عقدة لعبة الاختفاء - قصة خيالية غريبة

عقدة لعبة الاختفاء - قصة خيالية غريبة

0 المراجعات

في ذلك المساء من شهر مارس، كنت أستعد لمغادرة مكتبي بعد أن انتهى دوامي، 

كنت متعبة فقد زارني الكثير من المرضى هذا اليوم، حقاً إن العمل في عيادة نفسية 

لأمر ليس بالسهل، و قبل أن أنتهي من جمع أغراضي طرق أحدهم الباب، فأجبته :

تفضل.. 

  و لم تمر أقل من ثانية إلا و يفتح الباب، بطريقة جعلتني أعرف هوية من سيدخل، 

إنه روبوتي الخاص خليل الذي اقتنيته ليساعدني على تنظيم مواعيد المرضى، مع  

أنه في الحقيقة غبي و ليس بتلك الجودة، لكنه كان يفي بالغرض.. 

دخل روبوتي بأسلوبه المضحك و كأنه جزازة أعشاب، و قال لي بنبرته الغريبة :

دكتورة هناك إنسان في الخارج يصدر موجات صوتية.. 

ضحكت من أسلوبه و قلت :

من هو هذا الإنسان يا خليل؟.. لقد انتهى دوامي بالفعل.. 

رد علي قائلاً :

الجنس : أنثى   الشكل : أنف طويل مدبب و شعر قصير و ملابس مدرسة ، 

الموجات الصوتية التي يرددها هي : أريد الدخول لمقابلة الطبيبة. 

ابتسمت و طلبت منه إدخال هذه المريضة، رغم أن الوقت متأخر و لكني لا 

أحب أن أرد أحداً يأتي إلي.. 

و فعلاً ما هي إلا خمس دقائق حتى كنت في استضافة فتاة شابة بنفس المواصفات 

التي أخبرني عنها خليل، طلبت من روبوتي أن يحضر لنا بعض الشاي، ثم سألتها 

قائلة :

من أنت يا عزيزتي؟.. و ما مشكلتك؟ 

لاحظت أنها متوترة و خجولة، إذ أنها صمتت قليلاً قبل أن تجيبني بتلعثم :

أ.. أنا رنيم.. م.. مشكلتي.. مشكلتي هي أنني وحيدة.. ب.. بلا أصدقاء.. و أشعر.. بالسوء لهذا! 

سألتها :

و لماذا لم تكوني صداقات يا عزيزتي؟.. ما الذي يمنعك؟ 

أجابتني قائلة :

أنا لا أعلم.. لدي مشكلة.. منذ الطفولة.. تمنعني من الإستمرار في علاقة.. مع أحد.. 

لاحظت توترها فحاولت أن أهدئها قائلة :

آنسة رنيم.. استرخي حسناً؟.. و أخبريني بكل شيء بالتفصيل.. مما تعانين بالضبط؟ 

أخذت نفس عميقاً و قالت :

منذ كنت طفلة و أنا مولعة بلعبة الغميضة، كنت ألعب دائماً مع الأطفال الآخرين، و عندما 

أختبئ لا يتمكن أحد من العثور علي، كنت أمل منهم فأذهب لألعب مع مجموعة أخرى،و

هكذا على هذا المنوال حتى كره الجميع اللعب معي.. و ياليتني تركت هذه العادة بعد 

أن كبرت.. لكنها دمرت لي حياتي.. 

شعرت بالحيرة من كلماتها الغامضة فسألتها :

كيف؟.. وضحي؟ 

ردت علي بابتسامة غريبة :

أصبحت ألعب لعبة الغميضة مع كل من حولي.. كباراً و صغاراً.. غرباء و أقارباً.. بل ألعبها مع نفسي 

و أحلامي أحياناً.. جنون أليس كذلك؟ 

قلت و أنا أنصت إليها :

كيف تلعبين الغميضة؟ 

ردت قائلة :

إنها لعبة بسيطة للغاية، سأجعلك تتعلقين بي و تصادقينني، ثم سأتركك و أختفي.. سأذهب لأصادق شخصاً 

آخر، بلا سبب، فقط لأنني مللت منك.. و صدقيني أنا أفعل ذلك مجبرة، هناك شيء داخلي يجبرني 

على ترك كل من حولي، دائماً عندما أصادق أحداً أتقرب منه للغاية و أعرف كل أسراره، أحبه و 

أخلص له، و لكن ما إن تتطور علاقتنا حتى أشعر بشيء يخنقني و يضيق علي! 

فأضطر لتركه مرغمة و أتعذب نفسياً من هذا! 

أصبحت و حيدة، و أصبح كل من حولي يتجنبونني لأنني غريبة أطوار.. حتى أسرتي كنت أشعر تجاههم 

بنفس الشعور، و لهذا لا أحب قضاء الوقت معهم، لكنني مللت!.. مللت من الوحدة!!.. حتى الوحدة نفسها 

مللت منها!!.. و أيضاً!.. مللت من نفسي و شخصيتي.. و بدأت أفكر في الإنتحار لأختفي عن هذا العالم 

تماماً!.. تماماً و لن يجدني أحد!! 

ابتلعت غصتي و قد عجز لساني عن النطق، في حين أكملت الفتاة :

و لكن الموت ممل أيضاً.. سيكون علي أن أنتظر في قبري حتى يوم القيامة.. ما الذي سأفعله طيلة 

هذه المدة؟.. لهذا أنا هنا الآن.. أتيت لعيادتك بعد أن سمعت عنك.. لأنني ظننت أنك ستساعدينني.. 

على تجنب كل هذا الملل.. في حياتي.. 

دخل خليل في تلك اللحظة و وضع لنا قدحين من الشاي، ثم غادر المكان، تاركاً لي وحدي مع هذه

الحالة المستعصية، حاولت أن أبتسم و أنا أدعوها لتناول قدح من الشاي، لكنها رفضت و قالت :

شكراً.. لم آتي هنا لأتضيف.. أريد حلاً لمشكلتي من فضلك.. 

أخذت نفساً عميقاً و أنا أفكر في كل ما قالته، حتى وصلت لإستنتاج أخيراً، فقلت لها :

آنسة رنيم.. أنت تعانين وسواساً قهرياً.. و لا تقلقي.. علاج هذا المرض موجود و يمكنك أن تشفي 

بإذن الله.. 

حدقت بي و سألت :

كيف؟ 

أجبتها لأكسر الغموض :

العلاج هو ألا تفكري في كل تلك الهواجس، و تعامليها على أنها ليست موجودة.. 

كانت ملامح الحيرة لا تزال واضحة عليها، فاستمررت و أنا أحاول أن أشرح لها :

عندما تعانين أي مرض في هذا العالم، فإنك تحاولين علاجه و استئصاله تماماً، 

مثلاً عندما تعانين التهاباً في ضرسك، فإنك لن تستطيعي تجاهل الألم أبداً، لن 

يجدي الأمر مع جسدك، لهذا فإنك تقتلعين هذا الضرس تماماً، و تتخلصين من كل 

الألم، معظم المشاكل في حياتنا تشبه الضرس الملتهب، يجب أن تعامليها على

أنها موجودة و تقتلعيها من جذورها، و لكن مرضك أنت مختلف تماماً.. 

يجب أن تتجاهليه، يجب أن تعامليه على أنه خفي و غير موجود، لأن الوسواس 

القهري كالوحش الذي يكبر و يتضخم كل ما فكرت فيه.. ليس له أي جذور 

، إنه فقط هاجس شائك داخلك.. 

قالت لي بتوتر :

و لكن.. لا أستطيع التوقف عن التفكير في الأمر.. ليس بيدي.. 

ابتسمت و أمسكت يدها قائلة :

سأنظم لك جلسة كل يوم.. ستساعدك على التحسن.. تعالي إلي غداً في نفس هذا الوقت 

إن كنت تستطيعين.. 

بادلتني بابتسامة و قالت :

أجل.. بإذن الله.. شكراً لك يا دكتورة..

غادرتني المريضة بالفعل، على أمل أن يكون لنا لقاء في الغد، أغلقت العيادة في ذلك المساء 

و أنا لا أستطيع التوقف عن التفكير في هذه الحالة الغريبة، كانت من أغرب الحالات التي 

مرت علي طوال سنوات عملي في هذه المهنة، حضر اليوم التالي، و بقيت أنتظر قدومها 

بعد أن غادرني جميع المرضى، و لكنها لم تأتي، تعجبت من هذا، و فكرت أنها قد انشغلت 

بظروف منعتها من القدوم، كنت آمل قدومها في اليوم الذي يليه، و لكنها لم تأتي أيضاً، 

ظللت أنتظرها كل يوم على هذا الحال، بدون أن يظهر لها أثر.. لقد اختفت تلك الفتاة 

منذ ذلك اليوم، و لم أرها مجدداً.. 

لكنني لم أستسلم، كنت مصرة على معرفة السبب، هل حدث لها شيء ما؟ 

طلبت من خليل أن يبحث لي عن رقمها، و فعلاً تمكنت من التواصل معها، أرسلت 

لها أسألها عن أحوالها و  سبب عدم قدومها للعيادة لزيارتي مجدداً.. 

استغرق الأمر ساعتين حتى ردت علي برسالة نصية صدمتني :

" أنا آسفة.. لقد مللت منك أنت أيضاً.. و لم أعد أستطيع رؤيتك" 

 

 

تأليف :وضاحة عبد الرحمن

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

2

متابعين

2

متابعهم

3

مقالات مشابة