بين ضفّتي القدر

بين ضفّتي القدر

1 المراجعات


كانت ليلى فتاة هادئة، تسكن في مدينة صغيرة يمرُّ على أطرافها نهرٌ طويل. اعتادت أن تجلس كل مساء على مقعد خشبي مقابل النهر، تحمل كتابًا بين يديها، كأنها تبحث في حروفه عن شيء مفقود. لم تكن تعرف أن ذلك المقعد سيصير يومًا شاهدًا على أجمل قصة حب في حياتها.

في يومٍ عاديّ، وبينما كانت تتصفح رواية، جلس شاب على بُعد خطوتين منها. كان يبدو وكأنه يبحث عن مكان للراحة بعد يوم طويل. رفع رأسه، فالتقت عيناه بعينيها للحظة قصيرة، لكنها كانت كافية لترك أثر غريب في قلبها. ابتسم بخجل، فردّت بابتسامة أهدأ، ثم أعادت نظرها إلى كتابها.

لم يكن لقاءً مدبَّرًا، لكنه كان البداية. صار يمر كل يوم تقريبًا في نفس التوقيت، يجلس على المقعد القريب منها. أحيانًا يقرأ، وأحيانًا يكتفي بالنظر إلى صفحة بيضاء من دفتره، كأنه ينتظر شيئًا لا يأتي. ومع الوقت، أصبح الصمت بينهما لغةً مشتركة.

مرت أسابيع قبل أن يتجرأ ويقول:
ــ "الكتاب اللي معك… قرأتيه من قبل ولا لسه؟"
تفاجأت ليلى، لكنها أجابت بابتسامة:
ــ "لسه في البداية. بتحب تقرأ؟"
ــ "أحب أكتب أكتر… بس القراءة هي اللي بتخليني أكتب."

ومن هنا انفتحت أبواب الحديث. صار يشاركها بعض خواطره، وهي تحكي له عن الروايات التي تعجبها. علمت أن اسمه "عمر"، يعمل مهندسًا شابًا، لكنه عاشق للكلمات. وكانت هي طالبة في كلية الآداب، تهرب من ضوضاء الحياة إلى عوالم الكتب.

بداية القرب

تعددت لقاءاتهما على النهر، حتى صار الوقت معه عادةً يومية لا يمكن أن تُلغى. شيئًا فشيئًا، بدأ قلب ليلى يرتبك عند رؤيته. كانت تنتظر ابتسامته كأنها رسالة مطمئنة من الحياة. وهو بدوره، كان يجد في حضورها ملاذًا من صخب العالم.

وذات مساء قال لها:
ــ "ليلى… عارف إننا لسه بنتقابل من فترة قصيرة، بس حاسس إني أعرفك من زمان."
نظرت إليه طويلاً، وأجابت بصوت خافت:
ــ "وأنا كمان."

لم يُبح أيٌّ منهما بكلمة "حب"، لكن المشاعر كانت أوضح من أن تُخفى.

اختبار القدر

مرت الشهور، وازدادت علاقتهما قوة. حتى جاء اليوم الذي اضطر فيه عمر للسفر في مهمة عمل طويلة. أخبرها وهو يحاول أن يخفي قلقه:
ــ "ممكن أغيب شهور، يمكن سنة. بس أوعدك إنك هتفضلي في قلبي طول الوقت."

شعرت ليلى أن قلبها انكسر نصفين، لكنها ابتسمت قائلة:
ــ "المسافة ما تقتلش المشاعر، اللي يقتلها إننا ما نكونش أوفياء."

سافر عمر، وبدأت مرحلة جديدة من الانتظار. رسائل إلكترونية، مكالمات متقطعة، وأحيانًا صمت طويل يفرضه انشغاله. كانت ليلى تحارب قلقها بالصبر، وتقرأ ما تركه لها من خواطر مكتوبة. أما هو، فكان يواجه غربة المكان بحبها الذي يمنحه القوة.

غياب طويل

امتد السفر أكثر مما توقع. ثلاث سنوات كاملة قضتها ليلى بين الكتب والانتظار. كثيرون تقدموا لخطبتها، لكنها رفضت، متمسكة بأمل عودته. كانت تسمع همسات من حولها: "نسيك… مش هيرجع"، لكنها كانت ترد بثقة: "اللي يجمعنا أكبر من المسافة."

أما عمر، فكان يكتب لها رسائل طويلة، يخبرها عن شوقه، عن الأيام التي يعدّها للعودة، وعن المشاريع التي يعمل عليها ليبني مستقبلًا يليق بها.

العودة

وفي صباح ربيعيّ، عاد عمر أخيرًا. لم يخبرها بموعد قدومه، بل أراد أن يفاجئها. ذهب إلى مقعد النهر الذي جمعهما أول مرة. جلس ينتظرها، وفي قلبه خوف: هل ما زالت تنتظر؟ هل تغير شيء؟

جاءت ليلى كعادتها، تحمل كتابًا. ولما رفعت رأسها ورأته أمامها، كادت دموعها تسقط. لم تصدق عينيها، لكنها جرت نحوه كطفلة ضائعة وجدت حضنها أخيرًا. قال لها بصوت مرتعش:
ــ "رجعت… وما كنتش هسمح لحد ياخد مكاني."
فأجابته:
ــ "ولا أنا كنت هسمح."

وعد جديد

جلسا على نفس المقعد، كما لو أن السنوات الماضية لم تكن. أمسك يدها وقال:
ــ "ليلى، أنا طول عمري بدوَّر على معنى للحياة… ولقيته فيك. تتجوزيني؟"

لم تستطع أن تجيب بكلمات، فاكتفت بدموعها التي قالت كل شيء.

حياة مشتركة

تزوجا بعد أشهر قليلة، وكانت حياتهما مليئة بالمحبة والصبر. واجها صعوبات كثيرة، لكنهما كانا دائمًا يتذكران أن النهر شهد ولادة حبهما، وأن الزمن لم يستطع أن يفرقهما.

كبرت قصتهما مع الأيام، وصارت مثالًا لكل من حولهما أن الحب ليس مجرد كلمات تُقال، بل صبر ووفاء وانتظار طويل، ثم بداية لا تنتهي.

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

4

متابعهم

4

متابعهم

4

مقالات مشابة