المتحولون ( رواية رعب )

المتحولون ( رواية رعب )

0 المراجعات

(1)

حينما ظهرت صورة الرحم على جهاز السونار كانت المفاجأة أكثر من سعيدة للزوجة الشابة " منى " ..

كان من حق " منى " أن تفرح ، وأن تنتشي ، بل حتى أن تتحزم وترقص وتغني ، دون أن تخشى ملامة من أحد ، ومن ذا الذي كان سيلومها ؟

سيدة مضى على زواجها تسعة أعوام دون أن ترزق بطفل ، وتحملت الكثير من ازورار زوجها عنها في الفترة الأخيرة ، ومعايرة حماتها التي لا تنتهي ، تجد نفسها بعد تلك السنوات التي كانت في طول زمن بأكمله ، وقد منّ الله عليها بالحمل ، ليس هذا فقط ، بل تكون المفاجأة الأخرى ، بعد ثلاثة أشهر في انتظارها ، وإذ بها تحمل طفلين ، وليس طفلا واحدا ..

توأمان سعيدان جاءا أخيرا ، ليدفعا عنها ذل الملامة والتعيير والتهديد بتزويج الزوج بأخرى، لتنجب له الذرية المنتظرة ، إنكم - يا من تضحكون وتمصمصون بشفاهكم هناك - لا تعرفون معنى زوجة لا تنجب لتسع سنوات في قرية في الصعيد ، هذا يعني ببساطة أنها يجب أن تبرّئ زوجها ، وكلّ المعنيين معه ، من كلّ حقوقها، بما فيها حقوقها الإنسانية البسيطة !

لكن ،الحمد لله ، فكل ذلك قد انتهى الآن !

عادت " منى " إلى البيت سعيدة ، وهي تستند على زوجها بحرص متظاهرة بالتثاقل ، مع أنها في الحقيقة لم تبرز بطنها إلا قليلا ، لتلقي على حماتها بالخبر السعيد ، طبعا فرحت الحماة فرحا عميقا ،وأخذت تتمتم داعية لها بالسلامة ، وأن يكمل الله لها حملها على خير ، ويعطيها ( ساعة سهلة ) لكن الغريب أن الحماة أظهرت بعد ذلك بعض المخاوف التي لم تتفهم الزوجة سببها :

" لكن لازم علينا بعد ما تولدي  بالسلامة أننا نحسب[1] الأولاد وناخدهم  لسيدي العارف بالله[2] ! "

نظرت إليها " منى " ، ومن خلفها زوجها بدهشة ، وسألاها عن السبب، فقالت بهدوء، وهي تتمتم داعية بالسلامة :

" عشان ما يطلعوش قطط ! التوائم بيطلعوا بالليل قطط ! "

طبعا ضحكت " منى " ، التي أتت من الإسكندرية ، ولم يسبق لها السماع بتلك

 " الخرافة " الصعيدية المتجذرة القديمة ، أما الزوج فقد تحاشى أن يضحك، حتى

 لا تعتقد أمه أنهما ، هو زوجته يسخران منها ، أو من أفكارها البالية ، طبعا وافق الاثنان على اقتراح الأمّ ، وماذا سيخسران بمجرد أخذ الطفلين إلى ضريح العارف بالله، وتركهما تحت كسوة الضريح الخارجية بضع دقائق، وتقديم نذر إلى مسجده ؟!

لا شيء البتة ..

فقط كانت " منى " تتمنى أن تمر أيام الحمل سريعا ، رغم خوفها من لحظة أول ولادة لها ، ليأتي اليوم الموعود الذي انتظرته طويلا ، يوم أن تضم قطعة لحم حمراء ، حية متحركة، لها عينان ورأس وأطراف وفم دقيق وأقدام صغيرة ملساء جميلة كحبات السكر إلى حضنها ، وتتشمم رائحتها المميزة ، قطعة لحم خارجة من بطنها ، من رحمها ، من تحت قلبها كما يقولون ، وتحققت أمنية " منى " بالفعل ، فمضت شهور الحمل كمرّ الهواء ، وجاء يوم خميس سعيد منير ، في الثانية صباحا شعرت الزوجة بالآلام الأولى للطلق .. 

داهمتها آلام في أسفل ظهرها، تزايدت قوتها تدريجيا ، ثم التفت الآلام حول خصرها واصلة إلى بطنها من الأمام ، أخذ جداره يتصلب، ويرتخي على فترات متتابعة منتظمة ، حدثت بضعة انقباضات قصيرة نوعا ما ، تتخللها فترات من انقطاع الألم، ثم عودته ثانية ، خلال تلك اللحظات القليلة كان الزوج السعيد " حمدي " قد هرع إلى أسفل ، مبشرا أمه المتلهفة بأن زوجته تلد ، صعدت الأم سريعا إلى حيث توجد غرفة نوم الزوجين ، وذهبت من فورها إلى زوجة ابنها تطمئن عليها ،ومالت على أذنها تسألها عن أشياء معينة ، كان واضحا أن الأمّ لا ترغب في أن يسمع ولدها ما تتبادله مع زوجته من كلمات ، بدورها مالت " منى " ، التي يخبط الألم جسدها وينقره على فترات متتابعة ، تخبرها بما تريد أن تعرفه ، أنار وجه الحماة، وهتفت آمرة ولدها :

" هات عربية عمك " السيد " يا ولدي .. مرتك بتولد ! "

بسرعة ولهفة وسعادة أسرع " حمدي " يرتدي جلابية بلدي رمادية ، التقطها من فوق المشجب القريب ، وارتداها على عجل ، وهرع لتنفيذ أمر أمه ..

بدورهم كان كل من في البيت قد استيقظوا على أصوات النداء، والخطوات المهرولة على السلالم ، وأسرعوا يعرضون خدماتهم على أخيهم الأكبر ..

خلال دقائق كان أمر السيارة قد تم تدبيره ، و" منى " تغادر فراشها بصعوبة ، بمساعدة حماتها وشقيقة زوجها الصغري " صفاء " ، وثمة شال أسود كبير يُلفّ حولها ، ثم تساعدها المرأتان على هبوط السلم الذي كان عملية مؤلمة للغاية بالنسبة للمرأة التي تعاني نوبات طلق أطول في مدتها مما سبق، وعلى فترات زمنية أقصر .. 

حينما وصلت المتألمة المستغيثة إلى أسفل السلم أسرع زوجها يساعد أمه وأخته في سندها ومساعدتها ، حتى تصل إلى السيارة المتوقفة أمام باب البيت بالضبط ..

كان الليل باردا في الخارج ، وريح خفيفة مثلجة تكتسح الشوارع المظلمة الخالية ،لكن الآلام العنيفة التي تداهم الأم المرتقبة، والسخونة التي تلهب بطنها وجسدها لم تجعلها تشعر بأية برودة ..

بصعوبة ، بسبب بطنها البارز الضخم ، دخلت " منى " إلى المقعد الأوسط في السيارة ، ولحقت بها حماتها  التي جلست بجوار زوجة ابنها ، ثم وجهت أوامرها إلى ابنتها :

" خليكي في البيت أنتي يا صفاء .. إحنا ممكن نتأخر وأخواتك ميلقوش حد يفطرهم في الصبح ! "

أطاعت الفتاة على الفور وتراجعت ، وهي تحكم شالها حول جسدها ، ودخل الزوج إلى المقعد الأمامي بجوار السائق الذي كان يحتل مقعده أمام عجلة القيادة بالفعل ، ولم يكد الزوج يغلق باب السيارة خلفه حتى انطلق بها السائق إلى عنوان طبيب النساء والولادة د " أشرف " الذي يعرفه جيدا ، حيث تتابع معه " منى " منذ بداية حملها ..

لم تكن عيادة الطبيب بعيدة، وكان هذا من حسن حظ الزوجة التي وصلت آلام الطلق لديها إلى أوجها ، حتى بدأت تشعر بالخدر من شدة الألم ، واعتقدت أنها على وشك أن تفقد الوعي ..

لم يكن في العيادة سوى حالتين ، إحداهما يجري نقلها  على نقالة ، إلى حجرة جانبية ،بعد أن غادرت غرفة الولادة بالفعل ، وخلفها سيدة سمراء نحيفة تحمل على ذراعيها فوطة بيضاء ، بها كتلة لحمية شديدة الاحمرار ، أما الحالة الثانية فكانت  مثل " منى " التي وصلت توّاً إلى العيادة ، ما زالت تعاني آلام المخاض على سرير في حجرة بالقرب من حجرة الولادة ، ولم تحن ساعتها بعد !

أجلسوا " منى " على طرف فراش آخر ، بالقرب من الفراش الذي ترقد عليه المتوجعة المتألمة ، صرخت عندما مس جنبها الفراش، لأن الألم زعق في ظهرها وجانبها الأيمن ، وأحست أن بطنها على وشك أن ينفلق من الألم ، بصعوبة تعاون الزوج والأم على تحريكها ، حتى تمكنا من إراحتها على ظهرها قليلا ،هرع الزوج ليبحث عن الطبيب، بينما بقيت الحماة مع زوجة ابنها :

" متخافيش يا نور عيني .. هتولدي بعد شوية وتقومي لنا بالسلامة ! "

ابتسمت " منى " ،رغم شدة ألمها ، فحماتها لم تحادثها بتلك الطريقة اللطيفة منذ ليلة دخلتها على ولدها ، وتساءلت :

" أتصلتوا بماما ؟! "

كانت أم " منى " وأسرتها يقيمون بالقاهرة ، وكان من المحال أن يلحقوا بها قبل أن تلد ، لكنها شددت على ابنتها مئة مرة أن تخبرها فور إحساسها بآلام الولادة، حتى تأخذ أول قطار، وتحضر لها في ( سوهاج ) ..

بسرعة أجابت الحماة ، رغم أنها لم تكن تطيق حماة ابنها أصلا :

" طبعا يا حبيبتي .. وقالت إنها هتركب أول قطر وتيجي مع أخواتك ! "

كان والد " منى " متوفّىً، وخلال تلك المحادثة القصيرة كانت الآلام تشتدّ ،وتشتدّ ب" منى " ، وتصبب منها العرق ، وبدأت تعاني نوبات آلام أكثر امتدادا ، وبعد مرور عشر دقائق ، جاءت ممرضتان وخلفهما سيدة سمراء وبدأن بمساعدة السيدة الأولى على مغادرة الفراش ، والانتقال إلى غرفة الولادة ، خلفهم جاء الطبيب الذي طلب من حماة " منى " مغادرة الغرفة لحظة، ليكشف على زوجة ابنها :

" هفضل معها يا دكتور ! "

نظر الطبيب إلى " منى " وكأنه يستأذنها في بقاء حماتها معها ،وهو يكشف عليها .. هزت " منى " رأسها، وقالت بصعوبة :

" أيوه .. خلي ماما معايا ! "

بدأ الطبيب يكشف على " منى " .. كانت كل حركة ،وكل ضغطة من يده على بطنها أو جانبها تزيد من ألمها كثيرا ، أخيرا انتهى ليقول بعدها :

" قدامك ساعة على الأقل يا ست " منى " ! "

أغلقت " منى " عينيها من فرط الألم ، وأخذت تمزق شفتيها بأسنانها، وسألته غير مصدقة :

" ساعة كاملة ؟ أنا حاسة إني هولد دلوقتي  ! "

ابتسم لها الطبيب، وقال بلطف :

" ده عشان دي أول ولادة لكي .. الرحم ما توسعش بالنسبة المطلوبة لسه .. فاضل قدامك  ساعة تانية على الأقل ! "

غادر الطبيب الغرفة وترك " منى " تعاني آلام المخاض الرهيبة ، وحماتها  التي نزل عليها حنان وطيبة الدنيا كلها ، تحاول التسرية عنها وتخفيف آلامها ..

اقتيدت المرأة الأخرى إلى غرفة الولادة ، وبدأت صرخاتها  ،التي كانت خافتة حتى الآن  تتزايد، وتصل إلى عنان السماء !

...........................

بعد نصف ساعة وصلت " منى " إلى حالة شديدة السوء، وأحست أنها على وشك أن تنفجر ، تعدي مدى الآلام ما يمكنها احتماله، فتعالت صرخاتها الملتاعة المستغيثة ، حضرت إليها ممرضة بدينة قصيرة ، وأعطتها حقنتين لزيادة حمية الطلق، وتوسيع عنق الرحم ، تسببت تلك الحقن اللعينة في المزيد من الألم والعذاب لمنى  التي لم تعرف معنى إعطائها حقنا لزيادة الطلق ، وهي تعاني طلقا حاميا كالنار يوشك على تمزيقها نصفين ..

دخل الزوج للاطمئنان على زوجته ، وحاول أن يفعل أي شيء لتهدئة آلامها ومخاوفها ، لكن الآلام التي تعصف بها جعلتها غير واعية أصلا بوجوده ، أو وجود أي أحد آخر  بجوارها ، فجأة تعالت صيحات خافتة ضعيفة من غرفة الولادة المغلقة ، كان واضحا أنها صرخة طفل ولد لتوّه !

ابتسمت الحماة سعيدة، واقتربت من زوجة ابنها، وقبلتها بحرارة، وقالت لها مشجعة :

" صاحبتك ولدت .. عقبالك بعد شوية يا حبيبتي ! " 

ولم تكد الحماة تطلق أمنيتها المتعجلة تلك حتى كانت الممرضات قادمات لحمل " منى " إلى غرفة الولادة ، انتاب " منى " خوف مهول لم تجربه من قبل، وسالت دموع جديدة بسبب شدة الخوف ..

طمأنتها حماتها بأنها ستبقى معها ، وأنها لن تتركها حتى تضع طفليها بالسلامة ،

حُملت " منى " إلى غرفة الولادة ، ودخلت برفقة حماتها، وأغلق خلفهما الباب !

ولدى الباب وقف الزوج الملهوف الذي يموت قلقا وخوفا  يتسمع، لعله يسمع ما يطمئنه، ويسعده قريبا !

...

مضت ساعة أخرى تقريبا ، ترددت خلالها صرخات " منى " المستغيثة المعذبة، وتصاعدت من داخل الغرفة المغلقة  ،التي لم يفلح بابها الموصد بعناية في منع خروج أصوات الصراخ المتألمة المثيرة للشفقة من داخلها ، مرت لحظات ثقيلة الوطء على الزوج المتصبّب عرقا ، رغم برودة الجو ، أمام الغرفة التي ترقد بداخلها زوجته محاولة أن تمنحه الأبناء ،الذين يتوق إليهم منذ لحظة زواجهما السعيدة ..

تصاعدت بضع صرخات أخرى هزت كيان الزوج القلق المتوتر ، ثم ساد صمت مريب ، قطعته صرخة هائلة مدوية ، رجّت العيادة ، ومعها قلب الزوج ،رجّاً ، تبعتها صرخة صغيرة خافتة .. صرخة وليد !

للحظة تعالت صرخة أخرى من " منى " المسكينة ، لتتبعها صرخة أخرى منخفضة لطفل وليد ثان !

لقد وُلد الطفلان بسلامة الله ، وانتهى العذاب والألم والانتظار والرجاء الموجع للقلب والنفس ، انتهت اللحظات المؤلمة كلها، وبدأت اللحظات السعيدة الرضية ، ومعها ستبدأ لحظات أخرى ، لا ينطبق عليها أي وصف متاح في قاموس البشر !


 


[1] التحسيب : عملية تجري للتوأم وتتم بوضعهم تحت غطاء تابوت أحد الأولياء وقراءة بعض آيات القرآن عليهم ، لمنعهم من التحول لقطط ليلا بحسب ما يؤمن البسطاء في صعيد مصر .

 

[2] - سيدي العارف بالله  : أشهر الأولياء في محافظة سوهاج ويقع مسجده في ميدان معروف باسمه في عاصمة المحافظة .

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

1

متابعين

0

متابعهم

1

مقالات مشابة