حين تُثمر القلوب قبل الأرض
حين تُثمر القلوب قبل الأرض

كانت الشمس تميل نحو المغيب حين انسكبت أشعتها الذهبية على صفحة النهر العريض، فتلألأت مياهه كأنها أساور من نور تحيط بمعصم القرية القديمة.
في تلك القرية، التي كانت تقع بين سفحين خضراوين، عاش فلاحٌ مسنّ اسمه عبد الرحيم، رجل جاوز السبعين من عمره، وقد خطّ الزمن على وجهه خرائط الحكمة والتجربة. كان الناس يرونه كل صباح متكئًا على عصاه الخشبية، يسير في حقله الواسع بخطوات بطيئة واثقة، يلمس التراب بكفّه كمن يلمس قلب طفلٍ صغير، ويقول دائمًا لمن حوله:
> “الأرض يا أبنائي لا تُطعم إلا من أحبّها.”
كان له ولدان، يوسف ومروان.
أما يوسف، فكان الابن الأكبر، قويّ البنية، متقد الطموح، يحب المال والعمل، يرى في الزراعة تجارة لا تختلف كثيرًا عن السوق، كلّ شيء فيها يقاس بما يُنتج ويُباع.
وأما مروان، فكان ناعم القلب، قليل الكلام، ينصت للطبيعة كأنها تحدّثه، ويجد في رائحة المطر وعصف الرياح موسيقى تشبع روحه أكثر من الذهب.
ومع تقدّم السنين، شعر عبد الرحيم بأن أجله يقترب، فجمع ولديه في المساء، حين كان ضوء القمر يتسلّل من بين سعف النخيل، وقال بصوتٍ متعبٍ مطمئن:
> “يا ولديّ، لقد زرعتُ في حياتي أرضًا كثيرة، لكني أريد أن أزرع اليوم فيكما شيئًا أثمن من القمح.”
نظر إليه يوسف بعين متلهفة، كمن ينتظر نصيبًا من الميراث، بينما كان مروان يطأطئ رأسه احترامًا لأبيه.
تابع الشيخ قائلاً:
“قسمتُ الأرض بينكما، لكني لم أقسمها بالمتر والحدود، بل بالنية التي تسكن القلب.”
أعطى يوسف الجزء الغربي من الأرض، وهي أرضٌ قريبة من النهر، رطبة خصبة، تُنبت الزرع بمجرد أن تمسّه البذور.
وأعطى مروان الجزء الشرقي، بعيدًا عن النهر، يابسة قاحلة، تملؤها الحجارة.
قال يوسف مستغربًا:
> “أبتاه، أهذا عدل؟ تعطي أخي الأرض الميتة وتعطيني أنا الأرض التي تفيض حياة؟”
ابتسم الشيخ وقال:
“هي قسمة القلوب يا يوسف، ولكلٍّ رزقه بما نوى. تذكّرا ما أقول لكما الليلة: البركة لا تسكن الطين، بل تسكن القلب.”
ثم أغمض عينيه ورحل في هدوء.
مرت الأيام، وبدأ كلٌّ من الأخوين رحلته مع أرضه.
يوسف، بثقته المفرطة، استأجر عشرات العمال، وبنى مخازن ضخمة، وزرع الأرض بأنواع القمح والشعير. كان يراقب أرضه من بعيد، لا يمدّ يده إلى التراب إلا ليحسب الربح. وكان كلّما رأى الحقول تفيض خضرة، يقول متفاخرًا:
> “ها هو تعبُ العقل يجلب الذهب.”
أما مروان، فكان وحده في أرضه القاحلة، يضرب بالفأس كل صباح، فيعلو الغبار حوله كغمامةٍ صغيرة. كان يحفر الأرض الصخرية وهو يهمس:
> “اللهم اجعل في قلبي بركة تعينني على هذه الأرض.”
كان المارّة يسخرون منه، وبعضهم يضحك قائلًا: “إنه يزرع الصخر!”
لكن مروان كان يبتسم ويقول: “من زرع الأمل لا يعرف الخسارة.”
وذات يومٍ من أيام القيظ، حين اشتد الحر حتى بدت الأرض تتنفس لهبًا، جلس مروان تحت ظلّ صخرة، وقد أنهكه العطش، وبينما هو كذلك رأى عصفورًا صغيرًا قد سقط بجانبه يلهث من شدة الجفاف.
نظر إليه مروان بعطف، ورفع قربته التي لم يبق فيها سوى بضع قطرات ماء، ثم صبّها في راحة يده وسقا العصفور قائلاً:
> “اشرب يا صغيري، فالله أكرم من أن يضيع من رحم مخلوقًا ضعيفًا.”
شرب العصفور ورفرف بجناحيه، ثم حلق في السماء مطلقًا زقزقة كأنها شكرٌ خالص.
ابتسم مروان، وأغفى قليلًا.
وعندما استيقظ، رأى في المكان الذي كان فيه العصفور شيئًا يلمع بين التراب، فمدّ يده فإذا هي بذرة صغيرة زرقاء بلون السماء.
ضمّها إلى صدره وقال:
> “ما هذه إلا هدية من الرحمن.”
زرعها في قلب أرضه، وسقاها من بئره الذي حفَره بجهده، ثم مضت الأيام وهو يعتني بها كما يعتني الأب بولده.
وبينما كانت أرض يوسف تفيض بمحاصيلها، كان مروان يسقي بذرته الوحيدة بصبرٍ ويقين.
لكن ذات ليلة، استيقظ أهل القرية على عاصفة عاتية لم يروا مثلها من قبل، رياح عاتية اقتلعت المزروعات وأغرقت الحقول.
وفي الصباح، خرج الناس يرون ما حلّ بأراضيهم، فوجد يوسف أن ماء النهر قد فاض ودخل إلى حقله، فأتلف محصوله كله. وقف مذهولًا، يضرب الأرض بقدمه صارخًا:
> “خانتني الأرض! كيف بعد كلّ ما أنفقت؟!”
أما مروان، فقد خرج إلى أرضه، فإذا بالبذرة الزرقاء قد نبتت خلال الليل، وخرجت منها شجرة غريبة لم يرَ مثلها أحد. كان جذعها فضيًا لامعًا، وأوراقها خضراء كأنها صيغت من نور، تتمايل مع النسيم بنغمة عجيبة.
اقترب منها مروان، ووضع يده على الجذع، فشعر بدفءٍ يسري في جسده كأن الحياة تناديه.
ومع الأيام، أزهرت الشجرة وأثمرت ثمارًا صغيرة تشبه أكياس الحرير، وفي داخل كل ثمرة حبة قمح ذهبية، يضيء لونها كما لو كانت قطعة من الشمس.
حمل مروان بعض هذه الحبوب إلى بيته، وطحنتها زوجته، فلما خبزتها، فاحت رائحة الخبز في أرجاء القرية كلها، رائحة لم يعرفها أحد من قبل.
ذاقها مروان، فوجدها لذيذة إلى حدٍّ جعله يبكي شكرًا لله.
قال لزوجته:
> “لن نبيع هذا الخبز، بل سنطعم به من لا يجد قوت يومه.”
ومن ذلك اليوم صار بيته مأوى للفقراء، يأتي إليه الناس من القرى المجاورة، فيخرجون بقلوب راضية ووجوهٍ باسمة.
وحين وصل الخبر إلى يوسف، اشتعل قلبه غيظًا.
قال في نفسه:
> “كيف يعلو هذا الكسول على عملي وعرقي؟ لابد أن في الأمر سحرًا.”
وفي ليلةٍ مظلمة، تسلل يوسف إلى أرض أخيه، واقتطف بعض ثمار الشجرة الفضية، وأخفى البذور في جيبه، ثم عاد إلى أرضه وزرعها وهو يقول:
> “سأريكم من الأجدر ببركة السماء.”
وفي الصباح، ذهب يتفقد أرضه، فإذا بالبذور قد نبتت بسرعة، لكنه لم يجد شجرة فضية ولا قمحًا ذهبيًا، بل رأى أرضه تموج بشجيرات سوداء، أوراقها متغضنة وأشواكها كالحراب.
وما هي إلا أيام حتى غطّت الأشواك أرضه كلها، وبدأت تفوح منها رائحة العفن، وتيبست التربة حتى لم تعد صالحة لشيء.
جلس يوسف على الأرض يبكي، وهو يردد:
> “ما هذا البلاء؟ لقد سرقت البركة، فلماذا انقلبت عليّ لعنة؟!”
أما مروان، فقد اكتشف في اليوم التالي أن بعض ثمار شجرته سُرقت، لكنه لم يغضب، بل جلس تحتها وقال:
> “سامحه الله من ظنّ أن البركة تُسرق.”
ثم رأى بعينيه كيف نبت في مكان الثمار المسروقة ثمرتان جديدتان أكثر لمعانًا وجمالًا من ذي قبل، فابتسم وقال:
> “العطاء لا ينقص شيئًا، بل يضاعفه الله لمن أحسن النية.”
وبعد أسابيع، ضاقت الدنيا بيوسف، فقد خسر ماله وزرعه وعماله، ولم يبقَ له سوى بيت مهجور وأرض مليئة بالشوك.
وفي يومٍ من أيام الشتاء، حين اشتد البرد وسقط المطر كأنه دموع السماء، جرّ يوسف قدميه نحو أرض أخيه.
كان مروان واقفًا يوزع الخبز على الفقراء تحت شجرته، فلما رأى أخاه قادمًا، ترك كل شيء وركض نحوه، عانقه بحرارة وقال:
> “حمداً لله على سلامتك يا أخي.”
انفجر يوسف باكيًا وهو يقول:
> “لقد كنت أحمقَ مغرورًا، أردتُ أن أزرع الطمع فحصدتُ الشوك. سامحني يا مروان.”
قال مروان وهو يمسح دموعه:
“إن الله غفور رحيم، يا يوسف، الأرض التي خربتها بيدك ستعود إذا عمرتها بالرحمة. تعال، اعمل معي، ولن نكون من اليوم إلا أخوين في الخير.”
ومنذ ذلك اليوم، عملا معًا في أرض مروان، ثم أخذا الماء من بئره وسقيا به أرض يوسف، فبدأت الأشواك تموت، وتخرج مكانها براعم خضراء صغيرة كأنها تبشّر بولادة جديدة.
وبمرور الوقت، عادت أرض يوسف إلى الحياة، وصار يعمل فيها مع أخيه بصدقٍ وتواضع، لا ليربح، بل ليطعم الجائعين ويكفكف الدموع.
كبرت الشجرة الفضية، وأصبحت ظلًّا للعابرين ومأوىً للعصافير، وسمّيت في القرية “شجرة الرحمة”.
وصار الناس يروون حكاية الأخوين لأولادهم، ويقولون:
> “البركة لا تسكن الأرض، بل تسكن القلب، ومن سقى قلبه بالمحبة سُقيت أرضه بالخير.”
وفي مساءٍ هادئ، جلس مروان تحت شجرته، وإلى جانبه يوسف، يشاهدان الأطفال يلعبون قرب النهر.
قال يوسف:
> “يا أخي، لم أفهم وصية أبينا إلا الآن.”
ابتسم مروان وقال:
“ولا أنا فهمتها حتى زرعت بذرة الرحمة.”
فسكتا قليلًا، ثم قال مروان وهو يحدّق في الأفق:
> “العجيب أن الأرض تشبه الإنسان يا يوسف، كلاهما لا يعطي إلا بقدر الحبّ الذي يُمنح له.”
وهكذا بقيت القصة تُروى جيلاً بعد جيل، لتشهد أن البركة لا تُشترى ولا تُورث، بل تُزرع في القلب وتثمر في الحياة