الصوت الذي يحادثني

الصوت الذي يحادثني

0 المراجعات

(1)

 

   - "إياك أن تقتل نفسك! هي لا تستحق أن تهدر حياتك من أجلها.. اقتلها هي!"

    أشياء كثيرة غريبة تحدث في هذا العالم.. 

    لكن ليس من بينها أن يتصل بك شخص مجهول، ليحدثك بصوت لا تألفه، وتجده يعرف كل شيء عن حياتك، حتى التفاصيل التي لا يعرفها أحد سواك!!

***

    إنها تلك اللحظة.. حين ينفتح باب الحجرة، ويطل عليّ وجه (فينوس) الناصع، وملامحها المحددة بدقة رائعة، لا سيما عينيها السوداوين الفاتنتين، وأهدابها الطويلة..

    شعرها الأسود الفاحم يختبئ تحت المنشفة الصغيرة التي تحيط برأسها، قميص النوم الأسود القصير يبدو مثيرًا على بشرتها البيضاء المشربة باحمرار، تقف أمام المرآة لتتم زينتها، من قال إنها تحتاج إلى زينة؟ وأنا مستلق على السرير بانتظارها حين تأتي لترتمي بين ذراعيّ، وتقول لي بهمس ساحر:-

  - "هل أبطأتُ عليك؟"

    نعم يا (فينوس) أبطأتِ كثيرًا جدًا.. كان يجب أن نعيش تلك اللحظة منذ عشرين عامًا على الأقل!

    فتبتسم في نعومة مثيرة، وتستطرد بنفس النبرة الهامسة حد السحر:-

  - "لا تنزعج، سأعيدك الآن عشرين عامًا إلى الوراء!"

    ثم تنتزعني من المكان والزمان الذي أنا فيه.. وتأخذني معها حيث لا مكان.. ولا زمان..

***

    كأنها (فينوس).. جاءت من دنيا الأساطير لتعيش معي، في نفس المنزل، وفي نفس الغرفة، ونفس الفراش! كنت لا أصدق في البداية أن (فينوس) في حوزتي منذ خمسة أعوام مضت.. وأتساءل: كيف مرت تلك السنون بهذه السرعة الرهيبة! لكن مع الوقت زال هذا التساؤل، وحل محله آخر: كيف كانت حياتي قبل تلك الأعوام الخمسة؟ وهل كنت أعيش من الأساس.. 

  - "اسمي (دلال محمود) طالبة بالفرقة الرابعة"

    هكذا عرفتها أول مرة، وهكذا سمعتها تنطق اسمها وهي تخاطبني.. (دلال)! لا.. بل (فينوس).. 

    طالبة عندي.. كيف لم ألحظها قبل اليوم؟! كيف فاتني هذا الجمال الساحر؟ أنا أُدرّس بذات الجامعة منذ عشر سنوات، وقمت بالتدريس لهذه الفرقة تحديدًا للعام الثاني على التوالي، كيف لم تقع عيناي عليها قبل اليوم؟ لا يمكن أن تكون ظهرت أمامي ولم ألحظها، لا يمكن أن يفوتني هذا الوجه الساحر الآتي من دنيا الأساطير..

    أنا (علاء عبد الواحد) أستاذ القانون بالجامعة، والمحامي الكبير الذي يتولى أهم وأكبر القضايا، وزبائنه هم أعيان المجتمع، أعيش وحيدًا كذئب متفرد، لمَ لمْ أتزوج قبل ذلك؟ لا أعرف.. أعرف فقط أني انتظرت أكثر من أربعين عامًا لأحظى بـ (فينوس)، وأعرف أنها تستحق هذا الانتظار! 

    كنت أملك كل شيء يجعل الإنسان سعيدًا إلا (فينوس)، أكثر من منزل في أرقى أنحاء مصر، ومكتب ضخم يعمل به بضعة عشر محامٍ وفق إشاراتي وتوجيهاتي، معارف وصلات بأكبر المسئولين في القطاعين العام والخاص، علاقتي جيدة جدًا بالسلطة وأجهزتها ومؤسساتها، أظهر في التلفاز بين الفينة والأخرى لأتحدث في التفاصيل القانونية التي تخص قضايا الرأي العام، وآرائي دائمًا تحظى بالثقة والاهتمام، أدَرّس بالجامعة وأحصل على مئات التلاميذ كل عام، وأحصل منهم على المزيد من التوقير والإجلال والمهابة، رصيدي في المصارف المختلفة يزداد كل يوم، مهما أنفقت من أموال، لديّ أكثر من سيارة، من ماركات مختلفة، وأغلبها هدايا من زبائن أنقذتهم من السجن وكانوا يستحقونه عن جدارة، أسافر لأي مكان متى أردت، أحصل على النساء من كل الجنسيات في أي وقت.. 

    القضايا التي أتولاها نسبة ربحي لها كبيرة جدًا، ليس بسبب براعتي وحدها، هناك سر لا يعلمه أحد حتى المحامين الذين يعملون معي، أني أعقد صداقات وطيدة بعدد من القضاة، بعضهم كانوا زملاء دراسة، وكنت أساعدهم على النجاح، وكانوا يملكون الواسطة اللازمة للعمل في الهيئات القضائية بغض النظر عن مستواهم الدراسي والعقلي، يكفي أن أتحدث مع أحدهم وأعطيه رقم القضية التي أتولاها لأحصل على الحكم المناسب من قبل أن أترافع أو أطأ قاعة المحكمة أصلاً، لهذا أنا حريص على استمرار علاقتي بهم، وتقديم الرشاوي المقنَّعة إليهم في مختلف المناسبات، لست وحدي من يفعل ذلك، لكني أجيد استثماره بشكل ممتاز، دون أن يعرف أحد.. يجب أن أحتفظ بصورة المحامي البارع الذي تهتز قاعات المحاكم لصوته، وينسب الفضل في النجاح إلى عبقريته وقوة إقناعه، لا لشيء آخر.. 

    كنت أملك كل شيء إلا (فينوس)! وهي عندي تساوي كل ما أملكه.. وأكثر!

    جاءتني بصحبة بعض زميلاتها ليستفسرن عن بعض الأمور المتعلقة بالمنهج المقرر، أو الامتحانات، لتسحرني وتمضي، استغرقت وقتًا طويلًا حتى أستعيد زمام نفسي، وأستدعي (محروس) الموظف بشئون الطلاب.. طالبة بالفرقة الرابعة اسمها (دلال محمود) أريد كل شيء عنها، مائتا جنيه كافية ليكون عندي صورة كاملة من ملفها بكامل أوراقه وصوره، دون أن يعرف أحد بالأمر سوى (محروس) فقط.

    الآن يحين دور (مصطفى)، الشاب الوسيم، والمحامي حديث التخرج، الذي أرسله والده ليلتحق بالعمل بمكتبي، والده موظف بالمحكمة، يمدني بما أحتاجه من معلومات عن القضايا التي أريد معرفة أشياء عنها، بالطبع مقابل مبالغ مادية بالنسبة له كبيرة جدًا، وبالنسبة لي لا شيء، ما كنت لأرفض طلبه، فلتكن مكافأة له نظير خدماته..

    الفتى (مصطفى) وسيم جدًا، فارع القامة، ذو عينين خضراوين، وشعر كستنائي ناعم، نشيط وذكي، تخرج في الجامعة بتقدير مرتفع، وكان والده يطمح في تعيينه بالنيابة، لكنه في النهاية مجرد موظف بالمحكمة، ليس من علية القوم الذين يستأهلون هذا الشرف، فاكتفى بإلحاقه بالعمل في مكتب أحد أكبر المحامين بالبلد، الفتى يصلح للمهام الخاصة التي أريدها خارج نطاق العمل.. 

   المطلوب أن يجمع لي معلومات عن أسرتها، ولم تمض أيام معدودة حتى جاءني بما أريد، (دلال محمود الطيب)، ابنة معلم اللغة العربية الذي توفي قبل بلوغه سن المعاش، ليترك معاشًا ضئيلاً تقتات منه امرأته، وبناته الخمس، وولداه الذكران، لماذا ينجب هؤلاء الفقراء بهذه الكثرة المستفزة؟!

    أحد أخويها الذكرين يعمل بمطعم شعبي مقابل أجر زهيد لا أتصور كيف لإنسان أن يعيش به، والآخر يدرس بالمدرسة، ثمة شقيقة لها تعمل بمحل ملابس جاهزة، وأخرى تعمل في مكتبة، يعيشون في بيت مستأجَر متواضع يتكون من حجرتين فقط، لا أدري كيف لسبعة أبناء وأمهم أن يتجمعوا به! 

    الخلاصة: هم يعيشون أسفل.. أسفل.. أسفل.. في الحضيض.. هذا إن افترضنا أنهم يعيشون أصلاً! 

    الآن سأقدم لهم الحياة الحقيقية مقابل أن أحصل على (فينوس)، بيت أكبر وأرقى، وظائف محترمة في مواقع جيدة بأجور مغرية، سأنتشلهم من الفقر المدقع وأضعهم على سطح الأرض، ليعيشوا حياة حقيقية.. 

    بقي أمر آخر لا يقل أهمية: ماذا عن أصدقائي، وزملائي، ومعارفي؟ هل سيتقبلون فكرة ارتباطي بفتاة فقيرة تصغرني بعشرين عامًا على الأقل، ومن تلك الطبقة الدنيا، مهما بلغ جمالها وسحرها؟ كيف ستكون ردود أفعالهم؟

    أعرف أنه سيكون أمرًا جللًا في الوسط الذي أعيش فيه، لكني أعرف أيضًا أن جمالها وسحرها سيسلبهم عقولهم وقدرتهم على الكلام، ستكون (فينوس) أيقونتي في المحافل الاجتماعية.. سيُسحرون.. ويُبهرون.. وسيطغى انبهارهم على أي انتقاد أو اعتراض!

***

(2)

    قال لي (إبراهيم عارف) وهو يمسح نظارته للمرة الثالثة خلال عشر دقائق فقط:-

  -"إذن هناك شخص مجهول يصر على الاتصال بك، وأنت لا تستطيع أن تتعرف هويته!"

    لم أفصح عن هذا الأمر الذي يؤرقني سوى لـ (إبراهيم عارف)، لعدة أسباب، أهمها: أنه يفكر دائمًا في الحلول البسيطة، في حين أنني لا أفكر إلا في الحلول البعيدة المعقدة، وقد فكرت كثيرًا ولم أصل إلى شيء سوى المزيد من الحيرة والقلق..

    ولأنه – غالبًا – سينسى الأمر برمته بعد نهاية اللقاء، ولن يذكر عن أي شيء كان حديثنا، كما ينسى دائمًا أنه قام بمسح عدسات نظارته عدة مرات، وسيظل يقوم بمسحها طيلة الجلسة حتى تتفتت تلك العدسات من كثرة المسح..  إنه زهايمر مبكر للغاية، ومزمن، فهو كذلك منذ عرفته قبل سنوات عديدة مضت!

    الشيء الذي يدهشني حقًا: لماذا هو نحيل إلى هذه الدرجة، رغم أن شخصًا مثله – لا يحمل أي هم، ولا يؤرقه أي غم في الدنيا – يفترض أن يكون بدينًا كالخرتيت!!

    لحسن حظ (إبراهيم عارف) أنه حصل على ثروته بالوراثة، ورزقه الله أشقاء ثم أبناء يستثمرون له تلك الثروة، وإلا كان بددها منذ سنوات بعيدة، أو أودعها في مكان ما ونسيها..

  - "هذه ليست المشكلة الوحيدة.. الرقم الذي يتصل بي لا يظهر على شاشة الهاتف، ولا يُحفظ في سجل المكالمات الفائتة أو المستلمة.. إطلاقًا!"

    من الجيد رؤية الدهشة على ملامح وجهه النحيل، وعينيه الضيقتين، هذا يعني أن الأمر جذب اهتمامه، وأثار فضوله، هذا نادر جدًا أن يحدث لمثله..

  - "ربما كان عيبًا في هاتفك..أعني في برنامجه"

    لا.. مستحيل.. إنه أحدث أنواع الهواتف الذكية، ثمنه يقترب من العشرين ألف جنيه، أهدانيه أحد زبائني، واشتريت منه نسخة أخرى لـ (فينوس)..

  - "(علاء) يا صديقي.. حتى الهواتف الذكية الثمينة تصيبها الأعطال، ومشاكل البرمجة.."

    احتمال بعيد، بل مستبعد تمامًا. صدقني.. وإلا فلماذا يحدث هذا مع ذلك الرقم بالذات؟! دون سواه..

  - "ممممم.. لعله أحد أصدقائك يدبر لك مقلبًا، أو خصمًا يريد أن يربكك.. أنت ناجح في حياتك لدرجة لا تطاق!"

    هذا أيضًا احتمال مستبعد.. لا أحد من أصدقائي – ولا من خصومي – يعرف عني ما يعرفه هذا المتصل المجهول، ثم إنه لا يهددني، ولا يبتزني، ولا يساومني، ولا يقول شيئًا يغضبني.. بالعكس، هو أحيانًا يلفت نظري إلى أشياء أحتاجها في عملي، لقد ساعدني مرارًا في بعض القضايا التي أتولاها، لا سيما قضية (طاهر مدبولي) الوغد الثري الذي قتل عشيقته بلا رحمة، بعد أن ذهب إليها ليضاجعها، فوجد على الطاولة علبة سجائر وقداحة، وبجوار سلة المهملات علبة (عازل طبي) فارغة، كلاهما يخص عشيقًا آخر لعشيقته. 

    ليس الأمر – في اعتقادي – سيئًا إلى هذه الدرجة، فهي مجرد عشيقة لا زوجة، وليس بينه وبينها التزام شرعي أو أخلاقي يفرض عليها الإخلاص له دون غيره، لكنه رأى الأمر سيئًا للدرجة التي تستدعي أن يمسك بسكين الفاكهة، ويطعنها بها في صدرها، ثم يفر مذعورًا حين رآها سقطت جثة نازفة.. ولأنه قاتل غبي ومتسرع نسي السكين وعليها بصماته، كما لم يبذل جهدًا كافيًا ليستتر من الناس من فراره، ليخلف وراءه العديد من الشهود الذين رأوه يفر مذعورًا من مكان الجريمة..

    القضية مغلقة تمامًا، لا أمل في نجاته منها، رغم أنه طلبني أنا بالذات للدفاع عنه، وعرض عليّ مبلغًا ضخمًا جدًا لم أحظ به في حياتي في قضية واحدة.. لكنه كان يصر على أني قادر على ذلك.. لقد راجعت قضيته ألف مرة، ولم أجد فيها ثغرة.. كما أنها أسندت إلى قاضٍ غير قابل للتفاهم بالمرة، بالإضافة إلى أنها أصبحت قضية رأي عام، فـ (طاهر مدبولي) وغد ثري معروف للمجتمع كله، والرأي العام أدانه بقوة قبل أن يدينه القضاء.. لا أمل على الإطلاق في إنقاذه.. حتى تدخل ذلك "المتصل المجهول" وعرض المساعدة، وأرشدني إلى ثغرة خفية جعلتني أحول مسار القضية إلى اتجاه آخر، وتم الأمر حسب ما أرشدني إليه، وتمكنت من إطلاق سراح وغد جديد إلى الهواء الطلق، وحصلت على جائزة مالية ضخمة من جراء ذلك، بفضل ذلك المتصل المجهول، الذي أرشدني دون أن يطلب نصيبه من الكعكة!

    ليست هذه القضية الوحيدة التي ساعدني فيها، ثمة العديد من القضايا ما كنت لأربحها بدون مساعدته، إنه يعرف القانون وثغراته بشكل مذهل، ويساعدني دون أن يطلب أية مكافأة، وهذا شيء غير معتاد في المجال الذي أعمل به، أو الوسط الذي أعيش فيه!

    لكن المزعج حقًا أنه يتصل بي من وقت لآخر ليقول لي: "لا تقتل نفسك.. اقتلها هي".. من هي؟ اعتقد أنه يقصد (فينوس).. لماذا أقتلها؟ لا يجيب..

    (إبراهيم عارف) ما زال يفكر في الأمر، ويضع افتراضاته..

  - "إذن هو أحد خصومك، يعرف مقدار حبك لزوجتك، ويريد أن يفرق بينك وبينها!"

    وكأنني سأصغي لرغبته وأقوم بقتلها فقط لأنه طلب مني ذلك، ثم إن هذا لا يجيب التساؤل: كيف لا يحفظ الهاتف رقمه في سجل المكالمات؟!

  - "هل تريد رأيي؟ قم بإبلاغ الشرطة أو النيابة عنه، اتهمه بأنه حاول تهديدك بالقتل، سيراقبون هاتفك، وعندما يحاول الاتصال بك سيتعقبونه، ويصلون إليه، ويكشفون أمره.. أنت رجل قانون وتعرف هذه الأشياء أفضل مني!"

    وكأني لم أفكر في ذلك من قبل.. لكن كيف أبلغ عن رقم لا يظهر في هاتفي؟

  - "هذه ليست مشكلة أبدًا.. أخبرهم أن الرقم لا يظهر وهم سيبحثون عن تفسير لذلك!"

    رغم بساطة الحل وفاعليته، لكني لسبب ما أرفض العمل به، لا أعرف سبب الرفض، شيء ما يمنعني من اللجوء للأجهزة الأمنية في هذا الأمر، لا أدري ما هو.. 

    حسن يا سيد (إبراهيم)، لم تفدني بشيء، ولن أوصيك بكتمان الأمر لأني أعرف أني حين ألقاك المرة القادمة ستكون قد نسيت كل شيء بالكلية!

***

(3)

    إنه (Calvin Clien – Eternity) عطر يحتوي على مزيج من شذى اللافندر، والماندرين، والليمون، بالإضافة إلى عبق الياسمين والمريمية، وقاعدته مأخوذة من خشب الصندل، والعنبر، والمسك، وخشب الورد البرازيلي..

    هدية لي من (فينوس) دون أية مناسبة!

  - "وهل أنا بحاجة إلى مناسبة لأهدي حبيبي هدية؟"

    رائعة أنت يا (فينوس)، لا أدري كم أنا محظوظ بك..

    من المذهل أن انخرطت (فينوس) في حياة الثراء بهذه السرعة، لم يمض شهران على زواجنا حتى كانت تتألق كأنها ملكة، وتختلط بالطبقات العليا كأنها ولدت بينهم، تتحدث مثلهم، وتتصرف مثلهم، وتبهرهم وتسحرهم باقتدار.. وما زالت تبهرهم حتى اليوم! صرنا أنا وهي نجمي الطبقة العليا من المجتمع!

    إنها فائقة الجمال، فائقة الذكاء، فائقة السحر.. إنها أيقونتي الماسية..

    رنين الهاتف.. "رقم غير معروف" إنه هو..

    ماذا تريد؟

  - "ألم تلاحظ بعد؟"

    صوته سمج، نبرته سمجة، المشكلة أني لم أسمعه من قبل أبدًا، أستطيع تمييز الأصوات حين أسمعها ولو لمرة واحدة.. ألاحظ ماذا؟!

  - "إنها نفس الرائحة!"

    أيه رائحة؟

  - "انتظر حتى تلتقي به مرة أخرى، وتشم العطر الذي يضعه!"

    عمن تتحدث؟

  - "أنت تعرف عمن أتحدث!"

    لا.. لست أعرف.. ماذا تريد أن تقول أيها الوغد؟

  - "أنت تعرف أنك تعرف ما أريد أن أقول، لكنك تتظاهر بأنك لا تعرف.."

    أيها الـ......! ستخبرني من أنت وإلا ........!

  - "لا داعي للتهديد يا صديقي.. أولًا: لأنك لن تستطيع أن تفعل لي شيئًا على الإطلاق، ولا أقصد أن أتحداك بهذا القول.. وثانيًا: لأني أريد مساعدتك لا استفزازك أو إغضابك!"

    لا أريد مساعدتك على الإطلاق.. أنا لا أحتاج إلى ........!

  - "بل أنت في أمس الحاجة لما أقدمه لك من مساعدة.."

    حسنٌ.. سأتغاضى عن وقاحتك، وأجاريك للنهاية، لنفرض أنك تريد مساعدتي حقًا.. ما الدافع لذلك؟

  - "لأني أحبك!"

    هههههههه.. تحبني؟! قل الحقيقة أيها الوغد، لا أحد في هذا العالم يساعد أحدًا دون مقابل..

  - "نعم.. هذا في عالمك أنت.. لكن هناك عالم آخر أنت لا تعرف عنه شيئًا بعد"

    عالم آخر؟ هل أنت شبح؟ 

  - "أنا صديقك.. وأريد مساعدتك"

    كيف تعرف عني ما تعرفه؟

  - "أنا أعرف جميع ما تعرف أنك تعرفه، وأعرف عنك أيضًا جميع ما تعرفه وتظن أنك لا تعرفه!"

    تبًا! ما هذا الهراء! ماذا تقول أنت؟

    طرقات على الباب، سأنهي المكالمة السخيفة، إنه (مصطفى)، تلميذي ومساعدي الشاب الوسيم منذ سنوات عدة..

  - "بخصوص قضية (سالم عرفة)، لقد عرفت أنه ........"

    ما هذا العطر الذي يضعه (مصطفى)؟ إنه مألوف لديّ..

    عطر جديد بالنسبة لي.. لم أسمع عنه سوى البارحة، واستعملته وقتها، ثم استعملته ثانية هذا الصباح.. إنه عطر يحتوي على مزيج من شذى اللافندر، والماندرين، والليمون، بالإضافة إلى عبق الياسمين والمريمية، وقاعدته مأخوذة من خشب الصندل، والعنبر، والمسك، وخشب الورد البرازيلي..

    إنه (Calvin Clien – Eternity)!!

***

(4)

  - "متى ستعود من عملك؟"

    (فينوس) ليست معتادة على أن تسألني هذا السؤال إلا حين تكون عازمة على الخروج، حتى تعود قبلي، لأنها تعرف أني لا أحتمل عدم وجودها بالمنزل عند قدومي!

  - "لا أعرف.. اليوم معي مقابلة مهمة بأحد زبائني بالإسكندرية، قد أغيب حتى آخر النهار، لكني مساء سأكون هنا!"

    تقبلني في فمي، وتعانقني قائلة:-

  - "لا تتأخر.. سأنتظرك!"

    كل هذه السنوات منذ زواجنا وما زلت أجد صعوبة في مقاومة هذا السحر حين تعانقني، وأجد صعوبة أكبر في انتزاع نفسي لأغادر إلى عملي عقب هذا العناق!

  - "أين ستذهبين؟"

  - "سأزور أهلي.. لم أرهم منذ أسبوعين تقريبًا.. بما أنك ستتأخر سأقضي النهار عندهم، اتصل بي هاتفيًا عندما تغادر الإسكندرية عائدًا.."

  - "أبلغيهم تحياتي!"

  - "سأفعل!"

    ثم تعانقني من جديد!

***

    (كمال حنفي).. يختلف تمامًا عن جميع زبائني، ليس ثريًا، وليس ذا منصب مرموق، بل هو مجرد شاب منحرف، أراد أن يتمرد على الفقر، ويصعد السلم لأعلى بقفزة واحدة، حاول أن يحتال على ممثلة شابة صاعدة، لكنها كشفت أمره سريعًا واتهمته بمحاولة التحرش بها.. وجاءني يتوسل إليّ أن أساعده، ولم تكن لديّ نية أو رغبة لإنقاذه، لكني بحاجة إلى خدماته الآن، ثم أفكر كيف أتخلص منه!

    لن أطلب منه مراقبة (فينوس) لأني لا أثق إطلاقًا بكتمانه الأمر، لكني سأطلب منه أن يراقبه هو.. ليعرف أين سيذهب..

    لن أذهب إلى الإسكندرية، ليس معي قضايا هنالك، وحتى لو كان.. سأرسل أحد مساعديّ إليها، سأقبع في مكان ما منتظرًا المكالمة المطلوبة..

    (كمال) يتصل بي:-

   - "لقد خرج من بيته، وتوجه إلى المكتب، لكنه لم يمكث سريعًا، ركب التاكسي إلى المهندسين، توقف أمام بناية في شارع ........."

    يا إلهي!

    أعرف هذا الشارع جيدًا.. أعرف البناية.. إنها الشقة التي أهديتها لـ (فينوس) في العيد الثاني لزوجنا.. لماذا يذهب إلى هناك؟!

    كلا.. السؤال الأهم: هل هي هناك؟

    لا أستطيع أن أثق بـ (كمال حنفي) وأطلب منها ترقبها، علاوة على أنه لا يعرفها أصلًا، ومن الأفضل ألا يعرفها.. من الأفضل أن ينصرف وسأذهب بنفسي إلى هناك!

  - "شكرًا يا (كمال).. انتظر حتى أجيء أنا، ثم اذهب أنت.. أخبرني إن غادر البناية قبل وصولي!"

    استغرق الأمر أكثر من نصف ساعة حتى وصولي، في زحام الطريق، لحسن الحظ أني لم أرتكب حادثة رغم حالتي الذهنية والعصبية المريعة.. (كمال) طمأنني إلى أنه لم يغادر بعد، أكثر من نصف ساعة وهو هناك، هل هذا مطمئن حقًا؟ وهل هي معه؟! 

    تبادلنا الأدوار، أنا بقيت في موقف المراقب، وذهب هو، هناك (كافيه) قريب، بإمكاني أن أشاهد مدخل البناية وأنا أجلس به! هذا الموقع مناسب جدًا للرؤية!

    نصف ساعة أخرى مضت.. نصف ساعة ثالثة.. لم يخرج بعد.. فنجان القهوة الثالث، أشعر برغبة حارقة في التبول، لكني لا أستطيع، ربما يغادر في اللحظة التي أذهب فيها إلى الحمام، يجب أن أنتظر.. 

    نصف ساعة رابعة، الوغد أتم ساعتين، كلامهما مطمئن لأنهما يعرفان أني بالإسكندرية الآن.. 

    هناك احتمال أن يكون قد غادر ولم أره! لا أظن.. لكنه احتمال رغم كل شيء، واحتمال آخر أنه لم يمكث طويلًا وغادر قبل أن يجيء، ولم ينتبه الوغد الآخر (كمال) لخروجه.. كل الاحتمالات واردة، كل الاحتمالات سيئة، إلا ألا تكون هي هناك! لعلها مظلومة!

    (فينوس) لا يمكن أن تخونني، لقد منحتها كل شيء.. كل شيء.. كيف انسقت وراء تلك الشكوك؟ كيف سمحت لمجهول أن يعبث بعقلي وأتهم حبيبتي؟!

    رنين الهاتف.. رقم غير معروف.. إنه هو..

  - "ماذا تريد؟"

    أحاول أن أصرخ به، لكني لا أستطيع أن ألفت الأنظار!

  - "(علاء) يا صديقي.. لا تنس أنك الآن تجلس أمام البناية التي تحتوي على شقة أيقونتك الجميلة، ما الذي يجعل مساعدك وتلميذك المخلص يأتي هذه البناية؟! لا تقل لي أنها صدفة؟ ستكون صدفة غريبة بعض الشيء، علاوة على صدفة العطر إياه!"

    يضحك بسماجة، إنه مستفز لأبعد الحدود! لن أرد عليه، سأنهي المكالمة حالًا..

    كأنه يقرأ أفكاري:-

  - "نعم.. لا باس، يمكنك أن تنهي المكالمة الآن لتتفرغ للمراقبة.."

    تبًا لك!

    نصف ساعة خامسة، مثانتي تكاد تنفجر، أريد أن أتبول.. ماذا يفعل ساعتين ونصف هناك؟ هل هو هناك أصلًا؟ هل  هي .......؟!

    يا إلهي! ها هو ذا يغادر فعلًا.. لقد كان هناك حقًا.. (كمال) لم يخطئ، ساعتين ونصف وهو هناك! أين بالضبط؟ ومع من؟!

    أنا الآن مطالب بالانتظار حتى أعرف إن كانت هي هناك أم لا..

    رنين الهاتف، مرة أخرى رقم غير معروف:-

  - "بإمكانك أن تفرغ مثانتك الآن.. لو كان ما أظنه صحيحًا فإنها ستستغرق بعض الوقت حتى تجمع ثيابها الملقاة بكل مكان، وتغتسل، وتستعيد زينتها، وفي نفس الوقت لا تلفت الأنظار بمغادرتها خلفه!"

    تبًا لك أيها الوغد!

    لكني بحاجة فعلاً للتبول قبل أن أفعلها على نفسي كالأطفال! اكتشفت أن مثانتي ليست ممتلئة للغاية، لم يستغرق الأمر سوى عدة ثوانٍ، إنه التوتر.. لقد فارقني هذا الشعور منذ زمن بعيد، كيف عاودني الآن؟!

    فلأنتظر نصف ساعة أخرى، لا أريد أن تنزل بغتة لتراني بمدخل البناية مع البواب، وتعرف أني كنت أراقبها! أنا الذي أخافها الآن أن تراني! معقول؟!

    رنين الهاتف للمرة الثالثة، رقم غير معروف.. ماذا يريد الآن؟!

  - "أريدك أن تهدأ.. أنت بالفعل تخافها، وأخشى ما أخشاه أن يستمر هذا الخوف، ويتعمق بداخلك أكثر.. لكن الأمر يحتاج منك إلى مزيد من التماسك، لا تنس أنك (علاء عبد الواحد) الذي تهتز قاعات المحاكم بدخولك ومرافعاتك!"

    نعم أذكر هذا، لم أنسه أصلًا، في الواقع أنت من يوترني لا هي.. من أنت؟! أخبرني الآن أيها الوغد!

  - "لا وقت لهذا الآن.. إن كان ما أظنه صحيحًا فإنها على وشك المغادرة"

   أيها الـ..........!

    يا إلهي!

    ها هي ذي.. إنها بالفعل تغادر الآن.. أراها أمامي بوضوح.. تلبس أكثر ثيابها فتنة وأناقة، وتلك النظارة السوداء تخفي عينيها الوقحتين، أكاد أشم رائحة عطرها من هنا، إنها تبتعد عن البناية بخطوات سريعة، تشير إلى سيارة أجرة، لم تأت بسيارتها، إنها ماكرة جدًا.. لقد ذهبت الآن وبقيت أنا وحدي.. لقد انقطع الشك باليقين.. لقد كانت هناك بالفعل! 

    كانت هناااااااااك!

    الوغد ما زال على الخط:-

  - "الآن صرت تعرف ما أردت إخبارك به منذ زمن.. (فينوس) تخونك ومع من؟ مع تلميذك النجيب، ومساعدك الأمين.."

    اخرس أيها الوغد! 

  - "لقد حصلت على ما تريد.. عرفت ما كنت بحاجة إلى معرفته، وما كان يجب أن تعرفه منذ زمن!"

    يا إلهي! ماذا أفعل؟!

    يجب أن أقتلها.. يجب أن أقتلهما معًا !

  - "لا.. لا تتهور.."

    أي تهور؟ لقد كانت هناك تعاشر فتى يعمل عندي، سأقتلهما جزاء خيانتهما، هل أتركهما ينعمان بخيانتما؟! 

  - "أنا أرى الصورة كاملة بعكسك.. الأمر لا يتعلق بالقانون وعقوبته، فكر في صورتك أمام طبقتك، (فينوس) أيقونتك الماسية اتضح أنها تخونك مع مساعدك الشاب وأنت مغفل لا تعرف شيئًا.. تخيل صورتك أمامهم، أكثرهم كانوا يحسدونك عليها، الآن خمن ما سيقال عنك.. أنت شخصية شهيرة وناجحة جدًا، ستكون حديث البلد كلها مثل ..........!"

    اخرس أيها الوغد.. يا إلهي! ماذا أفعل؟ كلامه منطقي جدًا.. لكن هل أتركهما؟   

    لكن مهلًا.. منذ متى وأنت تعرف أيها الوغد؟ ولماذا لم تخبرني مباشرة؟

  - "منذ بدأت الاتصال بك.. المشكلة أنك أيضًا كنت تعرف، وتوهم نفسك بأنك لا تعرف!"

    غير صحيح.. لو كنت أعرف لقتلتها من أول لحظة!

  - "لا أظن أنك قادر على قتلها.. رغم أنها تستحق القتل!"

    بلى سأقتلها وأقتله..

  - "لسبب ما أظن أنك ستقتل نفسك!"

    مستحيل! أنا أقتل نفسي من أجل عاهرة!! أنت تخرف..

  - "سنرى!"

    اخرس.. إياك أن تحدثني ثانية.. أنا سأتصرف، وأريك أني لست هينًا إلى هذه الدرجة! 

    سأقتلهما معًا.. لكني سأبدأ به أولاً لأحرق قلبها عليه! ثم أجعلها تتمنى الموت لنفسها!

***

    يقولون: كل شيء يحتاج إلى مقابل، إلا الحب.. فإنه عطاء بلا مقابل!

    لكن ماذا عن الإخلاص؟ هل هو مقابل لهذا الحب، أم من لوازمه وتبعاته؟

    ما أعرفه أني أحببتك حقًا يا (فينوس)! أحببتك جدًا.. أحببتك فوق ما تتخيلين أو أتخيل أنا.. ولم أخنك لحظة، لأني لم أر في الدنيا أنثى سواكِ!

    وسأقهرك بقدر هذا الحب!

***

(5)

  - "أنت قتلته أيها الوغد!"

    (فينوس) غاضبة.. (فينوس) مكلومة! هذا يرضيني إلى حد كبير!

  - "نعم أنا من قتله! قتلت عشيقك أيتها العاهرة.. تظنين أني لن أعرف!"

    (كمال حنفي) طموحه لا يتوقف عند حد، عرضت عليه البراءة، ووظيفة محترمة بإحدى الشركات، فوافق على الفور دون تردد، الشرطة عثرت على الوغد (مصطفى) ذبيحًا في مدخل إحدى البنايات، لا أعرف كيف استدرجه (كمال) إلى هناك، ولا كيف أفلت بفعلته دون أن يلحظه أحد، ما يعنيني أنه نجح في مهمته، ولم يضبطه أحد، ونال الخائن جزاءه.. وسيحين دورك قريبًا أيتها العاهرة..

  - "يا لك من وغد مثير للشفقة!"

    تغيرت نبرتها، إنها تسخر مني بصلابة!

  - "هل تظن أن (مصطفى) عشيقي الوحيد؟ إنهم أكثر مما تتخيل، وأنتقيهم بعناية!"

    تعترفين بوضاعتك أيتها العاهرة، هكذا بكل جرأة؟

  - "سأقتلهم جميعًا، وأقتلك!"

  - "لن تستطيع.. لأنك لن تعرفهم! هم من طبقات مختلفة تمامًا عن طبقتك.. جسدي هذا اختبر عشرات الرجال طيلة الأعوام الماضية، من مختلف الفئات إلا فئتك السمجة!"

    إنها تستفزني.. تثير غضبي.. تريدني أن أقتلها الآن!

  - "لماذا أيتها الساقطةة؟ لقد انتشلتك وأسرتك من القاع، ومنحتكم مكانة وقيمة، جعلت منك أميرة بعد أن كنتِ تنتظرين دورك في طابور الاغتصاب أو الانحراف، أو لتبيعي جسدك لصاحب محل يقبل أن يوظفك ببضعة قروش!"

  - "لا تدعي أنك صاحب فضل أيها العجوز، أنت تعرف كما أنا أعرف كيف ابتززت عائلتي من أجل الحصول عليّ، ولم تكن تريدني زوجة، بل رابطة عنق، أو قلادة، تزين بها واجهتك في الأوساط الراقية، وقد منحتك هذا على أمثل وجه.. لا تنكر هذا أيها العجوز.. لست مدينة لك بشيء، لقد أعطيتك ما تريد طواعية وعلانية، وحصلت على ما أريده أنا أيضًا، لكن خلسة.. والآن إن أردت أن نواصل معًا سأحصل على ما أريد بعلمك، وإن أردت أن تنهي ما بيننا اختر أية كيفية شئت، لا يعنيني الأمر كثيرًا"

    يا لها من .........! 

    إنها تهزمني.. تُخضعني.. تهيمن عليّ.. تقودني إلى حيث تريد!

    لا.. لن أستسلم لك أيتها الساقطة، ولن أتركك تهزمينني.. لست أنا من يُهزم لأحد، لا سيما عاهرة مثلك..

    سأتدبر أمرك، وأجد العقاب المناسب لجرمك!

***

    الحقيقة أنني هزمت فعلاً أمامك يا (فينوس).. لقد هزمتني فعلاً.. وبأقل مجهود، وكنت أظن أنني لا أقهر..

    الآن لا أعرف ماذا أفعل؟ لقد سقطت في هوة سحيقة، فقدت اتزاني وسيطرتي على أي شيء، لحسن الحظ أنهم يعزون السبب إلى حزني على مقتل تلميذي ومساعدي المخلص، يعزونني وتعزيتهم تقتلني، مثلما يقتلني صمودك وتحديك إياي!

    أنا أنهار.. أنهار، وأفقد كل شيء، والسبب أنت يا (فينوس)..

  - "واجه الحقيقة أيها العجوز! أنت مزيف.. كل شيء في حياتك مزيف.. كل ما يعرفه الناس عنك، ويرونه فيك مزيف.. واجه الحقيقة ولو لمرة واحدة في حياتك، لكنك تعرف أنها أقبح وأبشع من أن تواجهها.. لكنك حتمًا ستسقط!"

    لقد سقطت فعلًا يا (فينوس)، ولكن على يديكِ، أستطيع أن أقتلك، وفي نفس الوقت لا أستطيع، أستطيع أن أتخلص منكِ بأسوأ الطرق وألقيك للكلاب، لكني لا أستطيع.. أنت أقوى مني بكثير.. حتى لا أستطيع أن أواجهك.. وفي نفس الوقت لا أستطيع الفرار!

   لا أحتمل رؤيتك أمامك، ولا رؤية جسدك المثير الذي يعبث به غيري، ولا وجهك الفتان الذي امتلأت به عيون الناس عن قرب، أفر إلى المكتب، لكن ذهني ليس هنا..   

    يستقبلني (مختار) أكبر محامٍ لديّ، ومساعدي الأول..

  - "أين أنت؟ لقد اتصلت بك مرارًا، وهاتفك مغلق!"

    هاتفي؟ لقد نسيت شحن بطاريته منذ زمن، أصبح جثة هامدة.. نسيت كل شيء أحتاجه، نسيت حتى أن آكل أو أشرب، أو أستحم!

    فقدت عقلي.. فقدت كل شيء..

  - "لدينا جلسة غدًا في قضية ............"

    لا أذكر أية قضية، نسيت قضاياي، ونسيت عملي، ونسيت كل شيء.. 

    ترى هل أنت منهم يا (مختار)؟ هل تذوقت أنوثة (فينوس) مثل الآخرين الذين لا أعرفهم؟

  - "دعني بضعة دقائق حتى أستريح.."

    لكن كيف أستريح؟ لا شيء يقدر على أن يريحني الآن..

    رنين الهاتف.. رقم غير معروف.. إنه هو..

  -"هذا ما كنت أخشاه منذ البداية.. أن تظهر ضعفك أمامها!"

    اخرس.. تزعم أنك تريد أن تساعدني، وأنت تشارك في حصاري وذبحي..

  -"أنا أريد أن أساعدك، لكن أنت لا تساعد نفسك"

    أخبرني من أنت أولاً، وكيف تعرف كل هذا؟

    (مختار) يطرق الباب ويدخل قبل أن أجيب.. قلت: لا أحد يدخل عليّ..

  -"جلسة الغد مهمة جدًا، قد تحدد مصير القضية، يجب أن تفيق لنفسك ولعملك"

    ينظر إليّ مندهشًا، تتبدل نبرته:-

  -"هل كنت تتحدث في الهاتف؟"

    نعم.. وسأنهي المكالمة مع ذلك المجهول الآن، لِمَ أنت مندهش؟ ما الغريب في أن أتحدث في الهاتف؟!

  -"كيف شحنت بطاريتك بهذه السرعة؟ لقد كانت فارغة حسبما أخبرتني!"

    ماذا؟!

***

    أشياء كثيرة غريبة تحدث في هذا العالم.. 

    لكن ليس من بينها أن تجري مكالمة هاتفية بشخص مجهول، وبطارية هاتفك فارغة تمامًا!!

***

(6)

    لن أسمح لأحد بأن يتلاعب بي، لا أنت ولا (فينوس)..

    هي من أرسلتك.. نعم هي.. لا أحد يعرف عني ما تعرفه أنت سواها، هي من تتلاعب بي منذ البداية، أرادتني أن أعرف بخيانتها، وهي تعلم ما سيصيبني حين أعرف، كيف كنت بهذه السذاجة ولم أنتبه لألاعيبها؟ أم أنها هي أكثر خبثًا ومكرًا مما كنت أتخيل؟

  - "هل تعتقد هذا حقًا؟ أني أعمل لحسابها هي ضدك؟ ههههه.. يا لك من أبله! وكيف عرفت ما أعرفه عن عملك وقضاياك؟ ألم أساعدك في بعض قضاياك من قبل؟!"

    بلى.. لكني أعرف الآن كيف حدث هذا.. عن طريق (مصطفى)، هو يعاشرها ويثرثر لها عن قضاياي، وهي تنقل لك ما تعرفه، وتستغله أنت للتلاعب بي، هي من تتلاعب بي أولاً وأخيرًا. لقد كشفت أمركم، وأفسدت خدعتكم.. لستم أذكى مني على الإطلاق!

  - "ههههه.. أنت مضحك حقًا.. لكن الإيجابي في الأمر أن ذهنك عاد للعمل، وهذه مقدمة الاستفاقة"

    نعم.. لقد أفقت لنفسي، ولخدعتكم.. الآن سأتعامل معكم، وسأعرف من أنت..

  - "أنت تعرف من أنا جيدًا، لكنك توهم نفسك طوال الوقت بالعكس.."

    اخرس. وكف عن الثرثرة، أريد أن أعرف شيئًا واحدًا، كيف لا يظهر رقمك في سجل المكالمات؟ وكيف أجريت تلك المكالمة معي وهاتفي بلا بطارية؟

  - "ههههه لا.. لا.. أنت لم تفق، بل على العكس، لقد فقدت صوابك تمامًا.."

    كف عن العبث، وأجبني.. 

  - "أجيبك عن أي شيء؟ أنت مخبول.."

    أنا أذكى منك ومنها..

  - "لا تقرنّي بها، لأني مقترن بك أنت لا هي!"

    ماذا تقول؟ ما زلت تواصل العبث.

  - "العبث هو ما تفعله أنت لتفر من الحقيقة!"

    أية حقيقة؟ أنا أريد أن أعرف كيف تتحكم في مكالماتنا بهذا الشكل؟ هل تضع جهازًا ما في هاتفي؟

  - "هههههه.. يا إلهي! لقد جننت تمامًا"

    بل كشفت لعبتكم.. وسأواصل الاكتشاف.

  - "أية لعبة أيها المخرف؟ أنت من تتلاعب بنفسك.. أي هاتف؟ وأي مكالمات؟ أنا لست بحاجة للتواصل معك من خلال هاتف، أنا موجود بداخلك، في رأسك، وفي قلبك.."

    كف عن هذا.. لن تخدعني مجددًا..

  - "أنت من يخدع نفسك طوال الوقت، تتوهم شخصًا ما يحادثك عبر الهاتف، شخصًا يعرف عنك كل ما تعرفه عن نفسك، وما لا تعرف أنك تعرفه.. شخصًا يكشف لك ما تعجز أنت عن اكتشافه بنفسك، شخصًا يغطي ضعفك، ويبرر سلوكك وتصرفاتك.. لم تكن لتثق بأحد سوى نفسك.. سوى أنت الذي هو أنا!"

    كفى.. كفى.. لن أسمح لك بخداعي مجددًا، أنا لست مخبولاً لأكلم نفسي، وأتوهم أنه شخص آخر، ولست غبيًا ولا مغفلًا لأصدق هذا السخف!

  - "(علاء) يا صديقي.. لا تنس أننا نتكلم الآن عبر جوال بلا بطارية.. ثم إن المشكلة أعقد من الخبل، ومن الغباء، المشكلة تكمن في ضعفك أمام أيقونتك، علمت أنها تخونك ولم تجرؤ على مواجهتها، بل لم تجرؤ حتى على أن تفكر في ذلك، واختلقت شخصية أخرى لتخبرك.. لقد صدقت هي حين قالت لك إنك مزيف، لأنك دائمًا حريص على أن تظهر أمام الجميع في مظهر الشخص القوي، المسيطر، الناجح بفضل مهارتك وذكائك وقدراتك، لتجد نفسك في موقف الزوج المخدوع في زوجته، ولا يجرؤ حتى على مواجهتها فضلًا عن معاقبتها.. وحين واجهتك هي بالحقيقة فقدت كل ما تبقى لك من تماسك واتزان.."

    لا يمكن أن يكون هذا صحيحًا.. أنا لست مخبولاً.. لست ضعيفًا.. لست .......!

    والصوت؟ هذا ليس صوتي..

  - "بل هو صوتك.. لكنك توهم نفسك بغير ذلك كالعادة!"

    يا إلهي! لقد تغير الصوت، وصار يشبه صوتي بالفعل!!

  - "بل هو صوتك منذ البداية.. لأنني أنا أنت.." 

    هذا جنووووون!!

  - "دعك من كل هذا.. واستمع لما أقوله لك من أول اتصال بيننا.."

    ماذا تقصد؟

  - "إياك أن تقتل نفسك.. اقتلها هي.. هي تستحق القتل! بإمكانك أن تستأجر أحدًا كما فعلت منذ أيام، إن كنت عاجزًا عن فعل ذلك بنفسك!"

    لا.. لست بهذا الضعف والعجز، لست أنا من يفر من زوجة خائنة عاهرة، هي لولاي لم تكن شيئًا، أنا صنعتها، وأنا سأقضي عليها بنفسي.. وبيديّ..

  - "لا تتهور!"

    اصمت أنت.. أنت حتى غير موجود من الأساس.. 

    لا مزيد من المكالمات الوهمية!

***

(7)

    سأقتلك يا (فينوس) بيديّ.. وسأقتل ضعفي..

    أنا (علاء عبد الواحد)، رجل القانون، المحامي القدير، وأستاذ الجامعة الخبير، والثري ذو النفوذ، لن أكون فريسة لعاهرة جئت بها من قاع المدينة، وجعلت منها أميرة في قصر..

    أنت المزيفة لا أنا يا (فينوس)، تظنين أنك سيدة مجتمع، وأنت لست سوى ساقطة.. سأقتلك دون أن يعرف أحد أني أنا القاتل، لقد رتبت الأمر كما لو أن لصًا اقتحم الدار، وأراد سرقة بعض المقتنيات، وأنتِ فاجأته أثناء محاولته إتمام جريمته، فلم يجد بدًا من إطلاق الرصاص عليك، ثم الفرار..

    نعم.. سأبعثر بعض محتويات الدولاب بعد أن أقتلك، وأكسر زجاج إحدى النوافذ، ولكن أين يفترض أن أكون أنا وفق هذه التغطية؟ في الخارج، بصحبة بعض الـ....... لا، في مكتبي أطالع أوراق إحدى القضايا، ولم أشعر بشيء إلا حين سمعت صوت الرصاص، وسأزعم أني رأيت شخصًا يقفز للخارج من تلك النافذة المكسورة، دون أن أجد الوقت الكافي لتبين ملامحه، وبالطبع لم أجرؤ على مطاردته، لا.. بل كنت فزعًا من صوت الرصاص، وأسرعت لأطمئن على زوجتي، فوجدتها في حجرتها مضرجة في دمائها، ومحتويات الدولاب مبعثرة، آه يا زوجتي الحبيبة! قتلك اللص ثم لاذ بالفرار..

    نعم هكذا القصة بسيطة ومحكمة، لكن يبقى أمر آخر.. الخدم! سأصرفهم الليلة، لن يبقى بالبيت سواي أنا والساقطة.. هكذا سيتم الأمر! سأقتلها، ثم أبعثر محتويات الدولاب، وأكسر النافذة، وأخفي المسدس، وأتصل بالشرطة والإسعاف، وأتصنع البكاء والنحيب.. سأجعل البلد كله يبكي تعاطفًا وإشفاقًا على ذاك الزوج المكلوم البائس الذي حمته يد الغدر أغلى ما يملكه.. زوجته الحبيبة المخلصة!

    يا له من مسكين! لم يفق بعد من حزنه على مقتل تلميذه ومساعده الأمين، ليفقد بعدها زوجته بزمن وجيز! ترى كيف سيتحمل قلبه تلك الصدمات المروعة؟ وهل سيصمد؟

    لقد انتهى أمرك يا (فينوس)، لقد عقدت محاكمتك، وتمت إدانتك، ولم يبق سوى تنفيذ حكم الإعدام!

***

  - "هههههه.. هل ستقتلني؟"

    تضحكين أيتها الساقطة؟ تتظاهرين بالشجاعة في هذه اللحظة، ومسدسي مصوب تجاه رأسك؟ 

  - "نعم سأقتلك.. هذا هو الجزاء العادل، تعرفين أني رجل قانون أخدم العدالة"

    تنظر إليّ بتحدٍ، غريب هذا.. يفترض أن تنظر بذعر، وتجثو تحت قدمي متوسلة، وتسألني الرحمة..

  - "هل حقًا تؤمن بالعدالة أيها العجوز؟ حتى هذا مزيف! متى تكف عن الزيف؟!"

    أكبر تزييف أصنعه هو التخلص منك بهذه الخطة التي وضعتها، سأكون ضحية ليد الغدر، وأنتِ كذلك ستكونين ضحية في نظر الجميع، أنا كريم معك حتى النهاية، أليس كذلك؟ لن يعلم أحد حقيقتك، ولن يبصق أحد باحتقار حين يرى صورتك في وسائل الإعلام كضحية بريئة مجني عليها!

  - "وهل تظن أنك ستنجو بهذا؟"

    لقد رتبت كل شيء، أنا رجل قانون بارع، لن يعثر أحد على ثغرة تجعلهم يشكون في أمري..

  - "لم أقصد القانون أيها العجوز.. أقصد هل ستنجو من نفسك؟ هل ستتمكن من العيش مع جريمتك؟"

    سأكون بخير.. اطمئني.. شكرًا لاهتمامك، سأتدبر أمري جيدًا بعد رحيلك، وسأواصل حياتي كزوج مكلوم أمام الناس على النحو المتقن، وأحصل على متعتي من الساقطات أمثالك في الخفاء، ولن أجلب ساقطة أخرى لتحل محلك، فلم أعد أثق في الساقطات مطلقًا..سأحصل على متعتي في الخفاء، ولن يشاركني أحد حياتي ليدنسها، أنا مزيف كما تعرفين، لكني نقي أمام الناس!

    - "لا.. لن يحدث.. ولن تنجو.. أنت لن تستطيع أن تقتلني مهما فعلت، حتى لو أطلقت عليّ الرصاص، وحتى لو استقر الرصاص بجسدي، وفارقت روحي الحياة، سأظل معك، سألاحقك مدى الحياة، لن تستطيع التخلص مني أبدًا.. أتدري لماذا؟"

    إنها تتحداني.. من أين لها بتلك القوة؟

  - "لأني أيقونتك السحرية، التي لن تستطيع أن تنتزعها من عقلك ولا من قلبك.. مهما فعلت! أنا من سيقتلك لا أنت!"

    رنين الهاتف.. رقم غير معروف.. إنه هو.. بل أنا.. لماذا عاد للاتصال؟ قلت له: سأنهي الأمر بنفسي!

  - "لا تستمع إليها، ولا تنظر إلى عينيها الساحرتين، اضغط الزناد.."

    نعم سأفعل الآن..

  - "هيا بسرعة.. لا تسمح لها بالسيطرة عليك.."

    نعم لن أسمح لها.. سأنهي الأمر الآن..

  - "هيا إذن.. اضغط الزناد. أطلق الرصاص.."

    سأفعل.. سأفعل.. انتهى الأمر أيتها الـ.........!

***

(8)

    ما هذا؟! ما الذي يحدث؟! 

    شيء ما يجذب أصبعي بعيدًا عن الزناد، شيء غير مرئي.. 

  - "لا يوجد أي شيء أيها الغبي.. إنه أنت!"

    لا.. صدقني.. هناك قوة خفية تمنعني من ضغط الزناد.. يا إلهي، هناك من يلوي ذراعي تجاه رأسي..

  - "لا أحد يلوي ذراعك.. أنت من يفعل هذا.. أفق لنفسك!"

    لا أستطيع.. إنها قوة أكبر مني، تدير معصمي لتوجه المسدس نجو رأسي أنا، فوهة المسدس تتجه إلى الموضع الذي فوق أذني مباشرة..

  - "تماسك أيها البائس.. استعد سيطرتك على نفسك.."

    يا إلهي ما الذي يحدث؟ هل هي ساحرة؟ فوهة المسدس تلتصق برأسي.. شيء ما يدفع إصبعي فوق الزناد، ليطلق الرصاص!

  - "إياك أن تفعل أيها الغبي.. إياك أن تقتل نفسك.. اقتلها هي، هي من يستحق القتل، لا أنت!"

    لا أستطيع المقاومة.. لا أستطيع..

    هذه النظرة في عينيها، إنها منتشية، هي من يتحكم بالأمر، هي من ستقتلني لا أنا كما قالت بنفسها.. تلك الابتسامة الشريرة على ثغرها الجميل..

    هي من سيقتلني..هي من سيقتلني! 

    توقفي أيتها الـ.........!

***

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

4

متابعين

0

متابعهم

1

مقالات مشابة