ظلال القصر الملعون: صرخات لا يسمعها أحد

ظلال القصر الملعون: صرخات لا يسمعها أحد

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

المقدمة

يقولون إن البيوت القديمة لها ذاكرة، وإن الجدران تمتص مشاعر ساكنيها. الفرح، الحزن، الغضب.. والخوف. لكن ماذا لو كان البيت نفسه هو الكائن الحي؟ ماذا لو كانت الجدران لا تمتص المشاعر فحسب، بل تتغذى عليها؟

هذه القصة ليست مجرد خيال، بل هي تحذير. تحذير من نبش الماضي الذي دُفن عمداً. بطلنا، "يوسف"، لم يكن يؤمن بالخوارق، كان رجلاً يؤمن بالمنطق والعلم، حتى قادته قدماه إلى "قصر البارون المنسي" في أطراف القرية المهجورة.

استعد للدخول.. ولكن تذكر، الدخول اختياري، أما الخروج.. فهو غير مضمون.

الفصل الأول: رسالة من الميت

image about ظلال القصر الملعون: صرخات لا يسمعها أحد

كان المطر ينقر على زجاج النافذة بإيقاع رتيب ومزعج، كأصابع عظمية تحاول الدخول. جلس "يوسف" في مكتبه الصغير وسط القاهرة، يقلب الأوراق المتناثرة أمامه بملل. الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل، والهدوء يلف المبنى السكني القديم.

رن جرس الهاتف فجأة، ممزقاً سكون الليل. قفز قلب يوسف في صدره. من يتصل في هذا الوقت؟ تردد للحظة قبل أن يرفع السماعة.

"آلو؟"

لم يأتِ رد سوى صوت أنفاس ثقيلة، وصوت تشويش خافت كأن المتصل يتحدث من داخل نفق عميق.

"من معي؟" كرر يوسف بصوت أكثر حدة.

جاء الصوت مبحوحاً، بارداً، كأنه يخرج من قاع بئر: "عُد إلى القصر يا يوسف.. الورثة بانتظارك.. والوقت ينفد."

تجمدت الدماء في عروق يوسف. هذا الصوت.. إنه يعرفه جيداً، لكنه مستحيل. إنه صوت جده "عثمان"، الذي دُفن تحت التراب منذ عشرين عاماً.

انقطع الخط، تاركاً يوسف يحدق في الهاتف برعب، وصوت دقات قلبه يطغى على صوت المطر. لاحظ ظرفاً أصفر اللون دُس من تحت عقب الباب. ارتجفت يده وهو يلتقطه. لم يكن عليه طابع بريدي، فقط جملة واحدة مكتوبة بحبر أحمر قانٍ:

"الإرث لا يموت بموت صاحبه."

في تلك الليلة، لم ينم يوسف. كانت صور طفولته في ذلك القصر الكئيب تهاجمه. القصر الذي أقسم والده ألا يعود إليه أبداً. لكن الفضول، وتلك المكالمة المستحيلة، كانا أقوى من الخوف. قرر يوسف أن يحزم حقائبه في الصباح. لم يكن يعلم أنه يحزم حقائبه نحو هلاكه.

الفصل الثاني: الطريق إلى المجهول

انطلق يوسف بسيارته مع شروق الشمس، تاركاً صخب المدينة خلفه. كانت وجهته قرية "كفر الغروب"، وهي قرية نائية تقع في حضن الجبل، تحيط بها الغابات الكثيفة من كل جانب. كلما ابتعد عن المدينة، قلّت السيارات، وزادت وحشة الطريق.

تغير الجو تدريجياً. السماء الزرقاء الصافية استبدلت بسحب رمادية ثقيلة تحجب الشمس. الضباب بدأ يزحف على الطريق الأسفلتي المتهالك، وكأن الأرض نفسها تتنفس دخاناً.

بعد خمس ساعات من القيادة، وصل إلى مدخل القرية. كانت لافتة القرية مائلة وتآكلها الصدأ، تكاد الحروف تكون ممحية. الشوارع خالية تماماً. البيوت مغلقة النوافذ والأبواب، وكأن الحياة هجرت هذا المكان منذ عقود.

أوقف يوسف سيارته أمام مقهى قديم يبدو أنه المكان الوحيد المفتوح. نزل من السيارة، ولفحته نسمة هواء باردة تحمل رائحة غريبة.. رائحة عفونة ممزوجة برائحة احتراق خشب.

دخل المقهى، فصمتت الأصوات القليلة التي كانت موجودة. ثلاثة رجال كبار في السن يجلسون في الظلام، يحدقون فيه بعيون غائرة خالية من التعبير.

"السلام عليكم،" قال يوسف بصوت حاول أن يجعله ثابتاً.

لم يرد أحد. فقط استمروا في التحديق.

اقترب من صاحب المقهى، رجل عجوز بوجه مليء بالتجاعيد العميقة كأخاديد الأرض الجافة. "أبحث عن قصر عائلة البارون. قصر عثمان بك."

تغيرت ملامح العجوز فجأة، واتسعت عيناه رعباً. "القصر؟" همس العجوز بصوت مرتجف. "لا أحد يذهب إلى هناك يا بني. القصر ملعون. من يدخله لا يخرج بعقله.. أو بحياته."

"أنا حفيده. يوسف،" قال بتحدٍ.

ضحك أحد الرجال الجالسين في الخلف، ضحكة هستيرية بلا روح. "حفيده؟ الدم يطلب الدم.. لقد عادت الدائرة لتكتمل."

تجاهل يوسف تحذيراتهم، واعتبرها خرافات ريفية. سأل عن الطريق، فأشار العجوز بإصبع مرتعش نحو طريق ترابي يختفي وسط الغابة الكثيفة. "في نهاية هذا الطريق.. ستجد مصيرك."

الفصل الثالث: بوابة الجحيم

قاد يوسف سيارته ببطء على الطريق الترابي الوعر. الأشجار كانت ضخمة ومتشابكة الأغصان، تحجب ما تبقى من ضوء النهار، مما جعل المكان يبدو وكأنه في وقت الغروب رغم أن الساعة لم تتجاوز الثانية ظهراً. أغصان الأشجار كانت تحتك بسقف السيارة وتصدر أصواتاً كخدش الأظافر على السبورة.

فجأة، توقف المحرك. حاول يوسف تشغيله مرة أخرى، لكن دون جدوى. ضرب المقود بغضب. "اللعنة!"

نزل من السيارة ليتفقد المحرك، لكنه تجمد مكانه. أمامه مباشرة، وراء بوابة حديدية ضخمة يعلوها الصدأ، كان يقف القصر.

كان القصر مهيباً ومخيفاً. بنيانه من الحجر الأسود، ونوافذه الكثيرة تبدو كعيون مفقوءة تراقب القادمين. الحشائش الضارة تلتف حول الأعمدة كالأفاعي. ورغم أن الرياح كانت ساكنة، إلا أن أرجوحة قديمة في الحديقة كانت تتحرك ببطء.. ذهاباً وإياباً.. وتصدر صريراً مزعجاً: إييييك.. إييييك..

دفع يوسف البوابة الحديدية. انفتح الباب بصوت صرير عالٍ تردد صداه في الغابة. مشى في الممر الحجري المؤدي للباب الرئيسي. شعر بأن هناك مئات العيون تراقبه من بين الأشجار، ومن خلف نوافذ القصر المظلمة.

وصل إلى الباب الخشبي الضخم. كان الباب مفتوحاً قليلاً، وكأنه دعوة للدخول. أو فخ. وضع يده على الخشب البارد، ودفعه.

"هل من أحد هنا؟" صرخ يوسف، لكن صوته ابتلعه الظلام الداخلي.

خطا خطوة واحدة للداخل. وفجأة، انصفق الباب خلفه بقوة هائلة، مغلقاً المنفذ الوحيد للضوء. حل الظلام الدامس، وسمع يوسف صوت همسٍ جماعي يأتي من كل الزوايا في وقت واحد:

"أهلاً بك في بيتك يا يوسف. لقد طال انتظارنا."

أضاء يوسف كشاف هاتفه، ليجد نفسه في بهو واسع، وعلى الجدران صور لأشخاص وجوههم مشطوبة، وفي منتصف البهو، كانت هناك دمية طفلة صغيرة تجلس على كرسي، وعيناها الزجاجيتان تلمعان في ضوء الكشاف.. وتنظر إليه مباشرة.

بدأت الرحلة.

الفصل الرابع: غبار وذكريات

تجاهل "يوسف" تلك الدمية الجالسة في منتصف البهو، رغم شعوره بأن عينيها تتابعانه بينما يتحرك. كان الهواء داخل القصر ثقيلاً، مشبعاً برطوبة خانقة ورائحة التراب القديم الذي لم يمسه بشر منذ سنوات.

وجه ضوء كشافه نحو الجدران. كانت ورق الحائط الفاخر يتدلى في شرائح طويلة كجلد ميت ينسلخ عن جسد متعفن. تحرك يوسف نحو القاعة التي تذكر أنها كانت غرفة الطعام. دفع الباب المزدوج، فأصدر صريراً مؤلماً. كانت المائدة الطويلة ممدودة وكأنها مجهزة لعشاء فاخر. الأطباق الفضية مغطاة بطبقة سميكة من الغبار، والشمعدانات ملقاة على جانبها.

اقترب يوسف من رأس الطاولة، حيث كان يجلس جده عادة. وجد صحيفة قديمة، صفراء وهشة. التقطها بحذر، خائفاً أن تتفتت بين أصابعه. التاريخ المكتوب عليها يعود لعام 1995. قرأ العنوان الرئيسي بصوت هامس: "اختفاء طفل آخر في ظروف غامضة بقرية كفر الغروب.. والأهالي يتهمون القصر."

تجمد يوسف. عام 1995.. كان هذا العام الذي زار فيه القصر لآخر مرة وهو طفل. هل كان هو الطفل المقصود؟ أم كان هناك آخرون؟ فجأة، سمع صوت ارتطام قوي قادماً من الطابق العلوي. بدا وكأن خزانة ضخمة قد سقطت. سقطت الصحيفة من يده، وتناثر الغبار حوله. رفع كشافه نحو السقف المزخرف، وكأنه يستطيع الرؤية عبر الخرسانة.

"من هناك؟" صرخ، لكن صوته بدا ضعيفاً أمام ضخامة القصر وصمته المطبق. لم يكن هناك إجابة، سوى صوت خافت جداً.. صوت طفل يضحك ثم يبكي فجأة.

الفصل الخامس: الغرفة المحرمة

قرر يوسف الصعود. كان يعلم أن البقاء في الطابق الأرضي لن يفيد. الدرج الحلزوني الواسع كان يبدو وكأنه لسان تنين يمتد إلى الظلام في الأعلى. مع كل خطوة يخطوها، كان الخشب يئن تحته، وكأن الدرجات تتألم.

وصل إلى الطابق العلوي. كان الممر طويلاً ومظلماً، تنتشر الأبواب على جانبيه. تذكر يوسف تحذير والده الصارم: "لا تقترب أبداً من غرفة المكتب في نهاية الممر.. غرفة جدك هي منطقة محرمة." كانت تلك الكلمات تدور في رأسه وهو يمشي بخطوات مترددة تجاه الباب الأسود الكبير في نهاية الممر.

الغريب أن جميع الأبواب كانت مغلقة ومتربة، إلا هذا الباب. كان نظيفاً بشكل مريب، ومقبضه النحاسي يلمع كأنه صُقل للتو. مد يده نحو المقبض. كان بارداً كالثلج، لدرجة أن البرودة اخترقت جلده وآلمته. أدار المقبض. لم يكن مقفلاً.

انفتح الباب بصمت تام، عكس باقي أبواب القصر. سلط الضوء للداخل. كانت الغرفة مليئة بالكتب القديمة التي تغطي الجدران من الأرض للسقف. وفي المنتصف، مكتب ضخم من خشب الأبنوس. لكن ما لفت انتباهه لم يكن الكتب، بل الساعات. مئات الساعات المعلقة على الجدران، والموضوعة على الرفوف. ساعات حائط، ساعات رملية، منبهات قديمة. وكلها متوقفة عند نفس التوقيت: الثالثة وثلاث دقائق فجراً.

دخل يوسف الغرفة، وشعر بضغط غريب في أذنيه. اقترب من المكتب، ورأى كتاباً مفتوحاً. كانت صفحاته فارغة تماماً، بيضاء ناصعة. وبينما هو ينحني ليتفحصه، بدأت إحدى الساعات تدق.

تيك.. تاك.. تيك.. تاك..

ثم تبعتها أخرى.. وثالثة.. حتى امتلأت الغرفة بضجيج الدقات غير المتناسقة. نظر يوسف حوله برعب. العقارب كانت تتحرك، لكنها لا تتقدم للأمام. كانت تعود للخلف بسرعة جنونية. الزمن في هذه الغرفة كان ينهار.

الفصل السادس: الظل الذي يتحرك

خرج يوسف من الغرفة مهرولاً، وأغلق الباب خلفه، فانقطعت أصوات الساعات فوراً وعاد الصمت القاتل. كان يلهث، وقلبه يضرب في صدره بعنف. "يجب أن أهدأ.. هذا مجرد إرهاق.. مجرد هلوسة بصرية"، قال لنفسه محاولاً التماسك.

قرر أن يبحث عن غرفته القديمة ليرتاح قليلاً حتى يطلع الصباح. وجدها بسهولة. كانت الغرفة الوحيدة التي بابها مطلي باللون الأزرق الباهت. دخل الغرفة. كان سريره الصغير لا يزال هناك، وعليه غطاء مغبر. جلس يوسف على طرف السرير، وأخرج شمعة كان قد أحضرها معه تحسباً لنفاد بطارية الهاتف، وأشعلها. وضع الشمعة على منضدة صغيرة بجانبه.

راقص ضوء الشمعة الظلال على الجدران، راسمًا أشكالاً مخيفة تتطاول وتنقصر. جلس يوسف يراقب ظله الممتد على الحائط المقابل. رفع يده ليمسح العرق عن جبينه. تحرك الظل على الحائط ورفع يده أيضاً. تنهد يوسف بارتياح. "أنا أفقد عقلي فعلاً."

أنزل يوسف يده ووضعها في حجره. لكن.. تجمد الدم في عروقه. الظل على الحائط.. لم يُنزل يده. بقي ظل يوسف رافعاً يده، ملوحاً بإصبع السبابة ببطء، وكأنه يوبخه. اتسعت عينا يوسف رعباً. حاول أن يتحرك، لكن جسده كان مشلولاً تماماً.

بدأ الظل ينفصل عن الحائط. لم يعد مجرد بقعة سوداء ثنائية الأبعاد. بدأ يتجسد، يكتسب كثافة، ويتحول إلى سواد حالك ثلاثي الأبعاد يقف وسط الغرفة. لم يكن للظل ملامح، لكن يوسف شعر بكراهية خالصة تنبعث منه. خطا "الشيء" خطوة نحو السرير. انطفأت الشمعة فجأة، ليس بفعل الهواء، بل وكأن الظلام ابتلع الضوء. وفي الظلام الدامس، شعر يوسف بأنفاس باردة تلفح وجهه، وسمع صوتاً يهمس في أذنه مباشرة بصوت يشبه صوت يوسف نفسه:

"أخيراً.. لقد جلبت لي جسداً جديداً."

الفصل السابع: مذكرات ملطخة بالدماء

استيقظ يوسف وهو يشهق بحثاً عن الهواء، وجد نفسه ملقى على أرضية الممر الباردة خارج غرفته القديمة. كان جسده يرتجف، والعرق البارد يغطي جبهته. هل كان حلماً؟ هل كان ذلك الظل حقيقياً؟ تحسس رقبته، فوجد أثراً خفيفاً لحروق باردة، كأن أصابع من جليد قد لامست جلده.

لم يعد النوم خياراً. كان بحاجة إلى إجابات. تذكر المكتبة والساعات المتوقفة، وقرر العودة إليها رغم كل ذرة خوف تصرخ في داخله بالهرب. دخل المكتبة مرة أخرى. كانت الساعات ساكنة الآن، لكن عقاربها لم تعد تشير إلى الثالثة وثلاث دقائق، بل كانت جميعها تشير إليه هو، أينما تحرك في الغرفة.

اتجه نحو المكتب المصنوع من الأبنوس. بدأ يفتح الأدراج بعصبية، يبحث عن أي شيء يفسر ما يحدث. الأوراق كانت مجرد حسابات مالية قديمة وصفقات عقارية. في الدرج الأخير، وجد قاعاً خشبياً مزدوجاً. استخدم سكين جيب كان يحمله لانتزاع اللوح الخشبي. تحته، وجد دفتراً مجلداً بجلد أسود خشن الملمس.. بدا وكأنه جلد بشري مدبوغ.

فتح الصفحة الأولى. كانت الورقة صفراء ومتيبسة، والحبر المستخدم لم يكن حبراً عادياً. كان لونه بنياً مائلاً للأحمرار، وتفوح منه رائحة حديدية صدئة. إنه دم. قرأ يوسف السطور الأولى بصوت مرتعش:

"٣ أكتوبر ١٩٧٠: لقد تم العقد. الثمن كان غالياً، لكن الخلود يستحق. لقد وعدني بأن الثروة ستدوم، بشرط أن يظل القصر جائعاً. يجب أن أطعمه.. من نسلي."

قلب الصفحات بسرعة، وعيناه تتسعان رعباً. كانت المذكرات تسرد تواريخ وفيات أفراد العائلة.. عمته "سعاد" التي سقطت من الشرفة، عمه "كريم" الذي غرق في البئر الجاف. لم تكن حوادث.. كانت تضحيات. توقف عند الصفحة الأخيرة، التي كُتبت بخط مضطرب ومرتجف:

"لقد خدعني. هو لا يريد دماءهم فقط.. هو يريد وعاءً. يريد جسداً شاباً ليحل فيه عندما يبلى جسدي. يوسف.. حفيدي.. هو المختار."

سقطت المذكرات من يده. لم يأتِ ليرث القصر.. لقد جاء ليكون القربان الأخير.

الفصل الثامن: همسات في منتصف الليل

مرت الساعات ثقيلة كأنها دهور. حبس يوسف نفسه في المكتبة، مستنداً بظهره إلى الباب، وممسكاً بقطعة حديدية انتزعها من المدفأة كسلاح بدائي. حل منتصف الليل، وبدأ القصر يستيقظ من جديد.

في البداية، كان الصوت مجرد حفيف، كصوت أوراق شجر جافة تزحف على الأرض. ثم تحول إلى همس. لم يكن همساً عشوائياً. كانت أصواتاً متعددة، تتداخل وتتنافر.

"يوسف.. ساعدنا.." صوت أنثوي باكٍ يأتي من الزاوية المظلمة.

"اهرب يا بني.. لا تدعه يمسك بك.." صوت رجل يئن من الألم، يبدو كصوت والده الراحل.

أغلق يوسف أذنيه بيديه بقوة، محاولاً حجب الأصوات، لكنها لم تكن تأتي من الخارج. كانت تتردد داخل جمجمته مباشرة. "افتح الباب يا يوسف.. نحن ننتظرك." ... "انضم إلينا في الجدار.. المكان بارد هنا."

فجأة، ساد صمت مطبق. صمت أشد رعباً من الأصوات. ثم سمع وقع خطوات ثقيلة في الممر خارج المكتبة.

دب.. دب.. دب..

خطوات بطيئة، منتظمة، وتقترب من الباب الذي يستند إليه. توقفت الخطوات مباشرة خلف ظهره. شعر ببرودة تنفذ من خشب الباب إلى عموده الفقري. ثم، صوت خربشة بطيئة بأظافر طويلة على خشب الباب من الخارج.

خرررش.. خرررش..

"أعرف أنك في الداخل يا صغيري.. المذكرات لن تحميك." كان صوت جده عثمان، واضحاً، قوياً، ومفعماً بالشر.

الفصل التاسع: اللوحة التي تغيرت ملامحها

مع بزوغ خيوط الفجر الأولى، توقفت الأصوات واختفت البرودة. تجرأ يوسف أخيراً على الخروج من المكتبة. كان منهكاً، وعيناه محاطتان بهالات سوداء، وشعره أشعث. قرر النزول للطابق الأرضي لمحاولة إيجاد مخرج آخر، حيث أن الباب الرئيسي كان مغلقاً بقوة خارقة.

أثناء نزوله الدرج، مر بجانب اللوحة الزيتية الضخمة التي تتوسط الجدار عند بسطة السلم. كانت لوحة "عثمان بك" بملابسه الرسمية ونظراته الحادة التي تبعث على الهيبة. كان يوسف قد نظر إليها عند دخوله أمس، وكان متأكداً أن الجد كان ينظر للأمام بجمود.

لكن الآن.. شيئاً ما كان مختلفاً. توقف يوسف وتفرس في اللوحة. دقات قلبه تسارعت. وضعية الجد في اللوحة تغيرت. كان رأسه مائلاً قليلاً لليمين، وزاوية فمه ارتفعت في ابتسامة ساخرة خبيثة لم تكن موجودة من قبل. والأكثر رعباً، كانت عيناه في اللوحة لا تنظران للأمام، بل كانتا تنظران لأسفل.. باتجاه قدمي يوسف مباشرة.

تراجع يوسف للخلف وهو يشهق. هل يتخيل؟ فرك عينيه ونظر مجدداً. تغيرت اللوحة مرة أخرى أمام عينيه هذه المرة. بدأت الألوان تذوب وتسيل كأنها شمع منصهر. تحول وجه الجد الوقور إلى قناع من الرعب، فمه مفتوح في صرخة صامتة، وعيناه بيضاوان تماماً. وخلف الجد في اللوحة، بدأت تظهر ظلال سوداء لأيدٍ كثيرة تمسك بكتفيه وتحاول سحبه إلى الخلف، إلى عمق الظلام المرسوم.

سمع يوسف صوت تمزيق قماش. انشق قماش اللوحة من المنتصف، وخرجت منها يد حقيقية، رمادية ومتعفنة، تمتد نحوه محاولة الإمساك بقميصه. صرخ يوسف وقفز مبتعداً، وسقط متدحرجاً على باقي درجات السلم حتى وصل للأرضية، واللوحة تتمزق ببطء ليخرج منها شيء لا ينتمي لعالم البشر.

الفصل العاشر: السر المدفون في الحديقة

بعد السقوط المؤلم على الدرج، وهروبه من تلك اليد الرمادية التي خرجت من اللوحة، لم يجد يوسف ملجأً سوى الاندفاع نحو الباب الخلفي للمطبخ. كان الباب متهالكاً، دفعه بكتفه بقوة حتى انخلع المزلاج، وخرج يلهث إلى هواء الحديقة الخلفية.

كان الجو خانقاً في الخارج رغم برودته. الحديقة لم تكن مجرد نباتات مهملة، بل كانت غابة متشابكة من الأشجار الشوكية التي تبدو وكأنها زرعت لغرض واحد: منع أي شخص من المغادرة.. أو الدخول. تذكر يوسف كلمات المذكرات: "كريم غرق في البئر الجاف." لماذا يغرق شخص في بئر جاف؟ هذا السؤال كان يؤرقه.

بحث وسط الأعشاب الطويلة التي تصل لخصره حتى وجد حافة حجرية دائرية قديمة. البئر. أزاح النباتات المتسلقة ونظر للداخل. لم يكن هناك ماء، فقط ظلام دامس ورائحة عفونة قوية. أشعل كشافه وسلطه للأسفل. القاع لم يكن بعيداً جداً، ربما ثلاثة أمتار، لكنه لم يكن فارغاً. كان القاع مرصوفاً بحجارة غريبة عليها نقوش، وفي المنتصف حلقة حديدية ضخمة مثبتة في الأرضية الحجرية للبئر.

لم يكن بئراً للماء. كان مدخلاً. وجد يوسف سلماً حديدياً صدئاً مثبتاً في الجدار الداخلي للبئر. تردد للحظة. عقله يصرخ به أن يهرب، لكن غريزته تخبره أن الهروب مستحيل دون فهم ما يواجهه. نزل بحذر، والحديد يصر تحت وزنه. عندما وصل للقاع، أمسك بالحلقة الحديدية وسحبها بكل قوته. تحركت الأرضية الحجرية بصوت طحن صخري ثقيل، كاشفة عن ممر سري منحدر يغوص تحت أساسات القصر.

الفصل الحادي عشر: طقوس السواد

دفع الفضول والرعب يوسف للدخول في الممر الضيق. كانت الجدران رطبة، تنضح بسائل لزج أسود يشبه القطران. كلما تقدم، زادت رائحة البخور القديم الممزوج برائحة الدم المتجلط.

انفتح الممر فجأة على غرفة واسعة دائرية الشكل تقع مباشرة تحت البهو الرئيسي للقصر. توقف يوسف مذهولاً. كانت الأرضية مغطاة برموز هندسية معقدة مرسومة بمادة حمراء داكنة. في زوايا الغرفة، تماثيل صغيرة مشوهة لمخلوقات نصفها بشر ونصفها حيوانات مفترسة. وفي المنتصف، مذبح حجري أسود، عليه بقايا شموع سوداء ذائبة، وخنجر فضي ذو مقبض عظمي.

اقترب يوسف من المذبح، ووجد كتاباً ضخماً مفتوحاً. لم يكن مذكرات هذه المرة، بل كان كتاب "تعويذات". كانت الصفحة المفتوحة بعنوان: "طقس التبادل الأبدي". قرأ الكلمات المكتوبة تحتها:

"للحفاظ على الخلود، يجب نقل الروح من الوعاء القديم المتهالك إلى وعاء جديد من نفس الدم. يجب أن يتم الطقس طوعاً أو كرهاً في ليلة اكتمال القمر الأحمر."

نظر يوسف إلى الجدار المقابل، فوجد شجرة عائلة مرسومة بالفحم. كل الأسماء كانت مشطوبة بعلامة (X) حمراء، ما عدا اسمه. وفوق اسمه، كان هناك تاريخ. تاريخ اليوم. أدرك يوسف الحقيقة المرعبة. جده لم يستدرجه ليعطيه الورث. جده استدرجه لأن "الليلة" هي ليلة الطقس.

فجأة، انطفأ كشاف يوسف. وفي الظلام التام، سمع صوت تنفس بجانبه مباشرة، وهمس يقول: "لقد تأخرت يا حفيدي.. التجهيزات اكتملت."

الفصل الثاني عشر: اختفاء المنطق

أعاد يوسف تشغيل الكشاف بضربات هستيرية حتى عاد الضوء ومضاً ومتقطعاً. لم يكن هناك أحد بجانبه، لكن الغرفة بدأت تهتز. ركض عائداً نحو الممر الذي جاء منه، صاعداً سلم البئر، وخرج إلى الحديقة.

لكن الحديقة.. لم تكن الحديقة. السماء التي كانت رمادية أصبحت الآن بلون بنفسجي غريب، والقمر في السماء كان ضخماً بشكل غير طبيعي ولونه أحمر قانٍ كعين ملتهبة. الأشجار لم تعد نباتات، بل تحولت إلى تماثيل حجرية ملتوية بأشكال بشرية تتألم.

حاول يوسف الركض نحو سيارته، لكن كلما ركض للأمام، وجد نفسه يقترب أكثر من باب القصر. المسافات فقدت معناها. المنطق انهار تماماً. توقف يوسف وهو يلهث، ونظر لساعته. العقارب كانت تدور بسرعة جنونية ثم تتوقف، ثم تدور عكس الاتجاه. نظر إلى القصر، فشهق من الرعب. القصر نفسه كان يتنفس. النوافذ تضيق وتتوسع مثل حدقات العيون، والجدران الحجرية تنبض وكأن تحتها أوردة وشرايين تضخ دماء فاسدة.

حاول يوسف الصراخ، لكن صوته خرج كصدى بعيد، وكأنه يصرخ من تحت الماء. رأى باب القصر يفتح ببطء، ومن الداخل، رأى نفسه.. "يوسف آخر" يدخل القصر كما فعل في يومه الأول، ويحمل حقيبته. كان يشاهد لحظة وصوله تتكرر أمامه في حلقة زمنية مشوهة.

صرخ يوسف لتحذير نسخته الأخرى: "لا تدخل! ارجع!"

لكن "يوسف الآخر" لم يسمعه، ودخل القصر، ليغلق الباب خلفه بصوت مدوٍ، تاركاً يوسف "الحقيقي" محاصراً في الخارج، في عالم لم تعد فيه قوانين الفيزياء سارية، وتحت سماء لا تنتمي لكوكب الأرض.

الفصل الثالث عشر: الوجه في المرآة

لم يستطع يوسف البقاء في الخارج طويلاً تحت تلك السماء البنفسجية ومع تلك التماثيل التي بدأت تدير رؤوسها نحوه ببطء شديد وتصدر أصوات تكسير حجرية. اندفع عائداً إلى داخل القصر، ليس لأنه يريد ذلك، بل لأنه الملاذ الوحيد المتبقي من الجنون الخارجي.

بمجرد دخوله، تغير المشهد مرة أخرى. البهو الرئيسي اختفى، ووجد نفسه يقف في ممر طويل وضيق، جدرانه وسقفه وأرضيته مغطاة بالكامل بالمرايا. مئات الانعكاسات ليوسف كانت تحيط به من كل جانب. مشى بحذر، محاولاً ألا ينظر إلى انعكاساته، لكن شيئاً ما أجبره على التوقف.

في إحدى المرايا الكبيرة على يمينه، كان انعكاسه لا يتحرك معه. كان "يوسف" في المرآة يقف ثابتاً، يحدق فيه بنظرة باردة. اقترب يوسف من المرآة ببطء، ومد يده ليلمس الزجاج. فجأة، ابتسم انعكاسه. لم تكن ابتسامة يوسف، كانت ابتسامة جده "عثمان". بدأ وجه الانعكاس يتغير. الجلد الشاب بدأ يتغضن ويترهل، الشعر الأسود تحول إلى رمادي ثم تساقط، والعيون البنية تحولت إلى ثقبين أسودين.

في ثوانٍ معدودة، شاهد يوسف نفسه يشيخ خمسين عاماً، ثم يتحول إلى جثة متعفنة، ثم إلى هيكل عظمي، ثم يعود ليصبح وجه جده عثمان وهو في عز شبابه.

تحدث الانعكاس، لكن الصوت لم يخرج من المرآة، بل دوى في رأس يوسف مباشرة: "الجسد مجرد قشرة يا يوسف.. والقشرة تبلى. شكراً لأنك حافظت على قشرتك جيدة من أجلي."

ضرب يوسف المرآة بقبضته محاولاً تحطيمها، لكن الزجاج لم ينكسر، بل تموج كسطح الماء، وخرجت منه يد العجوز لتمسك بمعصم يوسف بقوة ساحقة، محاولاً سحبه إلى داخل عالم المرايا.

الفصل الرابع عشر: الحقيقة المرعبة

ناضل يوسف بكل قوته، مستخدماً السكين التي ما زال يحتفظ بها ليطعن اليد التي تمسك به. انبعث دخان أسود من الجرح في ذراع "الانعكاس"، وأفلتت اليد قبضتها مع صرخة غاضبة. سقط يوسف للخلف، ووجد نفسه يتدحرج عبر باب لم يكن موجوداً من قبل، ليدخل غرفة تشبه زنزانة أو مشفى بدائي قديم.

كانت الغرفة مليئة بأدوات طبية قديمة صدئة، وأسرة حديدية عليها أحزمة جلدية لتثبيت المرضى. الجدران كانت مغطاة بكتابات محفورة بالأظافر. اقترب يوسف ليقرأ ما كُتب. لم تكن مجرد خربشات، كانت تواريخ وأسماء.

"سمية - ١٩٨٥: أبي يمتص حياتي.. أشعر بالبرد دائماً." "أحمد - ١٩٩٠: إنه ليس والدي.. إنه شيء يرتدي وجهه."

وجد يوسف طاولة عمليات في المنتصف، وعليها مخططات تشريحية غريبة ليست للبشر. المخططات تشرح كيفية "فصل الروح عن الجسد" وكيفية "تفريغ الوعاء". أدرك يوسف الحقيقة الكاملة والمرعبة: جده عثمان لم يمت موتاً طبيعياً قبل عشرين عاماً. جسده مات، لكن روحه -أو الكيان الذي اتحد معه- انتقل ليعيش في الظلال، يتغذى على حياة أبنائه واحداً تلو الآخر ليستمر في الوجود، منتظراً اللحظة المناسبة، منتظراً الجسد المثالي.. جسد الحفيد البكر الذي يحمل نفس الجينات، ليعود به إلى الحياة المادية.

يوسف لم يكن هنا ليرث مالاً، بل ليرث لعنة.. ليصبح هو "عثمان" الجديد.

الفصل الخامس عشر: محاولة الهروب

تملك الغضب من يوسف وطغى على خوفه. لن يسمح لهذا أن يحدث. لن يكون دمية لجدّه الملعون. "تريد جسدي؟" صرخ يوسف بصوت مبحوح وهو ينظر للسقف، "تعال وخذه محترقاً!"

أخرج يوسف ولاعته، وبدأ يشعل النار في الستائر القديمة المهترئة، وفي الأوراق المتناثرة، وحتى في الأغطية العفنة على الأسرة. انتشرت النار بسرعة، لكنها لم تكن ناراً عادية. كانت ألسنة اللهب زرقاء وباردة، وبدلاً من أن تحرق الخشب، بدأت تأكل "الظلام" نفسه. بدأ القصر يصرخ. نعم، الجدران كانت تصرخ بصوت حقيقي، كأن اللحم يحترق. الأرضية بدأت تنزف سائلاً أسود لزجاً.

ركض يوسف تجاه النافذة الوحيدة في الغرفة، محاولاً كسرها والقفز منها مهما كان الارتفاع. حمل كرسياً حديدياً ورماه بكل قوته على الزجاج.

طرخ!

لم ينكسر الزجاج. بل ارتد الكرسي وكأنه اصطدم بجدار مطاطي. حاول مرة أخرى، لكن النافذة بدأت تتقلص وتصغر حتى اختفت تماماً، تاركة إياه محاصراً وسط جدران ملساء.

امتلأت الغرفة بالدخان الذي بدأ يتشكل على هيئة وجوه تضحك بسخرية. انفتح الباب الذي دخل منه، ووقف هناك "الشيء" الذي كان يطارده. لم يعد ظلاً، ولم يعد شبحاً. كان "عثمان"، لكنه طويل بشكل غير طبيعي، وأطرافه متدلية، وفمه مشقوق حتى أذنيه.

قال الكيان بصوت يشبه صوت طحن العظام: "النار تطهر يا يوسف.. شكراً لأنك جهزت الطقوس بنفسك."

الفصل السادس عشر: الحصار

تقدم الكيان المشوه الذي يرتدي وجه الجد "عثمان" نحو يوسف ببطء، غير عابئ بألسنة اللهب الزرقاء التي بدأت تلتهم الأثاث حولهما. كان الكيان ضخماً لدرجة أن رأسه كاد يلامس السقف، وأظافره الطويلة تقطع الهواء بصوت حاد.

"أنت تظن أن النار تخيفني؟" قهقه الكيان بصوت رجّ جدران الغرفة. "أنا النار يا يوسف.. أنا الجحيم الذي عاش فيه هذا القصر لقرون."

تراجع يوسف للخلف حتى اصطدم بالجدار. لا مفر. النافذة اختفت، والباب يسده الوحش. بحث يوسف بعينيه عن أي سلاح. لم يكن هناك سوى بقايا الكرسي الحديدي الذي حطم به النافذة سابقاً. التقط ساق الكرسي الحديدية المدببة ووجهها نحو الوحش. "لن تأخذني حياً!" صرخ يوسف، وصوته يرتجف رغماً عنه.

انقض الكيان بسرعة لا تتناسب مع ضخامته. ضربة واحدة من ذراعه الطويلة كانت كفيلة بقذف يوسف عبر الغرفة ليرتطم بالجدار المقابل بقوة كسرت أنفاسه. شعر يوسف بطعم الدم في فمه. حاولت أضلاعه أن تصرخ من الألم، لكن الرعب كان مخدراً أقوى. زحف يوسف محاولاً الابتعاد، لكن الجدران بدأت تضيق. السقف بدأ ينخفض ببطء. الغرفة تتحول إلى صندوق ضاغط، والقصر يحاول سحقه وعصر روحه لتخرج من جسده.

في تلك اللحظة، لاحظ يوسف شيئاً غريباً. النار التي أشعلها.. كانت تبتعد عن الكيان وكأنها تخشى لمسه، لكن في الوقت نفسه، كلما لمست النار جزءاً من "لحم" القصر (الجدران النابضة)، كان الكيان يصرخ صرخة مكتومة ويتلوا. النار تؤذيه.. لكن ليس بشكل مباشر. النار تؤذي "الجسد الأكبر" الذي يسكنه الكيان.. القصر نفسه.

الفصل السابع عشر: المواجهة مع الشيطان

فهم يوسف اللعبة أخيراً. جده ليس مجرد شبح يسكن القصر، جده هو القصر. الجدران هي جلده، والنوافذ هي عيونه، وهذا الجسد المشوه الذي أمامه هو مجرد "قلب" أو "تجسيد مركزي" لوعيه. إذا أراد قتل الوحش، يجب أن يقتل القصر بالكامل.

نهض يوسف بصعوبة، متجاهلاً الألم المبرح في ظهره. بدلاً من مهاجمة الكيان، استدار يوسف نحو الجدار النابض خلفه، وبدأ يطعنه بساق الكرسي الحديدية بكل قوته، مرة تلو الأخرى. خرج سائل أسود كريه الرائحة من الجدار، وصرخ الكيان خلفه صرخة مدوية هزت الأرض تحت قدميه.

"توقف أيها الأحمق! أنت تقتل ميراثك!"

استدار يوسف وابتسم والدماء تغطي أسنانه. "أنا أرفض الميراث."

أخرج الزجاجة الصغيرة من جيبه، زجاجة وقود الولاعات التي كان يحتفظ بها، وسكب ما تبقى منها على الجرح النازف في الجدار، ثم أشعل الولاعة. اشتعل السائل الأسود فوراً بلهب أبيض ساطع وعنيف. انتشرت النار في "عروق" القصر بسرعة البرق. بدأ الكيان يتلاشى ويترنح، وكأن طاقته تُسحب منه لتغذية الألم الذي يشعر به البيت.

استغل يوسف فرصة ضعف الكيان، وركض تجاهه. لم يكن يهرب منه هذه المرة، بل يهاجمه. قفز يوسف متفادياً المخالب، واندفع نحو الباب المفتوح، ليعود إلى الممر الرئيسي. لكن الممر كان جحيماً مستعراً. اللوحات تحترق وتصرخ، والسجاد يتحول إلى رماد، والدرج ينهار. وقف الكيان مرة أخرى في نهاية الممر، وقد استعاد بعض قوته، وسد الطريق إلى المخرج الوحيد.

"ظننت أنك ذكي.." همس الكيان، وعيناه تشتعلان غضباً، "لكن لا خروج من هنا إلا بموتي.. أو موتك."

الفصل الثامن عشر: التضحية

وقف يوسف في منتصف الممر المحترق، والنيران تحيط به من كل جانب. أمامه جده الشيطان، وخلفه الهاوية. أدرك يوسف أن النار وحدها لن تكفي. القصر يتألم، لكنه لا يموت. اللعنة متجذرة في الأساسات، في ذلك المذبح الموجود في القبو. وطالما بقي المذبح سليماً، سيعيد القصر بناء نفسه، وسيعود جده مرة أخرى.

نظر يوسف إلى الأسفل، حيث الفجوة التي أحدثها انهيار الدرج. تحتها مباشرة يقع القبو السري. كانت المسافة بعيدة، والسقوط قد يكون مميتاً. لكنه الطريق الوحيد للوصول إلى قلب اللعنة وإنهاء هذا الكابوس للأبد.

نظر إلى جده وقال بهدوء غريب: "أنت محق.. أحدنا يجب أن يموت الليلة."

لم ينتظر يوسف رد الكيان. ركض بكل قوته تجاه حافة الهاوية. ظن الكيان أنه ينتحر، فضحك بصوت عالٍ: "نعم! استسلم لليأس!" لكن يوسف لم يكن يستسلم. قفز يوسف في الهواء، وفي يده ساق الكرسي الحديدية، موجهاً جسده ليسقط عمودياً نحو الفتحة في الأرضية التي تؤدي للقبو.

أثناء سقوطه، رأى نظرة الرعب تظهر لأول مرة على وجه جده. لقد أدرك الكيان متأخراً وجهة يوسف. اصطدم يوسف بالأرضية الصلبة للقبو. سمع صوت طقطقة مرعبة في ساقه اليسرى، وصرخ من الألم الذي أعمى بصره للحظات. لكنه كان حياً.. وكان داخل القبو. وأمامه مباشرة، كان المذبح الأسود، وعليه الكتاب الملعون، ينبض بضوء أحمر خافت، غير مدرك للخطر الذي وصل إليه للتو.

زحف يوسف، فاقداً القدرة على المشي، يجر ساقه المكسورة خلفه، وعيناه مثبتتان على المذبح. "النهاية هنا يا جدي.." همس يوسف وهو يرفع قضيب الحديد بيده المرتجفة، مستعداً لتوجيه الضربة القاضية لقلب القصر.

الفصل التاسع عشر: النار والرماد

رفع يوسف القضيب الحديدي عالياً، ورغم الألم الذي يمزق ساقه، إلا أن الأدرينالين كان يضخ في عروقه قوة لا نهائية. هوى بالقضيب على الكتاب المفتوح فوق المذبح.

طرااااخ!

لم يكن صوت ارتطام حديد بجلد، بل كان صوت رعد مكتوم. انفجر الكتاب. لم تتطاير منه أوراق، بل انبعثت منه صرخة.. صرخة جماعية لآلاف الأرواح المعذبة التي حُبست داخله لعقود.

اهتز القبو بعنف. الشروخ بدأت تظهر في المذبح الأسود، وتسرب منها ضوء أبيض ساطع حارق. سمع يوسف صوت جده يأتيه من الطابق العلوي، ليس صوتاً واثقاً هذه المرة، بل صرخة ألم واحتضار: "لااااا! ماذا فعلت يا يوسف؟! أنت تهدم الخلود!"

بدأت جدران القبو تتصدع. السقف الحجري بدأ يتساقط قطعاً صغيرة. زحف يوسف مبتعداً عن المذبح الذي تحول الآن إلى كتلة من اللهب الأبيض النقي. النار بدأت تأكل كل شيء.. الظلام، السواد، اللعنة. نظر يوسف للأعلى، نحو الفتحة التي سقط منها. كان من المستحيل تسلقها بساقه المكسورة. "هل هذه هي النهاية؟" فكر يوسف. "على الأقل سأموت وأنا أعلم أنني قتلت الوحش."

أغلق عينيه مستسلمًا لسقوط صخرة ضخمة من السقف، لكنها لم تسقط عليه. توقفت الصخرة في الهواء. فتح عينيه بذهول. كانت هناك أطياف شفافة تحيط به. وجوه شاحبة وحزينة، لكنها تبتسم له. عرفهم من الصور القديمة. عمته سعاد.. عمه كريم.. وعشرات الأطفال والرجال والنساء الذين قرأ أسماءهم في المذكرات وفي الزنزانة. كانوا يرفعون الأنقاض بأيديهم الشبحية، ويشكلون له درعاً ضد الانهيار.

أشارت عمته سعاد نحو شق ضيق ظهر في جدار القبو بسبب الزلزال. كان الشق يؤدي إلى نفق صرف قديم يخرج إلى الغابة. زحف يوسف بكل ما أوتي من قوة. الألم كان يجعله يغيب عن الوعي لثوانٍ ثم يفيق، لكن الأطياف كانت تدفعه.. تهمس له: "اخرج.. عش من أجلنا."

وصل إلى نهاية النفق، ورأى ضوء القمر الأحمر يختفي تدريجياً ليحل محله ضوء الفجر الرمادي. دفع جسده خارج الفتحة، وسقط على العشب الرطب البارد. خلفه، انهار القصر تماماً. دوي الانهيار كان هائلاً، وارتفعت سحابة من الغبار والرماد حجبت السماء. مات القصر. ومات معه عثمان.

الفصل العشرون: صدى لا ينتهي (الخاتمة)

استيقظ يوسف بعد وقت غير معلوم. كانت الشمس قد أشرقت، دافئة وحقيقية. العصافير تغرد لأول مرة، وكأن الغابة قد تحررت من سحر أسود كان يخنقها. تحامل يوسف على نفسه، وصنع عكازاً بدائياً من غصن شجرة، وسار يعرج نحو المكان الذي ترك فيه سيارته.

وجد السيارة كما هي، مغطاة بطبقة من الغبار، لكنها سليمة. جلس خلف المقود، وأدار المفتاح. دار المحرك من المحاولة الأولى بصوت ناعم ومريح. ضحك يوسف. ضحكة هيستيرية ممزوجة بالبكاء. لقد نجا. لقد انتصر. نظر إلى المرآة الجانبية، رأى كومة الحجارة السوداء التي كانت يوماً قصراً. لم يتبق سوى الرماد.

انطلق بالسيارة مبتعداً عن قرية "كفر الغروب"، تاركاً الجحيم خلف ظهره. أثناء القيادة، شعر يوسف ببرد مفاجئ يلفح رقبته، رغم أن نوافذ السيارة كانت مغلقة والشمس ساطعة. مد يده ليعدل مرآة الرؤية الخلفية ليرى الطريق خلفه.

في المرآة، لم يرَ الطريق الخالي. رأى المقعد الخلفي لسيارته. كان هناك شخص يجلس في الخلف. رجل عجوز، يرتدي بدلة أنيقة مغطاة بالرماد، وعيناه تلمعان ببريق أحمر خافت. إنه جده عثمان.

تجمد يوسف، وكادت السيارة تنحرف عن الطريق. ابتسم الجد في المرآة، تلك الابتسامة الساخرة نفسها، وقال بصوت هادئ وواضح، وكأنه يجلس بجانبه:

"هل ظننت حقاً أنك تستطيع قتل الماضي يا يوسف؟ القصر لم يكن سوى حجر.. والمذبح لم يكن سوى رمز."

اقترب وجه الجد من أذن يوسف في الانعكاس، وهمس:

"اللعنة الحقيقية ليست في المكان.. اللعنة في الدم. وأنت الآن.. تحمل دمي كله."

نظر يوسف إلى عينيه في المرآة. للحظة واحدة.. مجرد لحظة مرعبة.. رأى بؤبؤ عينيه يتغير ليصبح مشقوقاً كعيون الأفاعي، تماماً كعيون جده. استمرت السيارة في السير نحو المدينة، نحو الزحام، نحو البشر.. حاملة بداخلها الناجي الوحيد، والوحش الذي يسكنه.

تمت

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
sherif salah تقييم 5 من 5.
المقالات

5

متابعهم

1

متابعهم

1

مقالات مشابة
-
إشعار الخصوصية
تم رصد استخدام VPN/Proxy

يبدو أنك تستخدم VPN أو Proxy. لإظهار الإعلانات ودعم تجربة التصفح الكاملة، من فضلك قم بإيقاف الـVPN/Proxy ثم أعد تحميل الصفحة.