعلم (الرغبة في ملاقاة كبار العلماء في المشرق)، والمغامرة (الشوق لغرائب البلاد وعجائب الأسفار). بهذا القرار، أسقط القاضي الشاب رداءه، ليرتدي عباءة الرحالة العظيم.
🐪 المسار الأول: تحديات المغرب الأوسط
بدأت رحلة ابن بطوطة البرية عبر شمال أفريقيا، وهي مرحلة تُعرف بـ "المغرب الأوسط" (الجزائر وتونس حالياً). لم تكن البداية سهلة:
العزلة والمرض: انطلق وحيداً، وكما ذكر في رحلته، أصابه مرض شديد في طريقه بالقرب من تلمسان (غرب الجزائر)، ولكنه رفض العودة، قائلاً: "بل أمضي في طريقي". كانت هذه أولى شواهد الصبر والمثابرة التي ميزت رحلته لاحقاً.
استئناف الرحلة والدعم: بعد عبور مدن مثل بجاية، وصل إلى تونس، التي كانت مركزاً تجارياً وحضارياً هاماً تحت حكم الدولة الحفصية. هنا، انضم إلى قافلة كبيرة من الحجاج، مما وفّر له الأمن، وفي مدينة صفاقس، تزوج للمرة الأولى، إيذاناً ببدء حياته كمسافر دائم.
سلاح الفقه: بصفته فقيهاً، كان ابن بطوطة يستفيد من نظام الإقامة والضيافة المتاح لطلاب العلم والفقهاء في الزوايا والمدارس، وهو ما كان يقلل من عبء النفقات، ويفتح له أبواب الحكام والوجهاء.
🌊 وداع الغرب والعبور إلى بوابة الشرق
بعد خروجه من إقليم طرابلس (ليبيا حالياً)، كان ابن بطوطة على مشارف مصر. هذا البلد كان يمثل نقطة تحول كبرى، حيث سيواجه تعقيدات الحياة السياسية والتنظيمية في أهم دولة إسلامية آنذاك، تحت حكم سلاطين المماليك.
مع عبوره الحدود نحو الإسكندرية، كان الفقيه الطنجي قد تحوّل بالفعل: لم يعد طالباً للحج فحسب، بل صار مستكشفاً شغوفاً، جاهزاً لتسجيل أغرب ما يراه وأعجب ما يسمعه.
في المقال التالي، سنتبع خطى ابن بطوطة بالتفصيل في مصر، من الإسكندرية الصوفية إلى القاهرة المكتظة، وكيف اضطر لتغيير مساره بشكل مفاجئ بعد وصوله!
المصادر
المصدر الأساسي: ابن بطوطة، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار (رحلة ابن بطوطة). (المصدر المباشر لتاريخ الانطلاق والاقتباس).
الموسوعات التاريخية: المقالات والدراسات التي اعتمدت على الرحلة لتوثيق سيرته، مثل دراسات المؤرخين المختصين بتاريخ الرحلات الإسلامية.