رساله لم تكتمل

رساله لم تكتمل

تقييم 5 من 5.
1 المراجعات

بداية الحكاية

image about رساله لم تكتمل

 

 

كانت رحيل تعيش في مدينة صغيرة مطلة على البحر، مدينة يغمرها الهدوء في النهار ويغرقها الحنين عند الغروب. كانت تعمل في مكتبة قديمة ورثتها عن والدها، مكان تغمره رائحة الورق العتيق وذكريات الزوار الذين مروا ذات يوم. في تلك الزاوية بين الرفوف، بدأت أولى صفحات حبها مع مهند، الشاب الذي كان يأتي كل أسبوع ليشتري كتابًا جديدًا، ثم يجلس على الطاولة المقابلة لها، لا يقرأ منه سوى بضع كلمات، بينما كانت عيناه تتابعانها بصمتٍ دافئ.

لم يحتجّا إلى الكثير من الكلمات؛ النظرات كانت كافية لتقول كل شيء. بمرور الأيام، صار البحر مكانهما المفضل، والمكتبة شاهدةً على ضحكاتهما، حتى بدا كأن المدينة نفسها تبتسم كلما التقت أعينهما.

 

---

الرحيل المفاجئ

لكن كل القصص الجميلة تُختبر بلحظةٍ قاسية. ذات صباح، اختفى مهند دون وداع، دون رسالة، دون حتى تبريرٍ صغير. فقط ترك خلفه كتابًا مفتوحًا على صفحةٍ كتب في أعلاها بخطه:

> “سأعود حين يفهم القدر ما بيننا.”

 

تجمد العالم في عيني رحيل. بحثت عنه في كل مكان، سألت أصدقاءه، حتى كتبت في الصحف الصغيرة إعلانًا تبحث فيه عن "رجلٍ غادر بصمتٍ وترك خلفه وعدًا". لكن لا إجابة جاءت، ولا أحد علم أين ذهب. منذ ذلك اليوم، لم تفارقها عادة الجلوس ليلاً أمام نافذتها، تكتب له رسالة جديدة في دفترٍ أبيض، لكنها كانت دائمًا تتوقف في منتصف الجملة، وكأن قلبها يرفض الاعتراف بانتهاء الحكاية.

 

---

رسائل لا تصل 

كانت تلك الرسائل متنفسها الوحيد. تخبره فيها عن الأيام التي تمر، عن الخيبات الصغيرة التي تشبه الغياب، وعن الكتب التي لم تعد قادرة على قراءتها لأن كلماته كانت تسكن كل سطر. كل رسالة كانت محاولة لإنقاذ ما تبقى من نفسها، لكنها كانت دائمًا ناقصة، بلا نهاية، بلا توقيع.

حتى أطلقت على دفترها اسم "الرسالة التي لم تكتمل"، لأنه لم يكن مجرد أوراق، بل جزءًا من روحها العالقة بين الماضي والانتظار.

 

---

عودة الغياب بصوت الكلمات

في إحدى الليالي، بينما كانت تغلق باب المكتبة بعد يومٍ طويل، وجدت على العتبة ظرفًا صغيرًا بلونٍ داكن. ترددت، ثم فتحته بيدٍ مرتجفة. كان بداخله ورقة تحمل خطًا تعرفه جيدًا، خط مهند. كتب فيها:

> “رحيل... لا تكملي الرسالة، لأن ما بين السطور يكفيني.”

 

تجمدت الكلمات على شفتيها. جلست على الأرض تبكي بصمتٍ طويل، كأن سنوات الانتظار كلها انسكبت دفعة واحدة. لم تكن تعرف من أين جاءت الرسالة ولا كيف وصلت إليها، لكنها كانت حقيقية كنبض قلبها.

 

— 

على حافة اللقاء

لم تستطع النوم لعدة ليالٍ بعدها. كل شارعٍ كانت تمر به تراه فيه، وكل صوتٍ في الميناء كان يشبه نبرته حين يناديها باسمها. قررت أن تذهب إلى المكان الذي جمعهما أول مرة: رصيف البحر عند الغروب. كانت الأمواج هادئة، والسماء تلبس ثوب الغروب الذهبي، حين رأت من بعيد ظلًا مألوفًا يقف عند السور الخشبي.

اقتربت ببطء، تخشى أن يكون وهمًا جديدًا صنعه الحنين. لكن قبل أن تصل، التفت الظل نحوها، ابتسم ابتسامة خفيفة، ثم اختفى وسط الزحام، تاركًا وراءه ورقة صغيرة تطايرت حتى وصلت إلى قدميها. التقطتها بلهفة، وقرأت:

> “عدتُ فقط لأُكمل السطر الذي تركناه معلقًا... ثم سأرحل من جديد.”

 

 

---

اكتمال الرسالة

في تلك الليلة، جلست رحيل أمام نافذتها القديمة. أضاءت الشمعة، وفتحت دفترها للمرة الأخيرة. بدأت تكتب، ولكن هذه المرة لم تتوقف في منتصف الجملة. كتبت بصوت القلب لا القلم:

> “مهند... عدتُ لأكتب، لا لأنتظرك. أدركت أخيرًا أن الحب ليس بقاءً، بل أثر. كنت لي وطنًا، ثم صرت ذاكرة، والآن أصبحت سلامًا. رسالتي لم تكتمل يومًا لأنك كنت الجزء الناقص فيها... وها قد اكتملت بغيابك.”

 

أغلقت الدفتر، وضعت القلم فوقه، ونظرت نحو الأفق حيث كان البحر يحتضن آخر خيوط الضوء. لم تعد الدموع تنهمر، فقط ابتسامة هادئة استقرت على وجهها. أدركت أن بعض القصص لا تنتهي بالفراق، بل بالتصالح مع ما كان.

ومنذ تلك الليلة، ظلت رسالة رحيل محفوظة في المكتبة بين الكتب، بلا عنوان، لكن من يقرؤها يشعر وكأنها كُتبت له هو شخصيًا… لأنها ببساطة تحكي عن كل حبٍ لم يكتمل، لكنه ما زال حيًا في الذاكرة.

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
Sameh Habib تقييم 5 من 5.
المقالات

1

متابعهم

0

متابعهم

1

مقالات مشابة
-
إشعار الخصوصية
تم رصد استخدام VPN/Proxy

يبدو أنك تستخدم VPN أو Proxy. لإظهار الإعلانات ودعم تجربة التصفح الكاملة، من فضلك قم بإيقاف الـVPN/Proxy ثم أعد تحميل الصفحة.