حارس الأقصى المنسي

حارس الأقصى المنسي

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

حارس القدس الأخير: قصة العريف حسن.. الجندي العثماني الذي بقي مرابطاً 55 عاماً

في عام 1972، وبينما كانت الشمس تلقي بأشعتها الذهبية على قبة الصخرة المشرفة في القدس، كان الصحفي والمؤرخ التركي إلهان بارداكجي يتجول في باحات المسجد الأقصى. لم يكن يعلم أن زيارته الروتينية تلك ستكشف النقاب عن واحد من أغرب وأعمق أسرار الحرب العالمية الأولى، سرٌ تجسد في رجل عجوز يقف كالتمثال، يرتدي بزة عسكرية مهترئة، ويحمل على كتفيه عبء نصف قرن من الانتظار.

لقاء غير متوقع في باحات الأقصى

لفت انتباه بارداكجي رجل طاعن في السن، يقف بانتصاب عسكري مهيب في الفناء الثاني للمسجد الأقصى. كانت ملامحه تحمل قسوة السنوات، وثيابه العسكرية القديمة والمرقعة بعناية تشير إلى زمنٍ ولى وانقضى. اقترب الصحفي منه بدافع الفضول المهني، وألقى عليه التحية باللغة التركية قائلاً: "السلام عليكم يا عم".

كانت المفاجأة عندما رد العجوز بصوت متهدج لكنه حازم، وبلغة تركية أناضولية سليمة: "وعليكم السلام يا بني". ذُهل بارداكجي، فكيف لرجل في القدس المحتلة أن يتحدث التركية بهذه الطلاقة؟ سأله بلهفة: "من أنت يا عم؟ وماذا تفعل هنا؟".

"أنا العريف حسن".. الشاهد على الانسحاب الكبير

بصوت يشبه صوت التاريخ العائد من الموت، أجاب العجوز معرفاً عن نفسه بتسلسل عسكري دقيق:

"أنا العريف حسن، من الفيلق العشرين، الفرقة السادسة والثلاثين، الكتيبة الثامنة، سرية الرشاشات الثقيلة".

عاد العريف حسن بذاكرته إلى التاسع من ديسمبر عام 1917، يوم سقطت القدس في يد الجنرال اللنبي والجيش البريطاني. في ذلك اليوم الحزين، قررت القيادة العثمانية الانسحاب من المدينة المقدسة لتجنيبها الدمار، لكنها لم تشأ أن تترك المسجد الأقصى دون حراسة رمزية تحميه من السلب والنهب حتى استتباب الأمن، أو لكي لا يُقال إن العثمانيين تخلوا عن قبلة المسلمين الأولى.

image about حارس الأقصى المنسي

الوصية والعهد: "لا تتركوا الأمانة"

روى العريف حسن لبارداكجي اللحظات الأخيرة لوداع قائده، النقيب مصطفى. جمع النقيب جنوده الثلاثة والخمسين (كان حسن واحداً منهم) وقال لهم والدموع في عينيه: "يا أبنائي، الدولة العلية في ضائقة، والجيش ينسحب. أنا مضطر للذهاب إلى إسطنبول، ولكني لا أستطيع ترك القدس بلا حراس. من أراد منكم العودة لبلاده فليفعل، ومن أراد البقاء لحراسة الأقصى فليبقَ، ولكن اعلموا أنكم ستبقون وحدكم".

قرر الجنود الثلاثة والخمسون البقاء. رفضوا العودة إلى الأناضول وفضلوا البقاء حراساً للأقصى. مرت السنوات، ومات الرفاق واحداً تلو الآخر، وبقي العريف حسن وحيداً، يداوم على نوبته يومياً في مكانه المعتاد، منتظراً عودة جيش لن يعود، ومحافظاً على العهد الذي قطعه لقائده ولله.

الرسالة الأخيرة إلى الأناضول

عندما همَّ بارداكجي بالمغادرة، أمسك العريف حسن بيده وقال له بصوت يملؤه الرجاء: "يا بني، إذا عدت إلى الأناضول، ووصلت إلى 'توكات' (مدينة تركية)، فابحث عن النقيب مصطفى. قبل يده نيابة عني وقل له: سيدي، العريف حسن الإغدرلي، رئيس مجموعة الرشاشات الحادية عشرة، ما زال قائماً على حراسته في المكان الذي تركته فيه، ولم يترك نوبته أبداً".

عاد الصحفي إلى تركيا وبحث عن النقيب مصطفى، فوجده قد توفي قبل سنوات قليلة، لكنه أوصل القصة إلى الشعب التركي عبر مقالاته، ليتحول "العريف حسن" إلى رمز للوفاء الأسطوري.

رحيل الحارس الأخير

في عام 1982، تلقى إلهان بارداكجي برقية مقتضبة من القدس تحمل خبراً واحداً: "اليوم، توفي آخر حارس عثماني للأقصى". رحل العريف حسن عن عمر ناهز التسعين عاماً، قضى منها 55 عاماً واقفاً في ساحات الأقصى، يرتدي بزته العسكرية، مؤدياً أمانته بصمت وشموخ، ليدفن في ثرى المدينة التي أحبها وحرسها حتى النفس الأخير.                                                                                                                                                                                                                                                                          وأخيرا نسأل الله أن يرحم هذا الجندي البطل وجميع سلاطين الامبراطورية العثمانية

المصادر                                                                                                                                               

مذكرات وشهادة الصحفي والمؤرخ التركي إلهان بارداكجي (İlhan Bardakçı): المصدر الرئيسي للقصة الذي التقى بالجندي وجهاً لوجه.

سجلات الجيش العثماني: التي تؤكد وجود الفيلق العشرين والكتيبة المذكورة في القدس عام 1917.

أرشيف وكالة الأناضول (Anadolu Agency): تقارير موثقة حول الحادثة.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
عمران جرار تقييم 5 من 5.
المقالات

21

متابعهم

6

متابعهم

5

مقالات مشابة
-
إشعار الخصوصية
تم رصد استخدام VPN/Proxy

يبدو أنك تستخدم VPN أو Proxy. لإظهار الإعلانات ودعم تجربة التصفح الكاملة، من فضلك قم بإيقاف الـVPN/Proxy ثم أعد تحميل الصفحة.