باروخ زكي مزراحي: من ملفات الجاسوسية ج٣ و الأخير
■ وقبل أن يبدأ السيد إسماعيل مكي، نائب المدعي العسكري العام المصري، تحقيقاته معه في مقر المخابرات العامة، مال نحوه، وأخبره بابتسامة هادئة، أن زوجته مارجريت قد رُزقت بمولودة أمس، وهي في حالة جيدة.. وهنا انفجر باروخ باكياً، وانهارت مقاومته ليعترف بكل شيء. ليست الأشياء المعتادة فقط بل أدق وأخطر الاشياء
● وهكذا جرت عملية اعتصار "مزراحي"حتى نزف بكل المعلومات التي في حوزته والتي أطلع عليها بحكم عمله، وتحت ضغط التحقيقات المهنية حصل المصريون على خريطة طريق تفصيلية توضح أساليب العمل والتجنيد التي تتبعها وحدة "مسادا"..توضح كيف يزرعون جواسيسهم في الدولة الهدف..أسلوب تحرك العملاء لجمع المعلومات التي تهم تل أبيب..أنماط التأمين المتبعة بداية من تكوين أسرة، مرورا بالغطاء الإجتماعي، ثم تكوين الصداقات مع قيادات عسكرية وسياسية ومدنية في الدولة المستهدفة .
■ بعد الحصول على هذه المعلومات القيمة ، أصبح باروخ مثل قطعة أسفنج جافة أو مثل ضرع نعجة ضامرة لا يروي ظمأ ولا يدر قطرة حليب واحدة ، فتم إيداعه في الزنزانة رقم (6) بالسجن الحربي ليموت كل يوم ببطء وهو يجتر ذكرياته بعد أن أدرك أن عقوبته الرادعة التي يقضيها في المعتقلات المصرية ستطول وتطول إلى ما لا نهاية خاصة بعد نصر أكتوبر ، وزاد اكتئابه بعد أن نما إلى علمه في 4 ديسمبر 73، أن المخابرات المصرية رفضت مقايضته بالعقيد السوفيتي، وضابط الكي جي بي الشهير "يوري لينوف" المعتقل في "إسرائيل" بتهمة التخابر، والتجسس لصالح المعسكر الأحمر ، كما أن مصر رفضت طلبا إسرائيليا آخر بمبادلته بمجموعة من الجنود المصريين الأسرى ولكن الجانب المصري رفض المبادلة بحجة أن مزراحي ليس جنديا أسيرا بل هو جاسوس...هذا الأمر جعل رئيس الموساد آنذاك الجنرال زفي زامير يسافر إلى واشنطون من أجل التوسط لصالح مزراحي. وفي منتصف المحادثات طلبت رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير عن طريق وزير دفاعها موشي ديان الانسحاب من المفاوضات والخضوع للرأي العام وتجاهل قضية إطلاق سراح مزراحي والتركيز على استرداد الجنود الإسرائيليين الأسرى لدى الجانب المصري. نتيجة لذلك قرر زامير تقديم استقالته من رئاسة الموساد
■ إلا أن الأيام كانت تخبئ لباروخ مفاجأة أخرى ، ففي منتصف ليلة الثالث من مارس 74، بدأت فجأة حركة غير عادية أمام باب زنزاته الضيقة..وألقى عليه السجان نظرة احتقار مخيفة أردفها بجملة واحدة: "استعد سيفرج عنك غدا يا......".وقد كانت حقا مفاجأة مذهلة ..!!
فما أن انتهى المؤذن من رفع آذان الفجر، ومع بزوغ أول ضوء للنهار تحركت من أمام بوابة السجن الضخمة قافلة سيارات تحمل لوحات دبلوماسية، زجاجها مغطى بستائر سوداء قاتمة. تقدمت الركب سيارة تحمل شعار الصليب الأحمر، واستغرقت الرحلة أربع ساعات كاملة، حتى أشرفت السيارات على شاطئ قناة السويس..وعبرت الممر المائي تدوس فوق أحد الجسور المتبقية منذ حرب أكتوبر.. وسرعان ما دلفت إلى شبه جزيرة سيناء، وبدأت تنهب الطريق نهبا ، وأخيرا توقفت السيارات أمام القاعدة العسكرية المقامة على قارعة الطريق الرابط بين العريش والقنطرة وبورسعيد ، وهناك تحت رعاية مسئولي "الصليب الأحمر" استلم رجال المخابرات المصرية 65 فدائيا سيناويا وفلسطينيا من سكان سيناء وقطاع غزة.
.
■ وقد اعترف الناطق بلسان جيش الاحتلال في بيانه الصادر في الرابع من مارس نفس العام عن هؤلاء الفدائيين : "أنهم نفذوا عمليات فدائية، وأنشطة تجسس في غاية الخطورة لصالح المصريين"، لكن ما لم يذكره البيان العسكري الصهيوني، وظل سرا لم يعلنه الجانب المصري الذي يفضل الكتمان وعدم التفاخر بإنجازاته، أن ضباط المخابرات العامة استلموا كذلك اثنين من أهم جواسيسنا، أو قل"رجالنا في تل أبيب"، وهما "عبد الرحمن قرمان"، و"توفيق فايد البطاح". اللذين يعترف كتاب "الجواسيس"الصادر حديثا في إسرائيل أنهما أكبر دليل على الفساد والفوضى في جهاز الاستخبارات الإسرائيلية، والنجاح في المخابرات العامة المصرية.
■ وقد توفي مزراحي في اسرائيل سنة 2005 بهدوء بدون أن يصدر من الحكومة الإسرائيلية أي بيان رسمي يذكر فيه العرفان والامتنان من الدولة للخدمات التي قدمها لهم طوال خدمته العسكرية كما هي العادة.
.
•• جدير بالذكر أن قصة باروخ تم تجسيدها فى عالم الدراما المصرية من خلال مسلسل "الصفعة" بطولة شريف منير وهيثم أحمد زكى وشيرين رضا ومن إخراج مجدى أبو عميرة.
تمت