عماد الحق الجزء الرابع
خبايا الجبل وأسرار الخاتم 
بداية الجزء الرابع –
وما إن دنا عمادُ الحقّ من الكلب الجريح، يريد تضميد أذاه، حتى سمع الكلب يستغيث به بصوتٍ عربيٍّ فصيح ، قائلاً:
"توقّف… لا تقترب، فإنك إن دنوتَ هلكتُ على يدك
فتجمّد عماد في موضعه، وتفرّس في الظلام حوله لعلّ الصوت جاء من غير هذا الحيوان، فلم يجد أحدًا؛ بل إنّ الكلاب التي كانت تُحاصر الضعيف اختفت كأنها دخان تلاشى مع الريح.
وبينما الحيرة تتقاذفه، إذا بالكلب يختفي كما تُطفأ السراج، ويحلّ مكانه ضوءٌ ساطعٌ كأنما انشقت عنه السماء، ثم خرج من ذلك الضوء نارٌ بلا لهب، صنعت من نفسها هيئة رجلٍ من بني آدم، فوقف أمام عماد وهو يشتعل ولا يحترق.
فقال له عماد، وقد علا صوته:
“أأنت من الجن؟”
فقال الرجل/النار بصوتٍ مهيب:
“نعم… وأنا من قومٍ يعادون قومَ أبيك، ولولا ما يحيط بك من حرزٍ وقدَر، لكان دمك الآن قربانًا لمولاي. لكنك يا ابن الآدمي قد أنقذتَ جدي ومولاي من سجنٍ ظلّ فيه سنين لا تُعدّ.”
فتراجع عماد خطوتين وقال:
من هم قوم ابي ان ابي مات منذ دهر ثم سأله
“ومن هو جدك؟ وكيف خلّصته؟”
فقال:
"أنا جَلْمَارُوث بن كَسَّان، وحفيد الملك شَدّاد، ملك ملوك الجن. وقد كان قومٌ من أعدائنا يريدون اسري كما أسروا أبي،وجدي لولا أنك كسرت الحجر الأسود في الخاتم، فتحت به بابًا لم يُفتح منذ عصور، فأطلقتَ جدي من قيده، ونجوتُ أنا من الأسرعلى يدك عندما منعت عني اذى اولاك القوم الذين فروا خوفا من مامعك من حرز ، فصرتَ عدوًّا لقوم هم اقرب اليك منا
فقال عماد، وقد اضطرب قلبه:
“وما شأنُ جدّك بي؟ وكيف أكون قد خلّصته وأنا لا أعلم؟”
فقال جلماروث:
“حين وجدتَ الخاتم ووضعتَه في إصبعك، تحرّك ملكُ الملوك في سجنه، وانكسر عنه القيدُ الذي رُبط به. وما ذاك إلا لأنّ الخاتم خُتم باسمه، ولا يقدر على حمله إلا بشرٌ يختاره القدرُ بنفسه.”
قال عماد:
“وكيف أؤذي ملك الملوك أو أؤذيكم؟”
فقال جلماروث بصوتٍ أقرب إلى الهدير:
“إذا نزعتَ الخاتم من يدك ماتَ جدي… فإن حياته باتت معلّقةً به، ولك به سلطان لا يعلمه إلا القليل.”
وذاك الخاتم لا يلمسه جني اومارد اوشيطان هلك من ساعته الا قليل منهم
فرفع عماد يده وقال:
“أقسم بالله، إن أنت أعنتني في إنقاذ أصحابي من هذه الدار الملعونة، فلن أنزع الخاتم ما حييت.”
لكنّ جلماروث أطرق رأسه وقال:
"تلك الدار محرّمة على كلّ جنيٍّ لم يأذن له عَزَار بالدخول. ففيها سجنُ أبي، الملك كَسَّان، ملك مملكة الجبل. وهي. القصر الذي كان يحكم فيه مملكته ومقر حكمه وقد مات إخوتي واحدًا تلو الآخر وهم يحاولون فكّ أسره. وليس بيدنا قوّةٌ نبلغ بها ذلك، فلا بدّ لنا من بشرٍ يرفع السحر الذي ضربه عزّار على باب السجن لكن بسب السحر الذي القاه ابي على الجبل منع بني ادم من صعوده
فقال عماد:
“ولأي شيءٍ سحرَ أبوك الجبلَ ومنع الناس من صعوده؟”
فقال جلماروث:
“لأنّ عزّار كان يطلب الخاتم الذي بين أصابعك الآن. كانت نيته الحصول على قوة ملك الملوك واخضاعه ولأنّ الجنّ لا يقوون على حمله، أرسل خدمَه من البشر ليجدوه. فلما علم أبي بذلك، أنزل سحرًا على الجبل يفتك بكلّ من يدخله من بني آدم، سحرًا لا شفاء له إلا الموت. حتى من أطلقَه لا يملك له علاجًا.”
ثم أضاف بصوتٍ يزلزل الفؤاد:
“وإن كان من الجنّ من يملك أن يرفعه، فليس إلا ملك الملوك… جدّي شَدّاد.”
فقال عماد الحق، وقد ارتجف قلبه:
“إن كان خلاص أمي على يد شداد، فأنا أريد أن أقابله.”
فرد جلماروث، صوته رزينًا:
“هذا الأمر ليس بيدي، إلا إن شاء مولاي أن تلتقيك بنفسه.”
ثم شرع الجني يروي لعماد تفاصيل أسر والده، وان جنى بنت شداد هي التي غدرت به وسلمته لعزار وشرح له أن والده مسجون داخل قمقم من النحاس، في قلب قصره الذي كان يحكم فيه مملكة الجبل، وأن الساحر عزار منع كل الجن من دخول القصر، سوى حراس السجن. ومنذ أن صار الملك كسان محبوسًا، تمزقت المملكة وتشتت أهلها بسبب سحر عزار.
تعجب عماد، وقال:
“وكيف لبشر أن يمتلكوا القوة ليعلّوا على الجن كل ذلك؟”
أجابه جلماروث:
“لقد وجدت قوةً عظمى حين عثر أحد الرجال على كتاب خطّه نبي الله سليمان، فيه قسمٌ يمنح صاحبه سلطانًا على الجن. خبأه النبي في فلسطين بمكان لا يعرفه بشرٌ ولا جن، حتى أُطلع عليه أحد السحرة. ومن خلال هذا الكتاب استطاع أن يحكم الجن، وسجن جدي في الخاتم الذي بين أصابعك.”
تابع الجني سرد الحكاية منذ عهد الساحر الأعظم، حتى وصلت الكتب إلى يد عزار اليهودي. فقال عماد:
"إذا حرّرتَ أبوك.عاهدني
أن تجد دواءً لمرض أمي."
رد جلماروث، بجدية ووقار:
“ليس هذا بيدي، لكن أعاهدك أن أكون خادمك، وإن وُجد سبيل لهذا الدواء، فلن يدل عليه أحد سوى القدر.”
حين أراد عماد الاقتراب من الدار، وجد أمامه جمعًا لا يُحصى، قشعريرة تتملك كل من يراهم، يحولون بينه وبين الدار. فقال جلماروث:
“اعلم يا ابن آدم، هؤلاء القوم سيمنعونك من دخول الدار، ولو كلف ذلك حياتهم. فهلاكهم على يديك أرحم مما سيفعله بهم عزار.”
وفي تلك اللحظة، ظهر أخوه قائلاً:
"لو كان بيدي لمنعتك، لكني خادم لك، وليس لي قوة لإمراة الأمور. انتظر طلوع الضوء لتتمكن من الدخول."لان هؤلاء قوم من الجن لا يعصون امر عزار ولو في ذلك موتهم وقدامرهم بمنع احد من دخول المكان وكل من يدخل الدار هالك كان جنا اوبشر الا ماشاء الله ان ينجيه
لكن عماد، وهو يشعر بالقلق على منذر، قال:
“أخي، لم يعد الوقت للتأخر.”
رد الأخ:ان هؤلاء القوم لن يغيبو عن مكانهم الا بعد انفجار الضوء وقد كلفهم ابونا بالامر لانه
لا يريد تحرير الملك كسان من سجنه."
التفت الاخ إلى جلماروث، وقال:
“أنت في أرضنا، فكيف ستخرج منها حيًا؟”
أجاب جلماروث:
“لقد صار بيني وبين أخيك عهد.”
فقال الاخ وهذا العهد
"هوما يمنعني عن هلاكك
حين بدأ عماد يخطو نحو الدار، أمسكه أخوه وقال:
“إذا حرّرت عدو أبينا، قد ينزل عليك عقاب لا طاقة لك به.”
قال جلماروث:هل نسيت ان من في السجن هو خالك، يازهير ."
لكن عماد لم يتوقف عن السير، فاستعان زهير بأقصى طاقته ليوقّفه، لكنه فشل. وقال:
“استحلفك بالله، انتظر طلوع الضوء حين يعود هؤلاء القوم إلى بيوتهم.”
سأل عماد:
“أتعلم بالله؟”
أجاب زهير :
“الكثير من الجن يؤمنون بالله، قليل منهم لا يؤمن. وأنا هداني الله على يد عمنا.”
سأل عماد:
“ومن هو عمكم؟”
فقال ليس عمكم بل عمنا انا وانت
ثم قال
“هذا أمر لم يُؤذن لي بالإفصاح عنه.”
ثم كشف اسمه قائلاً:
“أنا زهير .”
ومع كل كشف جديد، كان غموض الأمور يزداد حول عماد. فسأل زهير:
“من هي أمك؟ وكيف يكون كسان خالك؟”
قال زهير:
“أمي هي شهلورا بنت عمران، من نسل شداد ملك ملوك الجن. كانت أسيرة عند الساحر الأعظم، وبعد موته حررها ابونا ، فعاهدته ان تكون زوجته على أن لا يتزوج غيرها من بني آدم. وقد زادت من قوته ومنحته أسرار ممالك الجن.”
قاطع جلماروث كلامه قائلاً:
“وهي التي غدرت بكثير من إخوتها، وحالفت عزار الذي قتل منهم الكثير. وحتى من يقف على سجن كسان، واحدة منهم.”
هي جنى بنت شداد
أراد عماد السير تجاه الدار، لكن زهير ازداد رهبةً ورعبًا، قائلاً:
"إن دخلت الدار، فإن أبونا سيقتلني، لأني وكلت بك حتى لا يصيبك أذى."ومنعك من فعل شيء لاايجب ان تفعله
أجاب عماد:
“لكن لي أخ في تلك الدار!”
قال زهير:
“أخوك دخل مكانًا لا يجب عليه، ومع هذا، لن يستطيع أحد من في الدار إيذاءه إلا بقدر كتبه الله له.”
اختفى جلماروث وزهير وكل القوم، وبدأت الأرض تهتز اهتزازًا شديدًا، وسمع عماد دويًا هائلًا.
وفجأة، ظهر أمامه رجل عظيم الهيئة، جسده صابته السنين لكن شبابه يحاكي بداية خلقه، وجهه فائق النور والحكمة، يرتدي قفطانًا مخمليًا خيوطه من ذهب خالص، مرصع باللؤلؤ، وعلى رأسه تاج فريد، في وسطه ياقوتة كبيرة، مرصعة بجواهر لا مثيل لها.
شعر عماد بالهيبة، ولكنه لم يشعر بالخوف.
كسر الصمت وسأل:
“هل أنت ملك، أو من الرعية؟”
فأجاب الرجل:
“أنا شداد ابن أزر ابن زاهرون، ملك ملوك الجن.”
قال عماد:
“فهذا ضني، فهذه الهيئة ليست إلا لملك عظيم.”
قال شداد:
“أنت من قوم عدو لي، لكنك عاهدتني ألا تنزع الخاتم، فلن يصيبك مني أذى.”
قال عماد الحق:
“حتى إن أردت أن أنزع الخاتم، لن أقدر، فهو كانه معي منذ خلقني الله لهذه الدنيا.”
ابتسم شداد وقال:
“لن يقدر أحد على نزعه سواك. واعلم، إن هلكت فلا أحد يستطيع أن يمنع الجن عن أذية البشر، لأنني منعتهم عنها.”
قال عماد الحق:
“أعاهدك أن لا أنزع الخاتم طالما لن ينالني شر منك.”
ثم تقدم شداد وقال:
“من يخون العهد جزاؤه الموت.”
فقال عماد ان خلاص امي من مرضها على يديك بامر الله فساعدني ايها الملك
فقال سامد لك يد العون ان دفعت مااريده من ثمن فقال لكني حطاب فقير لا املك شيء فرد وانا لا اريد مالا ولا جواهر فانا املك منها جبالا لا تحصى فقال وماتريد من ثمن فقال اريدك ان تحرر ولدي من اسره ولك ماتريد اختفى شداد من امامه وسجد عماد سجدة شكر لله لانه قد يكون وجد علاج لامه
حين أراد عماد دخول الدار،فقد احس بان الخطر يحيط باصحابه لكن غلبه النعاس فجأة، دون سبب، ذلك كان بسبب زهير الذي يمنعه عن الدخول.
وهذا ماكان من امره
أمّا ما كان من أمر أصحاب عماد الحق، فبعد أن لجؤوا إلى تلك الدار، أشعلوا نارًا يستضيئون بها، غير أنّ القلق كان يأكل قلب منذر خوفًا على صاحبه. ومع ذلك كان في صدره صوت خفي يهمس له أنّ عمادًا بخير.
☐ وحين هيأ كلّ واحد منهم موضعه لينام، كانوا يرون الدار صغيرة من الخارج، فإذا هي من الداخل طبقتان، كأنّها تكبر بمن يدخلها. تمدّد الثلاثة في مكان واحد، ووضع كلّ منهم جنبه على الأرض، فما هي إلا لحظات حتى انطفأت النار بلا سبب، فزاد خوفه. م ووحشتهم، لكن النوم غلبهم فأطبق عليهم
فزع سراج من نومه على بكاء طفل صغير، فنهض دون أن يوقظ صاحبيه، وسار خطوات قليلة حتى شعر بيد تُوضع على كتفه. التفت مذعورًا فتهيئ له انه منذر يقف خلفه. تبادلا نظرات القلق، ثم بحثا معًا عن مصدر البكاء فلم يجدَا شيئًا.
استدار سراج ليكلم منذر، فإذا منذر ليس معه! ارتعد قلبه حتى كاد يتبول في ثيابه من الخوف. هرع عائدًا إلى الموضع الذي كانوا يرقدون فيه، لكنه وجد النار قد اشتعلت وحدها، ووجد نفسه وحيدًا… فقد اختفى صاحباه.
أراد الهرب، فإذا بباب يظهر من العدم ويسد طريقه. انطفأت النار مرة أخرى، وبدأ يسمع وقع أقدام كثيرة من حوله، كأنّ الخلق تجمّعوا في الغرفة معه، إلا أنّ الظلام كان يحجب عنه كل شيء.
جلس يبكي ويرجو الله أن ينقذه، وقد فقد شجاعته كلها، ثم أحسّ بيد تلفه من الخلف وتضمه. خُيّل له أنّه ابن الأعرج، ففتح عينيه… وليته لم يفتحهما؛ إذ أضاء الغرفة نور لا يعلم له مصدر، ولا أحد بجانبه!
ارتخت مفاصله ولم يملك حبس بوله، فوقف يستغيث، لكن صوته لا يخرج؛ كأنّ أحدًا يخنقه. عندها انشق الجدار وخرج منه رجل عظيم الهيئة، أشيب الشعر، ممزق الثياب، عيناه حمراوان تتقدان كنار لم تنطفئ منذ سنين، وفي يده فأس كبيرة.
تقدم نحوه وهو يقول بصوت كالرعد:
“أما علمتَ أنّ من يدخل داري يهلك؟”
لكن سراج لم يستطع أن ينطق حرفًا. وبينما الرجل يقترب اهتزت الأرض وخرج منها مخلوق لا هو إنسان ولا حيوان. أيقن سراج أن ساعته قد حانت.
صرخ المخلوق صيحة هزت المكان وأوشك السقف أن يسقط، ثم تكلم بلسان لا يفهمه سراج. غير أن الرجل قال:
“أخي يسألك: أتحب أن أقطع رأسك بفأسي؟ أم يحرقك أخي بالنار؟”
وإذا بالنار تتصاعد من تحت المخلوق دون أن تحرقه، فسقط سراج مغشيًا عليه.
---
ابن الأعرج ومعركة الفزع
أمّا ابن الأعرج، فكان الخوف يسري في عروقه منذ اللحظة التي دخل فيها الدار. وما إن وضع جنبه للنوم وعمّ الظلام، حتى أحسّ بحصى صغيرة تُرمى على رأسه. نادى صاحبيه فلم يجبه أحد، فلما تحسس مكانهما لم يجد أحدًا… وعلم أنه وحده.
تحسس طريقه في الظلام، فوجد بابًا يمنعه من الخروج. ثم أحس بضربة حجر أكبر من الأولى، ثم ثالثة شجّت رأسه وسال الدم على وجهه، فزاد رعبه.
وفجأة جاء نور من إحدى النوافذ، فهرع إليها يريد كسرها، لكن النافذة انتقلت من موضعها إلى موضع آخر! كأنّ الدار تسخر منه.
ركض إلى الباب فوجده يفتح بسهولة، فخرج مذعورًا. وبينما يسير في الدهليز سمع أصوات رجال يضحكون من فوق الدرج، فظنها أصحابه. صعد الدرج حتى بلغ الغرفة التي صدر منها الصوت، فوجدها خاوية إلا من خيوط العنكبوت، والضوء فيها لا مصدر له.
ولمّا همّ بالخروج ظهر باب يسدّ طريقه، لا يُفتح ولا ينكسر. علم عندها أنّ الجن خطفوا أصحابه، وأن دوره قادم لا محالة.
ثم سمع صوتًا من أسفل الدرج يستغيث به. اختفى الباب من أمامه، وغرق المكان في الظلام مرة أخرى. نزل وهو يتحسس الدرج، قائلاً بينه وبين نفسه:
“صدَق عمادُ الحق… ليتني ما دخلت هذه الدار!”
ترابٌ يلطخ وجهه وثيابه، وقلبه يقرع كطبول الحرب. وفجأة… انشقت الأرض وخرج منها نور قوي، ثم خرجت منه حيّة عظيمة تملأ المكان، وفي فمها كان منذر، وهو الذي كان يستغيث به.
رأى لحم سراج قد اختفى فعلم أن الحية التهمته قبله.
كانت الحية تسحق عظام منذر في فمها، وتتكلم بكلام غريب لا يفهمه. ثم قطعت رأسه ورمت به على الأرض حتى استقر تحت قدمي ابن الأعرج، وقد ذاب الجلد عن وجهه من شدة النار في جوفها.
تكلمت الحية هذه المرة بلسان عربي وقالت:
“سآكلك كما أكلت صاحبيك… فما شبعت منهما، فهما جلد وعظم. أمّا أنت ففيك من اللحم ما يسدّ جوعي.”
ارتعش جسده حتى سقط على ركبتيه، وأجهش بالبكاء وهو يقرأ ما تيسر من القرآن. أغمض عينيه ينتظر الموت، وبعد برهة سمع الحية تقول:
“إن خرجتَ من أرضي ولم تعد إليها، أبقيتُ على حياتك.”
قال متوسلاً:
“أقسم بالله، إن خرجتُ حيًّا، لن أعود إلى الجبل ما حييت.”
غابت الحية، وعاد المكان كما كان. وقف يشكر الله، لكن ما إن أراد الخروج حتى شعر بما يلتف حول قدميه… تحسس فإذا هي ثعابين كثيرة لا عدد لها! فسقط مغشيًا عليه.
أمّا منذر، فحين وضع جنبه إلى الأرض مع صاحبيه، لم يكن قلبه مرتبطًا بالنوم، بل كان معلَّقًا بصاحبه عماد الحق الذي فرقتهما الوحوش.
كان يعلم — ويوقن — أن الله لا يضيع عبدًا صالحًا، وأن عمادًا محفوظ بسترٍ من عند الله.
لكنّ الليل إذا نزل بثقله، نزَلت معه الهواجس، فتغلغلت في صدره حتى كادت تخنقه.
وما إن انطفأت النار، وخيّم الظلام على الدار، حتى شعر منذر أن وحشة غريبة تزحف على ظهره، وأن الهواء من حوله تغيّر كأنه تنفّس مخلوقات لا تُرى. اشتدّ قلقه على عماد الحق، لكنه ما لبث أن ابتلعه النعاس كما تبتلع الأرض قطرة ماء، فنام على قلقٍ يقطع القلب.
---
لم يطل نومه؛ إذ فزع مذعورًا، وقد التفّ الظلام حوله التفاف الثوب على الجسد. لم يرَ شيئًا، لكنه سمع أصواتًا غريبة…
صوت صراع…
صوت أنفاس متقطعة…
وصوت يشبه صوت سراج وابن الأعرج!
قفز واقفًا وصاح:
«سراج! ابن الأعرج! أين أنتما؟»
لكن الظلام كان يبتلعه، كأن الغرفة لا جدران لها.
قبض منذر على مقبض سيفه وبصوته المبحوح قال:
«والله، لا ينال مني سوءٌ إلا بعد أن يتذوق هذا السيف لحم من يؤذيني.»
لكنّ رجليه لم تطاوعاه.
خوفٌ يتسلّل من أطرافه حتى بلغ صدره، وصوتٌ كأنه صهيل خيل يهدر في الغرفة.
صار يضرب يمينًا وشمالاً…
لكنّ السيف كان يشقّ الهواء وحده.
خرج يتحسس الطريق، كأن جدران الدار تغيّرت. كان ينادي صاحبيه، ولكن لا مجيب…
وحين بلغ باب الدار، ووضع كفه عليه ليفتحه، أحسّ أنه يدفع جبلًا لا بابًا.
حاول ثانية وثالثة…
فلم يتحرك الباب قدر شعرة.
رأى نافذة لم تكن موجودة.
اقترب منها، ونظر خارجها…
فكأن الظلام ينقشع قليلًا قليلًا…
ورأى ما جمد الدم في عروقه:
وحوش الجبل تحيط بعماد الحق!
كلّ واحد منها يمزّق منه جزءًا،
وهو يستغيث:
«يا منذر… يا أخي… أنقذني!»
صرخ منذر، وبكى كطفل فقد أمه، وقال للوحوش وهو يضرب على النافذة:
«اتركوه! خذوني أنا! اقتلوني بدلاً عنه!»
رفع السيف ليكسر النافذة… فانكسر السيف!
والنافذة لا تهتز.
ثم ظهر رجل عظيم، عاري الصدر، يجرّ خلفه الهلاك.
أمسك رأس عماد الحق، وها هو يذبحه كما تُذبح الشاة…
وصرخة عماد مزّقت قلب منذر.
وقع منذر على ركبتيه ولطم وجهه:
«والله، ما قتل عماد غيري… أنا دللت الوالي عليه!»
ثم صاح:
«إن مات عماد، فما لي بقاء في الدنيا!»
رفع السيف المكسور على عنقه ليذبح نفسه…
لكن يده شُلّت، وتصلّبت كأنها حجر.
سقط السيف، وسقط معه منذر على الأرض يبكي حتى خرج صوته من صدره كالنشيج.
اختفت النافذة…
وعاد الظلام يبتلع المكان مرة أخرى.
ثم بدأت حوافر خيل غاضبة تضرب الأرض حوله، وتراب سقف الدار يتساقط على رأسه.
سقط مغشيًّا عليه.
---
لم يدرِ كم مكث، لكنه استيقظ على يدٍ تتحسس رأسه.
وانشق الظلام عن مصباح ظهر من العدم،
وأمام المصباح…
مخلوق نصفه الأعلى رجل من بني آدم، وأسفله جسد حمار.
تعوّذ منذر بالله، وأخذ يتمتم بآيات يعرفها.
حاول الفرار، لكن المخلوق أمسكه بقوة لا توصف.
تكلم بصوت كالرعد المكبوت:
«لماذا دخلت أرضي واقتحمت داري من غير إذني؟»
ثم مدّ يديه:
من إحداهما خرجت نار بلا دخان،
ومن الأخرى خرج سيف يشبه برقًا مقطوعًا.
وقال:
«كيف تريدني أن أقتلك؟ أأقطع رأسك بسيفي؟ أم أحرقك بناري؟»
قال منذر بصوت متقطع:
«افعل ما شئت…»
فقال المخلوق:
«عاهدني أنك إن خرجتَ من أرضي حيًّا، لن تعود إليها.»
قال منذر بدموع الحرقة:
«والله، لن أخرج إلا أن أحيا لأجل أخي.»
صرخ المخلوق صيحة كادت الجدران تسقط معها،
واشتعلت النار في كل مكان،
وخانته أنفاسه من شدة الدخان،
ثم سقط مغشيًا عليه.
---
أمّا عماد الحق، فقد نام وهو في العراء، لا سقف فوقه ولا جدار يحيطه…
لكن حين فتح عينيه بعد طلوع الضوء، وجد نفسه على سرير وثير لم يرَ مثله قط.
نهض فزعًا…
نظر حوله…
فإذا هو في جناح ملكي داخل الدار نفسها!
نادَى أصحابه…
فلم يجبه أحد.
وتقدّم خطوة، فإذا مائدة الطعام التي رآها من قبل قد بقيت كما هي…
طعام ساخن…
رائحة تشعل الجوع…
لكن قلبه أبى أن يأكل، وذكر فقر أمه وأخواته.
وما إن همّ بالتحرك…
حتى تحركت الكراسي وحدها،
وسدّت عليه الطريق،
وأجبرته على الجلوس،
وتقدمت الأطباق إليه من تلقاء نفسها…
ثم سمع خطوات قادمة إلى داخل المكان.
نهاية الجزء الرابع
© 2025 هيثم نبيل الشرجبي. جميع الحقوق محفوظة.