رواية الواحة الملعونة آية عبد الفتاح
الفصل الخامس
أنف صغير الحجم لكنه يلتقط مئات الروائح ، يفندها ، يفرزها ليميز كل واحدة منها ، و يخزنها في الذاكرة
من أحب هذه الروائح ......رائحة شخص عزيز عليك يضمك فتستنشق نسماته الدافئة ، تريد أن تعيش عمرك كله بأحضانه ، كنسماتها الغالية و أحضانها الدافئة ،
و رائحة بيتك....هل للبيوت رائحة ؟ نعم تلك التي تهب عليك بمجرد أن تخطو عتبته ، فتنعش حواسك ، تشعرك بأمان يضمك كما تضم الأم وليدها .....
كبيتها الصغير الدافئ تفوح رائحته المختلطة برائحة الطعام ، تشعر به يضمها إليه بدفئ يزيل عنها صقيع الهموم و الأحزان ......
"هاه إيه رأيكم في الشقة بقى، هي صغيرة و بسيطة لكن حلوة و بحري...... "
انتشلها من ذكرياتها صوت العم حسين و هو يصف لهم الشقة
، لتقول فرح بتيه ، و مازال قلبها عالق بأطراف ذكريات بيتها الدافئ :"هاه....."
أخذت نور المفتاح منه لتقول له :"كتر خيرك يا عم حسين ...."
رافقته إلى الباب تغلقه وراءه جيدا بعد مغادرته ، و جلست بجوارها تسألها :"مالك يا فرح ...في إيه ؟"
مسحت فرح دمعة سقطت من عينيها ، و هي تقول بصوت خنقته غصة : "البيت وحشني اوي يا نور ...حضن أمي وحشني ..كل ده و انا معرفش عنهم حاجة ..."
شهقت بخفوت لتكمل :" يا ترى عاملة ايه دلوقتي ...أكيد هتتجنن عايزة تعرف أنا فين "
عضت نور شفتيها تحاول أن تكتم موجة بكاء أصابتها ، محتضنة صديقتها تربت على رأسها ، قالت كأنها تواسي نفسها هي الأخرى : " متقلقيش يا فرح ان شاء الله هنعرف نخرج من هنا و نرجع بيتنا تاني "
اختلط صوت الأخرى بشهقات بكائها :" أول مرة أبعد عنها كل ده .. "
مسحت نور عبرة فلتت من عينيها ، هي أيضا تعاني ، بل تشعر بأنها عادت تلك الطفلة التائهة البعيدة عن حضن والدها ، تريد أن تبكي ليحضر و يأخذها ، ترتمي بأحضانه فيربت على ظهرها ، يطمئنها بصوته الدافئ الحنون أنه معها ....
سكتت لا تعرف بماذا تواسيها
استرلست فرح بحديثها :
"احنا بقالنا شهرين من يوم ما سافرنا عشان البعثة ، و كنت كل يوم بطمن عليها في التليفون ،دلوقتي مش قادرة أكلمها "
ربتت نور على كتفها :"متعيطيش يا فرح إن شاء الله هنعرف نرجع ...و زمانهم بيدوروا علينا دلوقتي و هيلقونا متقلقيش ....يلا وريني ابتسامتك الحلوة "
زينت وجهها ابتسامة حزينة بين ستار الدموع ....فأعادتها نور إلى أحضانها ، تدعي الله بأن يجمعهم بأحبائهم مرة أخرى
*******************
استلقى على اريكته يناشد النعاس ليزور عينيه و يريحه من إرهاق يوم طويل في العمل ، أطلق تنهيدة طويلة فأخيرا اطمئن قلبه عليهما ، فهما الآن تحت سقف بيته و رعايته ......
"أنت إزاي تعمل كده ؟"
انتفض يحوقل و يبسمل ، تلك السيدة ستصيبه بسكتة قلبية يوما ما
اقتربت منه تهزه بعنف من كتفه ، حانقة :"قوم كلمني زي ما بكلمك "
مسح وجهه بتأفف يعلم أن محاضرة تفيدة ستبدأ الآن لكن ليس وقتها يريد النوم فقال بصوت مرهق : "مش وقته يا تفيدة أنا تعبان و عايز أنام "
استندت بإحدى كفيها على الأريكة و الأخرى تمسك خصرها عاقدة حاجبيها بإصرار :"لا وقته أنا عايزة أفهم... ازاي تعمل كده ؟ ...ازاي تدخل بنتين في بيتك من غير ما تعرف أصلهم و لا فصلهم ...؟ "
تأفف منها قائلا :"يعني يرضيك أسيب بنتين في الشارع و أنا في إيدي أساعدهم .. اعتبريهم زي بناتك "
أشاحت بوجهها عنه تعترض : " أنا مقولتش متساعدهمش ...كان ممكن تخليهم يباتوا في أي لوكنده "
تجاهل صياحها العالي ، و نهض يتجه إلى غرفته فتبعته لتكمل محاضرتها ، تطلق كلماتها الغاضبة مثلها :"بنات زي دول أغراب عن المدينة تدخلهم بيتك و تصرف عليهم و هما أغراب.... يا حسين ! "
-"معهمش بطاقة إزاي هيباتوا في لوكندة "
- :"تقوم تجيبهم بيتك ... أنا معرفش أنت ازاي واثق فيهم كده ؟.."
خلع حذاءه مستلقيا على الفراش ، يغلق الضوء متجاهلا وجودها ، يغمض عينيه
فاشتعلت منه غيظا ، وكزته في كتفه تصيح بحنق : "حسين أنا بكلمك رد عليا متسبنيش و تنام ...."
جلست على فراشه ، تهز جسده بغيظ :"حسين ...يا حسين "
قال لها و هو يتثائب :"بعدين نتكلم ...متنسيش تصحيني على العشا "
تركها تشتعل من الغيظ و سافر إلى جزيرة أحلامه ،
أما هي فخرجت من الغرفة تغلي منه ، تغلق الباب بعنف تبرطم بغيظ ......
*************
دخان ضبابي تكاثر أمامها يحيط بها من كل مكان ، و سكون مخيف لا يقطعه سوى صوت الرياح الثائرة فتزيد دقات الخوف بقلبها .. تراجعت خطواتها للخلف ، و مقلتاها تدوران في محجريها بخوف ، لم ترى ذلك الجسد المبهم فتعثرت تسقط على الأرض ، تتدحرج حتى توقف جسدها ، نهضت متكئة على كفيها ، تلمح عينين تضيئان في الظلام تسارعت أنفاسها و زحفت للخلف بجسدها المرتعش....
اثنان أربعة ستة ....العينان أصبحوا أعين في ثوان ، نهضت تركض و تسارع الريح
تتلفت خلفها ....
والعيون تلاحقها بسرعة هائلة ، اصطدمت بجدار ظهر لها من العدم لتسقط على الارض ، نهضت تنظر للأعين الكثيرة التي تحاصرها ...
لينقشع هذا الضباب و تظهر عدة ذئاب تحدق بها ...تقترب منها ببطئ مميت لأعصابها ..
فتلتصق هي بجدار ترجوه أن ينشق يخفيها بداخله ، حاولت الصراخ لكن صراخها سجن بحلقها يأبى الخروج، تشعر بدقات قلبها تكاد أن تتوقف من فرط الرعب هل هذه هي النهاية أم ماذا؟
وفجأة قفز ذئب بفروه الأبيض أمامها ، فشهقت برعب يزيد من ارتعاد أوصالها .... أصدر الذئب زمجرة غضب مخيفة ، يحوم حولها و يشهر أنيابه لهم
كأنه يحذرهم من الاقتراب ... فهدأت قليلا تراقبه بحذر
لكن الذئب التفت بعينيه السوداء لها يلعق شفتيه لضحيته الشهية التي ستصير بمعدته بعد لحظات ، و هنا استطاعت أن تحرر صرختها لتدوي في المكان ....
........
استيقظت فزعة جراء صرخة نور التي تنام جوارها في الفراش نفسه ، هزتها فرح بعنف قائلة : "نور اصحي ده حلم اصحي ...."
نهضت تحاول انتزاع أنفاسها المتلاحقة ، تنظر حولها بخوف ، و جسدها كأنه سُكب عليه الماء ...
ناولتها فرح كوب ماء موضوع على الطاولة جوارها قائلة : "أهدي يا نور ده كان كابوس اهدي ....اشربي المية دي"
أخذت منها الكوب بيدها المرتعشة و شربت بضعة رشفات و أعطته لها ، تقول وسط لهاثها : "الحمد لله أنه كان كابوس الحمد لله ....."
اعتدلت صديقتها في جلستها :"احكي لي شوفتي إيه "
بدأت نور تروي لها الكابوس العجيب و بعد أن انتهت أردفت :" أنا مش مرتاحة للمكان العجيب اللي أحنا فيه يا فرح ... كل ما بيمر يوم علينا بحس بالخوف و القلق في
المكان ده و من اللي حوليا "
- :"قصدك عم حسين ...شيلي الأوهام دي من دماغك الرجل كويس معانا و فتحلنا بيته و قاعدنا فيه من غير ما يطلب فلوس "
- "مهو ده اللي قلقني و مخاوفني يستضيف ناس ميعرفهاش و يسكنها الشقة بتاعته من غير فلوس و دفع اجرة المستشفي .. كل ده من غير مقابل ... اكيد في سبب خلاه يعمل كده "
استلقت فرح على الفراش مرة أخرى ، تقول لها و هي تتثائب : "متفترضيش سوء النية ... الراجل طيب و جدع مش اكتر و بيعاملنا زي بناته زي ما بيقول نامي ... و شيلي الأوهام دي من دماغك ...."
أغمضت عينيها عائدة لنومها ...
أما نور فقد سرق هذا الكابوس النوم من عينيها ، نهضت من الفراش متجهة إلى الشرفة تراقب القمر الذي اقترب للاكتمال ، تأملته و هو متربع على عرشه و حوله نجوم صغيرة تتلألأ حوله ليزداد جمالا ، و رغم مشهده البديع إلا أن عقلها سبح بعالم أفكاره لدقائق.. لتُقطع أفكارها ، وتتسع عينيها بدهشة و هي تنظر إلى القمر الذي ظهرت له عينان خضراوان يشعان بطريقة غريبة ، و مثلما ظهرتا فجأة اختفتا فجأة ، و عاد كل شئ كالسابق ........
رمشت نور عينيها عدة مرات تحاول أن تستوعب هل حدث ذلك فعلا ؟ أم هي تهلوس بسبب هذا الكابوس ؟ .....
************
تنزل أخر درجات السلم متنازلة عن عرشها لملك اخر ، تسحب ذيل فستانها ساحبا معه حمرة الشفق ، الذي يودع السماء ، يرسل أخر خيوطه الحمراء لها
لتتدحرج دمعة فلتت من اسوار عينيها تجر معها ذكرى جميلة لم تنسها
****
حلوى حمراء لذيذة بهالتها المتلألأة تسقط ببطئ في فمه فتتلون خدي مياة البحر بحمرة شفق ، تخطف ألباب و عيون المحبين ، ينحسر الشفق تدريجيا ، و قبل أن يغادر ودعهم بخيوطه الحمراء الأخيرة التي سقطت على بيتها يزينه بهالته تضع أخر لمساتها على البيت ، تتنهد تراقب بخوف مياة البحر التي تندفع سريعا نحو بيتها و تدنو منه تكاد تهدمه بعد تعبها في صنعه ، و لكن تسقط المياة في حفرة حفرتها حوله لتحمي بيتها الرملي من الهدم ....فابتسمت باطمئنان لكن سقطت عليه قطرات من الماء تهدم أحد جدران البيت
نظرت بغيظ لها تراها تضحك ملئ شدقتيها تحت ضوء الأحمر فيضفي لوجهها بهاء مشرق ، ابتسمت قليلا لأختها ، لكن نهضت فجأة تقبض بيدها على بعض الرمال
ركضت نور قائلة :"نورين خلاص يا مجنونة "
لم تتركها ركضت خلفها تقذفها بكرة الرمال
للتفادها نور بسهولة متجه إلى البحر
لم تستسلم الأخيرة ركضت خلفها ترشقها بالماء ، و ظلا يتصارعان بالماء حتى تعبا
جلست نورين بجوار بيتها الرملي تلهث بشدة
سمعت اختها تقول و هي متجه إلى البحر ثانية : "يا بنتي في واحدة في سنك لسه بتلعب في الطين ، ده انتِ داخلة الجامعة "
التقطت انفاسها مبتسمة : "اه أنا ،و أنتِ مالك ..."
-"تعالي طيب خديلك غطس دي المية جميلة"
-"لا و أنتِ متعبتيش بقالك كتير في المية "
، فتبتسم لها ملوحة متجه الى البحر تهتف :"مفيش أحلى من المية ، أنا هروح أخد غطس على ميجي بابا "
أوقفتها نورين لتركض نحو هاتفها ، و تحبس هذه اللحظة بصورة لها ....
و بعدها تركتها لتسبح بالماء قليلا كما تشاء ...
تأملت صورتها على الهاتف ، عينان عاد لهما الحياة و صارتا يتلألأن بفرح ، و وجنتان دب فيهما الدماء لتشرقان بضوء الشفق الذي سقط عليهما ، اختلط بحمرة فستانها الخلاب لتزيدهما جمالا على جمال
و فم يبتسم بعد عام من الأحزان سكن قلبها الأبيض ، عام كامل خيم الحزن على بيتهم الصغير ، بالأخص أختها نور ، كانت حزينة دائما لا تتكلم كثير ، تبكي ليلا و تكتم بكائها بوسادتها ، غير منتبه لاهتزاز جسدها الذي تشعر به كل يوم ، و بعد هذا الحزن ، قرر والدهما سرقة أسبوع من دراسة شهر سبتمبر ليودعوا الحزن و يُدخل إلى قلب أبنتيه الفرح ، و سافروا إلى الاسكندرية
.......
لوحة خلابة تحت السماء الحمراء أرادت الاحتفاظ بها ....
، لم تعلم أنها أخر صورة تلتقطها لها قبل اختفاءها....
تدحرجت دمعات أخرى تتسابق ليسقطوا على صورة نور...
_"نورين يا نورين..."
انتفضت من الصوت تمسح دموعها سريعا ، و تغلق هاتفها قبل أن تلتفت لتلك المتطفولة التي اقتحمت هالة حزنها و قطعت سيل ذكرياتها ...
، دنت منها الفتاة تتوقف خلفها تكرر ندائها ، استغرقت نورين عدة ثواني لتسيطر على عضلات وجها و تجبرها كسرا على انفراج فمها و رسم ابتسامة فخرجت منها مصطنعة ، خرج صوتها مختنق رغم محاولاتها الفاشلة للسيطرة عليه :" أزيك يا رانيا... عاملة ايه "
ابتسمت الفتاة لها و قالت :" أنا الحمد لله بس أنتِ ايه اللي مقعدك هنا لوحدك فين صحابك ...؟"
ربط لسان الأخيرة و علقت الحروف بجوفها لم تستطع تكوين جملة واحدة
سألتها الفتاة بلزوجة تضغط عليها :"مالك يا بنتي بقيتي تقعدي لوحدك اليومين دول و مبشفكيش معاهم ، هو انتوا متخاصمين؟"
لاحظت رانيا اختناق صوتها و احمرار أنفها فسالتها : "مالك هو انتي كنتي بتعيطي و لا ايه ؟"
ارتعشت ابتسامتها المصطنعة تحاول التحكم في حروفها المضطربة و كلماتها المبعثرة :"متخصمين ايه ...يبنتي بس ....
بعيط ايه ...بتجيبي الكلام ده منين؟"
ضيقت عينيها في شك تهتف : "امال قاعدة لوحدك ليه ؟"
ضيق السؤال الخناق على نورين و حاصرتها ، ارادت ايجاد مخرج للهرب من هذا الصقر ، فابتلعت لعابها محاولة سيطرة علي توترها ليخرج صوتها مرتبك الكلمات :"قاعدة لوحدي عـ.....عادي ...مفيش.. حاجة متقلقيش "
كادت رانيا أن تتحدث و لكن نورين قالت :"سلام بقي يا رانيا عشان اتأخرت "
أخذت حقيبتها تنزل السلم سريعا قبل أن تفتح فمها ثانية ،
اسرعت الخطى إلى بوابة الجامعة ، تخرج تاركة قيادتها لقدميها التي حفظت دربها عن ظهر قلب ، أم عقلها ظل يفكر فيما قالته رانيا ، تلك الفتاة تمتلك عيني صقر حادة ترصد فريستها الصغيرة على ارتفاع عالي ، تلاحظ أدق التفاصيل ، هوايتها تركيز مع الأشخاص و جمع معلومات عنهم ، بذكائها الحاد تجمع ما لحظته يستنتج ماذا يحدث في وقت قياسي ، هي الوحيدة التي لاحظت ذلك ، و أصدقائها لم يشعرن باختلاف ابتسمت ابتسامة جانبية ، هؤلاء ليسوا كذلك ....اكملت طريقها و عقلها يسبح في ملكوته غير منتبه لما يحدث حوله ...
************
جسدها يسبح في ظلام دامس و سكون رتيب يلفها ، لا يقطعه سوى صوت أنفاسها الرتيبة ، لا طاقة لها أن تشعل ضوء واحدا يحارب الظلام فهو تسرب إلى قلبها و تمكن منه ، لتمطر عليه غيمات حزن وسط ليل معتم خيم عليها ....
لا يؤنس وحدتها سوى دمعات تجود بها عينيها مربتة بها على قلبها الحزين ، تخفف من هوة ظلام تكاد تبتلعها .. استغل أشباح الليل ظلامه الدامس ، حاصروها ليستحوذوا عليها و يقتاتوا من بقاياها ، يوسوس لها أحدهم :
-"لقد هجرك الجميع ، أختك أمك حتى والدك الذي يتنفس الألم كل يوم ، أتخذ من العمل حصنا من ألامه و أحزانه ، أنه لا يأتي إلى البيت ألا للنوم هربا من الذكريات التي صارت كوحوش ضارية تطارده في كل مكان بالبيت ، تركك وحيدة تغرقين في ظلمة الذكريات و الحزن ......."
نفضت رأسها من وسوسته ، فقابلها شبح أخر يبتسم بسخرية و يقول لها :" تسأل رانيا عن اصدقاءك ، أين هم ؟ أصدقائك الذين يضعنك على هامش حياتهم لا يبحثون عنك أو يتحسسون أخبارك إلا حين يحتاجون إليك ، لا يتحدثون معك أو يبتسمون بوجهك إلا إذا غاب البطل الرئيسي فأنتِ تلعبين دور الكومبارس في حياتهم العادية ، لا يتبادلون الأحاديث معكِ سوى بتحية باردة ، و حضن روتيني اختفى منه الدفئ هم ليس بأصدقائك ...."
سدت أذنها عن تلك الوسوسة
فارتفع صوته أكثر وقد زادت ابتسامته انتصارا يذكرها بذكرى تتناساها ، بل و أقرن صوته السام بمشهد تصويري يعرض أمام عينينها .......
تثني ساقها كل دقيقة من الألم تتبادل أقدامها وردية الوقوف ، تكاد تتخلى عنها و تسقطها ...تأففت بضيق كل هذا و لم يأتي المترو لكي يقلهم إلى محطتهم المنشودة......
ابتسمت حين سمعت صفارة المترو تعلن عن قدومها و دخولها المحطة توقف أمامها ، دخلت معها وسطهم تقتحم الحشد الغفير ، تحشر نفسها وسط هذا وذاك لتصل هي و صديقتها إلى ركن بجانب الحائط ، يجلسا على الأرض فقد تعبت أقدامهم من الوقوف ،
غزل النعاس مغزله يجذب جفنيها ليصنع من النوم رداء تلتحف به و تغط بنوم عميق ، اراحت رأسها على كتف صديقتها و اسلمت نفسها لنعاس يفصلها عن ضوضاء المترو و صياح البائعين داخله ، لكن هيهات عادت إلى أرض الواقع بدفعة تزيح رأسها عن ذاك الكتف ، تدفعها عنها كأنها مرض معدي تخاف منه ...
أعتدلت بجلستها في حرج من نظرات تلك الفتاة....
.....
توقف الفيديو فلم يستسلم شبحها و أتاها بذكرى أخرى سيئة
تُذكرها بكثير من المرات التي تحدثت فيها تلك الفتاة بطريقة جافة معها ، تلقي عليها كلمات مثلها ، و كيف كانت تقول لها بجفاء ابتعدي لاننا نحكي عن اسرار بيننا....
و ذكرها كيف كانت تحاول خلق الأحاديث معهن ، لكنهن لا ينتبهن لها كأنها سراب يقف بينهن ، يظلن يتحدثن مع بعضهن ....... تذكرت الكثير و الكثير من المواقف الباردة التي جمعتهن ، فجفت أوراق صداقتهن و تساقطت بل تجمع عليها الثلوج فبردت و ماتت شجرة صداقتهن ، صارت تختلق الحجج و الأعذار للابتعاد عنهن ،و أضحت جامعتها برد قارس تهرب منه ،
لكنها اتخذت من هاتفها صديقا لها يؤنسها في تلك الجامعة الباردة فهي لن تفرض نفسها عليهن ، شيدت من روايات التي تقراءها عالما ، و من شخصيات الروايات اصدقاء تخترق عالمهم ، تعيش معهم بكل جوارحها تتفاعل مع أحداثها ، تبكي لحزنهم ، تفرح و تبتهج لأفراحهم ، شيدت عالم افتراضي من الروايات تحارب به وحدتها الموحشة ، و بات سور الجامعة مكانها المفضل و مهربها الوحيد الذي تذهب إليه تخترق فجوة عالمها ، تتحدث مع اصدقائها ...تواسيهم و تفرح معهم ،
نفضت رأسها من وسوسات أشباحها لتغادرها قواها كما هجرها الجميع و تسقط على فراشها تتلمس أصابع أختها التي لامست وسادتها ، تكورت على ذاتها تبني شرنقة من ذكريات تستمد عطر نور المتشبث بوسادتها ، مكتفية به عن العالم فهي صارت كشجرة جافة الأغصان غادرها ضوء الشمس ، تخلى عنها صاحبها متوقفا عن ريها بالماء فصارت تبحث بجذورها عن ماء ذكريات تحتفظ به الأرض ، تقتاط منه ما يبقي روحها الحزينة متشبثة بجسدها متمسكة بذرة أمل واحدة و هي عودة أختها المختفية تعود لها كأم و صديقة و أخت لها
سكبت دموع اكثر على وسادة نور لتتشربها بترحاب تربت عليها بعطر أختها المفقودة لتتمتم بين شهقات بكاء : أين انت يا نور ...أين انت؟ ....
************
تسابقت نسمات الخريف فيما بينها ، تلعب و تعلو ، تبعثر أوراق الشجر من أغصانها تلفها بدوائر ، تهدهدها و تصعد بها حتى تنثرها بعشوائية في الطرقات تتساقط كالمطر على الارض ، و هذه المرة اخترقت نافذتها تبعثرها على وجهها ، فتتعلق الأوراق بخصلاتها القصيرة ، تداعب النسمات خصلاتها و تدخل بين ثناياها فتتأرجح مرتبكة بين حبال ذكرياتها لتسقط بعض الأوراق منه كصاحبته التي تتأرجح بين حبال الذكريات ، تسافر بها إلى ذكرى الخريف ....
تبعثر الرياح أوراق الخريف بوجهها تتشبث بخصلاتها الناعمة ، تبتسم نورين و تخلصها من أوراق الشجر تضمها إليها تقبلها ، تهمس لها همسات ، ثم تبعثرها في الهواء تماما كأمها تودعهم كل خريف تبعثرهم في الهواء فهي كائنات تشعر مثلنا ، و هذه أوراق شجرتهم التي زرعتها والدتهم أمام البيت و اعتنت بها و بأوراقها حتى صارت جزء من عائلتها الصغيرة ....
.....
أطلقت زفرة طويلة تتأمله بعبائته السوداء المرصعة بجواهر متلألأة ، قد اكتمل نموه و اصبح بدر ، طافت عينيها على الطرق و المحال ، شوارع خالية من الناس و محال مغلقة ، لقد أخبرها عم حسين ان اليوم عطلة تغلق فيه المحال قبل الليل ، التفتت إلى فرح التي غلبها سلطان النوم مبكرا بعد تناولها الغداء الذي أتى به عم حسين ، تعجبت لنومها بهذا الوقت ، ضيقت عينيها قليلا و عقلها يدق مسمار شك أخر هي لم تأكل من هذا الطعام متعللة بتعب معدتها ، هل يحتوي الطعام على مخدر أم شئ أخر ؟
ركضت نحوها تضع يدها مقابل أنفها تعد أنفاسها لتتنهد بعدها بارتياح ، خوف موحش أطبق على أنفاسها فجأة ، خنقها رغم رياح القوية ، و قبضة خوف تقبض على قلبها ...
ثواني و شق سكون الليل أنين خافت و تأوهات متألمة ، عادت إلي النافذة تشاغل نفسها بتأمل القمر عله يلهيها عن الخوف الذي تسرب اليها ، لتفرك عينيها فجأة حين انبثقت عينان خضراوان من القمر كالليلة السابقة ، أغلقت عينيها عدة مرات و لكن لم تختفي العينان ، بل ظلتا محدقتان بها ، و فجأة أصدرا ضوء أخضر شديد أعمى عينيها ...
انتفضت مبتعدة عن النافذة تجري و تجلس بجوار الأخرى ، تهزها لتستيقظ ، لكن الفتاة في عالم أخر لا تستجيب لندائها
مازال الشعاع الأخضر يعبث بالغرفة كما عبث بدقات قلبها ، أطبقت جفنيها بخوف و شرعتهما من جديد ،لكن أين الضوء نهضت باتجاه النافذة ،لقد اختفت العينان و القمر كما هو ، أمسكت رأسها متعجبة ، هي متأكدة انها رأت العينان و شعاع الضوء ، قرصت وجنتها تتأكد انها لا تحلم ...
نعم هي ليست بحلم كل شئ حقيقة ...
عادت الأنات و الهمهمات المتألمة تشق سكون الليل المخيف مقتحمة أذنها تجذبها إليها ، إنها قريبة ، تتبعت الصوت بفضول غلب خوفها مرجحة احتمال وجود شخص متألم أو يحتاج المساعدة بهذا الليل الموحش ....
دنت من باب الشقة كل خطوة تخطيها تزداد معها ضربات قلبها ، هل تتراجع متجاهلة الأنات المستغيثة بها ، أم تنقذها ؟ تراجعت يدها المرتعشة ثانية و لكن وخز ضميرها اجبرها على جمع شتات شجاعتها تفتح الباب ...
نزلت بخطوات مرتعدة مرتعشة تريد الهروب من فيلم رعب الذي اخترقته ، لكن فضولها غلبها ودفعها دفعا لحب الاكتشاف.. و ضميرها يوخزها لتنقذ المتألم
كلما نزلت درجات السلم تزداد الهمهمات ، تتبعت الصوت حتى صارت أمام شقة بدور الأرضي يغلقها قفل ، قربت اذنها من الباب الهمهمات هنا ، بحثت بعينيها على أي شئ حاد ، تفتح به باب الشقة عثرت على فأس كسرت به القفل ، زادت الهمهمات المتألمة ، فتتبعت أثرها ، تجمدت قدماها فجأة ، اتسعت حدقتيها ، و شهقة مرتعبة كتمتها بصعوبة . ..
************