مقالات اخري بواسطة Asmaa Ahmed
بين النجاة والهلاك كلمة إسمها (لا)

بين النجاة والهلاك كلمة إسمها (لا)

0 المراجعات

بين النجاة والهلاك... كلمة اسمها "لا"

✍️ بقلم: أسماء أحمد

في قرية هادئة على أطراف الريف، استقرّت أسرة بسيطة بين الحقول والمزارع. أبٌ يعمل موظفًا، وأمّ لم تكمل تعليمها، وخمسة أولاد يمرحون في فناء بيت صغير من طابق واحد، تحيطه مزرعة متواضعة تعبق برائحة الأرض.

ورغم بساطة الحياة، كانت جدران البيت تنبض بالحب، وتختزن الضحكات كأنها كنز من نور. نشأ الأبناء وسط دفء عائلي نادر، حصلوا على شهاداتهم، وكانت ملامح المستقبل تبتسم لهم بثقة.

حتى جاءت تلك الليلة.

استيقظ الابن الأكبر فجأة، وقلبه يخفق كأنه يلاحق شيئًا لا يُرى. كان هناك صوت، صوت خافت كهمسة الريح، يناديه من العدم. التفت حوله، فلم يجد أحدًا. ظنّه حلمًا، وعاد إلى نومه.

لكن الصوت عاد. ليلةً تلو الأخرى، يهمس باسمه بلطفٍ قاتل... حتى غلبه الفضول، وتبع الصوت في إحدى الليالي، كأن شيئًا ما يقوده من عنقه. تسلّل عبر المنزل النائم، حتى وقف أمام فتحة صغيرة خلف خزانة مهترئة، لم يرها من قبل.

كانت فتحة سرداب، يبتلع الضوء في عمقه.

هبط بحذر، وكل خطوة تأخذه نحو الأسفل كانت تخلع قلبه، لكنه استمر، حتى وصل إلى قاعة غريبة غارقة في بريق الذهب والمجوهرات، وألوان من النعيم لم يراها إلا في الأحلام.

ثم جاء الصوت... ألين من النسيم، وأشد سمًّا من العقارب:

> "إما أن تأخذ كل شيء وتبقى، أو تترك كل شيء وترحل. اختر... لكن إيّاك أن تأخذ شيئًا وأنت راحل. إن فعلت، تفقد حياتك."

 

تردد الشاب، عيناه تتعلقان بالبريق، وعقله يتلاشى. في لحظة ضعف، اختار البقاء... ولم يكن يعلم أنه اختار الهلاك.

أُغلقت فتحة السرداب خلفه. اختفى صوته، واختفت معه الفرحة من بيتٍ كان لا يعرف الحزن.

في الصباح، استيقظت الأسرة على كابوس لا يُشبه غيره. سرير الابن الأكبر كان باردًا... خاليًا... بلا أثر.
انطلقت صرخات الأم كأنها تطرد شبحًا يختبئ بين الجدران، وخرج الأب مذهولًا يبحث بين الحقول والطرقات.
سألوا الجيران، استنجدوا بالأقارب، طافوا بكل ركن في القرية...
لكن لا أثر، لا صوت، لا إجابة.
اختفى الابن... كأن الأرض انشقت وابتلعته.

مرت أيام ثقيلة كأن الزمن قرر أن يبطئ عقابه.
وفي فجرٍ دامٍ، وُجدت جثته ملقاة أمام باب المنزل، عيناها مفتوحتان على دهشة لم تُروَ، وملامحه ساكنة كأنها تُخفي سرًّا لا يريد الخروج.
انهارت الأم، صرخت حتى خُرِس صوتها، وسقط الأب على ركبتيه كمن انكسر في داخله شيء لا يُصلَح.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد.

عاد الصوت مرة أخرى.
نادى هذه المرة الأخ الثاني... ثم الثالث... فالرابع.
وكل من سار خلفه، سار على نفس المصير:
السرداب... العالم الساحر... العرض المسموم... ثم الجثة الباردة أمام الباب.
كأن الموت عقد صفقة مع البيت، لا يترك ساكنيه إلا بصفعة الفقد.

ماتت الأم من الحسرة، ذاب قلبها كما تذوب الشمعة أمام لهب الحزن.
أما الأب، فقد بات كظل رجل، يتنفس بلا رغبة، ويعيش بجسد أنهكته الخسارة.
لم يعد قادرًا على البقاء. حمل آخر ما تبقى له من حياة، وخرج.

وقبل أن يرحل، أعطى مفتاح البيت لجاره الطيب، وطلب منه أن يبيعه لأيّ أحد، قائلاً:

> "هذا المكان... ما عاد بيتًا. إنه مقبرة مفتوحة على عالم لا يُرى."

 

حاول الجار إقناعه باستدعاء شيخ، لعلّ فيه نجاة.
وبالفعل، جاء الشيخ، لكن البيت لم يُفصح عن سره.
لم يكن هناك باب يُفتح، ولا شيطان يُرى، ولا أصوات تُسمع.
كانت الروح الشيطانية أكثر دهاءً... لا تُرى، بل تُحس، وتُهمَس، وتُغوي.

فشل الشيخ، وباع الأب البيت... وترك خلفه أبوابًا مفتوحة على لعنة لا تموت.


---

سكنت المنزل أسرة جديدة.
رجل وزوجته وأربعة أولاد، جاءوا ببساطة الحالمين، وفرحة البدايات.
امتلأ البيت بالحركة من جديد، ضحك الأولاد في الفناء، ورتبت الزوجة الأثاث، وأعدّت الطعام وهي تغنّي.
كل شيء بدا طبيعيًّا... حتى حلّ الليل.

وللمرّة الأولى... لم يُنادِ الصوت أحد الأبناء.
بل اختار الأم.

جاءها همس ناعم في ليل ساكن.
نداءٌ لا يُقاوَم، كأنه يأتي من قلبها لا من خارجها.
تبِعته كما يُتبع الحنين، ومشت حتى السرداب، دون أن تلتفت.
نزلت الدرجات كما لو كانت تسير على حلم، ثم توقفت أمام النعيم.

وبكل ما فيها من ضعف بشري... اختارت البقاء.

وفي الصباح، كانت جثتها تنتظر زوجها أمام الباب، بنفس الهدوء القاتل، ونفس العينين المتسعتين على سؤالٍ بلا إجابة.

صرخ الرجل، انهارت الأسرة، وعاد البيت إلى صمته المريع.

أخبره الجيران بالحقيقة... عن بيتٍ لا يسكنه أحد، دون أن يأخذه السرداب.
جمع الرجل أبناءه، وغادر.


---

مرت سنوات، وتحوّل البيت إلى خراب مأهول بالذكرى.
لا أحد يقترب، لا أحد يجرؤ.
الأبواب موصدة، والنوافذ مغلقة، لكن داخله... كان شيء يتحرك، ينتظر، يهمس.

وفي ليلة مظلمة، جاء شيخ غريب من قرية مجاورة. باغته المطر، ولم يجد مأوى إلا ذلك البيت المهجور.
رأى الباب مواربًا، نادى، فلم يُجَب. دخل ليستريح، وأشعل فانوسًا صغيرًا.

منذ اللحظة الأولى، شعر بضيق يطبق صدره، كأن البيت يلفظ وجوده.
أخرج مصحفه، وبدأ يتلو، فهدأ المكان، وسكنت جدرانه.

لكن الصوت لم يسكت.

همس إليه... دعاه... أشار إلى السرداب.

هبط الشيخ، لكنه لم يكن كسابقيه.
رأى ما رأى من بريق، وسمع العرض:

> "اختر: أن تبقى وتنعم... أو ترحل بسلام."

 

فابتسم الشيخ وقال بثبات:

> "أنت كاذب، مغوٍ، ومهما تلونتَ لن تخدع النور."

 

فصاح الصوت ساخرًا:

> "لم نؤذِ أحدًا... أنتم من تختارون."

 

رفع الشيخ صوته يتلو آيات القرآن، وكل كلمة كانت كالطعن في جسد الكيان الملعون.
ارتجّت جدران السرداب، وبدأ كل شيء ينهار: الذهب يتلاشى، الجدران تتشقق، والصوت يصرخ، يذوب، يحترق.

وفي لحظة فاصلة... صمت كل شيء.

انطفأت لعنة السرداب، وأُغلق إلى الأبد.

خرج الشيخ من البيت، ووقف أمام الباب، ثم قال كلمته:

> "بين النجاة والهلاك... كلمة اسمها لا."

 

لو قالها الأول، لنجا.
لو قاوم الثاني، لعاش.
لكنهم انحنوا لبريقٍ خادع، فابتلعهم الظلام.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

2

متابعهم

1

متابعهم

1

مقالات مشابة