" قد عاد " - قصة قصيرة

" قد عاد " - قصة قصيرة

0 المراجعات

( 1)

جلستُ وحيداً أتأملُ هذا وأنا في قمةِ دهشتي ..

 ما زال يبدو عليه الأسى رغم مرور كل تلك السنوات .. 

كيف للزمن أن يفشل هذا الفشل الشنيع في إضفاء الأُلفةِ للمشهد ! 

الشوارعُ كما كانت .. 

اللهم إلّا بعض اللافتات الجديدة بأسماءٍ لم أعهدها . 

الغطاءُ القديمُ نفسُه يغطي تلك العربة العتيقة .. 

وصندوقُ القمامةِ الأخضر الذي يتباهى باتساعه .. 

قد أتى عليه الصدأ . 

صوتُ المدافع .. 

رائحةُ البارود .. 

وهجُ الشمس ..

 جوربي الممزق الذي لا تُخفيه ثقوب حذائي ..

 أما زالت هذه المرأة حيةً تُرزق ..

 أما زال الناس لا يسلمون من لسانها ! 

كلُّ شئٍ كسابق عهده , 

يحمل العبقَ ذاتَه ! 

 

(2)

حكي لي عمي بالأمس .. 

أنهم وجدوا جثة صاحب هذا المنزل 

– أو بمعنى أدق "ما كان يوماً منزلاً " –

 بعد مرور ثلاثة أشهر وسبعة عشر يوماٍ على قصفه , 

وجدوها كما هي .. 

حتى لكأنَّه مازال يبتسم كما ألِفنَاه دوماً !

 أنا لا أُصدق مثل هذه الأوهام ..

 أدرك تماماً أن الناس في قريتنا تقتات على تلك الحكايات .. 

فهم يتجهزون لما سيملأ وقت فراغهم حين لا يجدون ما يتحدثون بشأنه , 

وقت ما تهدأُ الأحداثُ كما تهدأ كعهدها دوماً ! 

 

(3 )

حقيقةً لا أعرف لماذا قُدِّرَ لي أن أكون هنا .. 

في هذا الوقت بالذات 

حتى أحارب , لا أجيد القتال ! 

حتى أضمد , لا أجيد التطبيب ! 

حتى أساند , لست ممن تسوقهم العواطف وتلجمهم الآلام ! 

حتى أُدوِّن .. ولكني لا أجيد التعبير ! 

 

(4)

أعشق هذا الرجل .. 

رغم اختلافى معه – تقريباً – في جُلِّ آرائه .. 

كنت دائماً ما أتوارى خلف جاهه وهيبته .. 

حينما يجتاحني هذا الشعور بالغربة والوحدة أهرع الى صورته ..

 فتهبني نظرته سكينةً وطمأنينةً - لا أعرف لها سبباً ! 

كنت أتربَّعُ أمامه ,

 انصت لحكاياته التى لا تنتهي ..

 أنتقل الى عالمٍ اخر ,

 خالٍ من صلف العيش .. 

خالً من عصا أمي 

تلك العصا التي كانت لا تكف عن ضربي بها , حينما أتكاسل عن اداء مهامي كطفل في الخامسة من عمره ! 

لو كنت أملك عقلاً ومالاً وقتها ,

 كنت ابتعت مسجلاً .. 

حتى لا اضطر الآن إلى أن أعتمد على خلايا ذاكرتي التي تتلف -بلا مبرر - في تذكر الحكايا والأسلوب .. 

و في استحضار تلك الحالة التي كانت تغمرني وقتها . 

ها أنا أراه الآن .. 

ككل شئٍ حوله .. 

دار عليه الزمان دورته ..

 وقد جاوز عمره التسعين .. لا أدري ! 

شيخا مسناً هرماً اشتعل رأسُه شيباً .. 

وغزا البياض لحيته , حتى لا تكاد تفرق بينها وبين جلبابه الأبيض الناصع .

 

(5)

 ماذا يفعل هذا الرجل .. !! 

ما الذي أتى بي الى هنا .. !! 

جدي .. أما زلت تحكي كما كنت قبل عشرين عاماً لم أرك فيها ! 

أما زال صوتك يشدو بتلك الفوائد حتى يعتبر السامعون ! 

تدمر بيتُنا ..

 ومجلسك لم يمسسه سوء ..! 

مات ولدك وامرأته .. 

ضاع مالك .. 

وتشرد نسلك في بقاع الدنيا ..

 ولم تزل كما أنت .. تحكي ! 

 

(6)

لماذا يتردد الآن في أُذني هذا الصوت ُ .. 

"تعال بني , اتلُ عليّ ما حفظتَ اليوم من كتاب الله " 

" ليس هكذا تُكتبُ , وإنما هكذا فاء لام سين طاء ياء نون ..

 نعم بني اسمك ودينك ونسبك ووطنك " 

" لا لا بني , إنما هي قضية دين .. " 

 

(7)

أبي .. 

جاهدت سنين حتى أنسى لقاءنا الأخير ..

 وهاهي المشاهد – رغماً عني - تتتابع الواحد تلو الآخر .. 

ما الذي يحدث .. ! 

ما الذي أتى بي هنا ! 

" افعل ما يحلو لك بني , ولكن تذكر دائماً أنك يوماً ما لا بد وأن تعود .. 

وحين هذا اليوم تجهز , 

لا تدعهم ينسونك ما استنشقته من أريجها .. " 

" .. وقت أن أموت , أريدك أن تحمل هذا الاسم بحقه .. "

 " .. الأرض لنا .. " 

 

(8)

أبي .. 

ما زال حطام البيت محتفظا برائحةِ طيبك .. 

ما زال ما تبقى من الباب يحدث الصرير الذي لطالما أزعجك .. 

ما زال طيف أُمي يخبز العجين حتى نجلس سوياً على مائدة الإفطار .. 

وجدي مازال يحكي بحضوره .. 

ما لم يعد يحكيه بلسانه الذي تاهت منه الكلمات يوم ذهبت َ .. 

وعينيه التي خبت جذوة نظراتها بعد أن ابيضت من الحزن ! 

أبي ..

 أرسل سلامي الى أُمي ..

 قل لها : 

لقد عاد ابننا .. 

ليحارب ..

 ويضمد ..

 ويساند ..

 ويدون !

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

2

متابعين

0

متابعهم

1

مقالات مشابة