روايه همس الندي

روايه همس الندي

0 المراجعات

 

** همسُ الندى**

في إحدى قرى الشمال، حيث تتراقص أشعة الشمس على وجه البحيرة كل صباح، كانت ليلى تسكن في بيت صغير من الخشب، تحيط به أشجار التفاح والكرز. اعتادت الاستيقاظ باكرًا، تغسل وجهها بماء البئر البارد، وتُعد قهوتها بينما تغني بصوت خافت أغنية قديمة كانت والدتها ترددها.

كانت حياتها هادئة، حتى جاء ذات يوم شاب غريب إلى القرية يُدعى آدم، يحمل معه كاميرا، ودفتر ملاحظات، وعيونًا غارقة في الأسرار. أخبر السكان أنه كاتب يبحث عن الإلهام، لكن ليلى شعرت أن وراء تلك العيون قصة لم تُروَ بعد.

التقيا أول مرة عند البقالة. أسقطت سلتها خطأ، فتدحرجت التفاحات على الأرض، وانحنى هو ليساعدها، ليتلاقى نظرهما لثوانٍ كانت كافية لتشعل شرارة لم تنطفئ.

مع مرور الأيام، بدأ آدم يزور المقهى الذي تعمل فيه ليلى كل صباح. يجلس في الركن نفسه، يطلب القهوة السوداء، ويكتب. لم يكن بينهما الكثير من الحديث في البداية، لكن النظرات كانت تنسج قصة خاصة بهما. ثم جاء اليوم الذي كسر فيه آدم الصمت، وسألها:
"هل تؤمنين بالحب من النظرة الأولى؟"
ضحكت وقالت: "أؤمن بأن القلب يعرف... حتى لو لم نفهمه."

في مساء هادئ، وبينما كانت تمشي وحدها على ضفاف البحيرة، وجدته ينتظرها هناك. جلسا على العشب، يتأملان انعكاس القمر في الماء، فحدثها عن حياته، عن الوحدة التي كان يهرب منها، وعن المدن التي عبرها بحثًا عن شيء لا يعرفه.

قال لها: "كنت أظن أنني أبحث عن قصة أكتبها، لكنني وجدت نفسي أكتبك أنتِ."

لم تكن ليلى تحب الوعود، لكنها شعرت أن هذا القلب الذي جلس قربها لم يكن غريبًا. شيئًا ما فيه كان مألوفًا، كما لو أنها عرفته في حلم قديم.

مرت شهور، وتفتحت أزهار الكرز من حولهما، ليشهد الربيع قصة حب نمت في صمت، وازدهرت في صدق. لم يكن بينهما تعهدات عظيمة، فقط وعد واحد قاله آدم ذات مساء:

“لن أعدك بالبقاء، لكنني أعدك بأن أختارك كل يوم.”

مرت الشهور كأنها لحظات، وكان وجود آدم في حياة ليلى قد غيّر كل شيء. لم تعد ترى الصباح كما كانت، فقد صار لصوت خطواته قرب باب المقهى إيقاعًا تُنصت له أكثر من أغاني العصافير. كانا يعيشان تفاصيل بسيطة، لكنها كانت تحمل في طياتها ألف معنى. نزهات تحت المطر، رسائل ورقية تُخبأ بين دفتي كتاب، وضحكات تُشبه وقع المطر على الزجاج.

لكن في القلب، كانت ليلى تشعر بظلٍ خافت، كأن شيئًا ما يوشك أن يُنتزع منها.

وفي أحد الأيام، جلس آدم على الطاولة المعتادة، لكنه لم يكتب. اكتفى بالنظر إلى فنجان قهوته. لاحظت ليلى شرود عينيه، وسألته:
"في شيء مضايقك؟"

تنهد طويلاً ثم قال:
"جاءني عرض من دار نشر في باريس... يريدونني هناك لأشهر."

سكتت. كانت تعرف أن هذا اليوم سيأتي، لكنها لم تتخيل أنه سيكون بهذه السرعة. نظرت إليه، وقلبها بين فرحٍ وفقد.
"يعني... رح تروح؟"
"ما أقدر أرفض، حلمي من زمان... بس ما أقدر أتركك."

همست: "أنا ما كنت أملكك عشان تتركني، بس خذ قلبي معك، وخليك تذكر إن فيه أحد ينتظرك على ضفة هالقرية."

في صباح سفره، لم تبكِ ليلى أمامه. ابتسمت، ووضعت في يده دفترًا صغيرًا، قائلة:
"اكتب لي عن كل صباح بدونّي."

غاب آدم، واكتفت هي بانتظاره، لا تكتب له كل يوم، لكنها كانت تحكي له في عقلها كل شيء: عن أول زهرة نبتت قرب البيت، عن الكلب الجديد الذي جاءها صدفة، وعن الليل الذي نامت فيه وهي تحلم به يقرأ لها من دفترها.

وكل شهر، كانت تأتيها رسالة، بخط يده، يبدأها دائمًا بجملة واحدة:
"أختارك كل يوم."

وفي ذات مساء خريفي، عاد. لم يُخبر أحدًا، فقط دخل المقهى، وجلس على طاولته، ومعه نفس الكاميرا، ونفس العيون، لكن قلبه كان مليئًا بكل الحنين.

اقتربت منه ليلى، بصمت، جلست أمامه. لم يسألها، ولم تسأله.

فقط ابتسم وقال:
"رجعت أكتبك من جديد."


 


 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

1

متابعهم

1

متابعهم

1

مقالات مشابة