البيت المظلم المهجور

البيت المظلم المهجور

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

البيت مظلم المهجور

 

 **المقدمة**

على أطراف قرية "الغافية" المنسية، حيث تتشابك أغصان الصفصاف العجوز لتحجب نور الشمس، يقبع "بيت المعقود" شامخًا كشاهد صامت على زمن مضى. لم يكن مجرد بيت مهجور، بل كان أسطورة حية يتناقلها أهل القرية همسًا في لياليهم الطويلة. جدرانه المتصدعة، التي لطخها الزمن بلون ترابي كئيب، ونوافذه المحطمة التي تشبه عيونًا جوفاء تحدق في الفراغ، كلها كانت تحكي فصولًا من حكايات لم تكتمل.

يُشاع أن البيت بُني على أرض مقبرة قديمة، وأن أرواح الموتى لم تجد راحتها قط. يتحدث العجائز عن صرخات مكتومة تنبعث منه في الليالي المقمرة، وعن ظلال تتراقص خلف نوافذه المكسورة. لكن القصة الأكثر رعبًا كانت عن أسرة "الغمري" التي سكنته قبل نصف قرن واختفت في ليلة واحدة دون أثر، تاركة وراءها مائدة عشاء لم تُلمس، وأبوابًا مفتوحة على مصراعيها للريح.

في خضم هذه الشائعات، كان "آدم"، الصحفي الشاب الباحث عن قصة مثيرة تعيد لمسيرته المهنية بريقها، يرى في بيت المعقود فرصة لا تعوض. لم يكن مؤمنًا بالخرافات، بل كان يرى فيها مادة خامًا لقصة صحفية ناجحة. مدفوعًا بمزيج من الفضول المهني والتحدي الشخصي، قرر آدم أن يقضي ليلة كاملة داخل البيت، ليوثق "خرافات" القرية ويفضح زيفها بقلمه وكاميرته. حزم حقيبته التي احتوت على مصباح يدوي قوي، كاميرا، جهاز تسجيل صوتي، وبطارية إضافية، وانطلق نحو مصيره المحتوم.

 **تصاعد الأحداث**image about البيت المظلم المهجور

مع غروب الشمس، وصل آدم إلى البيت. كان الصمت المطبق الذي يحيط بالمكان أثقل من أي ضجيج. دفع الباب الخشبي الثقيل الذي أطلق صريرًا حادًا كأنه أنين طويل، ليجد نفسه في بهو واسع يلفه الغبار ورائحة العفن والرطوبة. بدأ آدم مهمته بتجول حذر، يلتقط الصور ويسجل ملاحظاته الصوتية. "المكان مهمل، لكن لا شيء غريب حتى الآن"، قالها بصوت حاول أن يجعله ثابتًا.

بعد ساعة، ومع حلول الظلام الكامل، بدأت الأصوات. همسات خافتة كحفيف أوراق يابسة، لكنها كانت تأتي من داخل الغرف المغلقة. تجاهلها في البداية، معتبرًا إياها من فعل الريح التي تتسلل عبر الشقوق. ثم سمع صوت خطوات بطيئة في الطابق العلوي. توقف قلبه للحظة. رفع مصباحه نحو السقف المتآكل، لكن الصوت توقف فجأة. أقنع نفسه بأنها مجرد فئران أو حيوانات صغيرة اتخذت من البيت مأوى لها.

واصل جولته حتى وصل إلى غرفة الطعام. كانت الطاولة ما تزال في مكانها، مغطاة بطبقة كثيفة من الغبار، لكن أمكن رؤية بقايا أطباق قديمة وأكواب مقلوبة. شعر بقشعريرة تسري في جسده وهو يتخيل مشهد أسرة الغمري الأخيرة. فجأة، اهتزت الثريا المعلقة فوق الطاولة بعنف، محدثة صوتًا معدنيًا مرعبًا، ثم سقطت قطعة كريستال صغيرة وتحطمت على الأرض. لم تكن هناك رياح في الغرفة، والنوافذ كانت مغلقة بإحكام. بدأ الخوف يتسلل إلى قلبه، لكنه حاول التماسك.

وجد آدم مذكرات قديمة على رف خشبي مهترئ، كانت تعود لابنة أسرة الغمري. بدأت الصفحات الأولى بوصف سعادة العائلة بالبيت الجديد، لكن سرعان ما تحولت النبرة إلى خوف ورعب. كتبت الفتاة عن "الرجل الواقف في الزاوية"، ظل أسود طويل لا يظهر إلا في الظلام، وعن همسات تنادي اسمها من الجدران، وعن شعور دائم بالبرودة الجليدية حتى في أشد الأيام حرارة. آخر صفحة كانت مكتوبة بخط مضطرب: "إنه يريدنا أن نبقى معه... إلى الأبد".

 **الذروة**

عند منتصف الليل، وبينما كان آدم يقرأ المذكرات في غرفة الجلوس على ضوء مصباحه، انقطعت الكهرباء فجأة عن المصباح رغم أن بطاريته كانت جديدة. غرق المكان في ظلام دامس لم يكسره سوى ضوء القمر الخافت المتسلل من النوافذ. حاول تغيير البطارية بيدين مرتعشتين، لكن دون جدوى. في تلك اللحظة، شعر ببرودة جليدية تخترق عظامه، وتناهت إلى أنفه رائحة غريبة تشبه رائحة التراب المبلل والزهور الذابلة.

عندما رفع رأسه، رآه. في أبعد زاوية في الغرفة، تجسد ظل أسود طويل، أكثر سوادًا من الظلام المحيط به. لم يكن له ملامح، مجرد فراغ على شكل إنسان. تجمد آدم في مكانه، وشعر بأنفاسه تتسارع حتى كادت تختنق. بدأ الظل يتحرك نحوه ببطء شديد، دون صوت، كأنه ينساب فوق الأرض. مع كل خطوة يقتربها، كانت البرودة تزداد، وبدأ يسمع صوت همس مرعب يتردد في عقله مباشرة، لم يكن صوتًا مسموعًا بالأذن، بل كان شعورًا، فكرة تترسخ في ذهنه: "لن ترحل".

في لحظة من الهلع المطلق، استجمع آدم كل ما تبقى له من قوة، ورمى بجهاز التسجيل نحو الظل، ثم استدار وركض بأقصى سرعة نحو الباب. كان يسمع خلفه صوتًا يشبه تمزق القماش، وصوت خطوات ثقيلة تلاحقه. تعثر بالأثاث المبعثر، وسقط عدة مرات، لكنه كان ينهض مدفوعًا بغريزة البقاء.

 **الهبوط**

وصل آدم إلى الباب الأمامي، لكنه وجده مغلقًا بإحكام، وكأن قفلًا حديديًا ضخمًا قد وُضع عليه. حاول فتحه بجنون، يضرب الخشب بجسده، لكن الباب لم يتزحزح. التفت خلفه، فرأى الظل يقف عند مدخل البهو، يراقبه بصمت. في تلك اللحظة، لمع شيء في يده، كانت مفتاحًا قديمًا صدئًا وجده سابقًا على الطاولة ولم يعره اهتمامًا. بيدين ترتجفان، أدخل المفتاح في قفل الباب، ولدهشته، دار القفل بسهولة.

فتح الباب على مصراعيه وانطلق خارجًا إلى ليل القرية، لم يتوقف عن الركض حتى وصل إلى أول أضواء البلدة. لم يجرؤ على النظر خلفه، لكنه كان يشعر بأن عيون البيت الجوفاء تلاحقه.

 **الخاتمة**

لم يعد آدم إلى قرية "الغافية" أبدًا. استقال من عمله وانتقل إلى مدينة أخرى، محاولًا الهرب من ذكريات تلك الليلة. لم يكتب قصته الصحفية، فالكلمات عجزت عن وصف الرعب الذي عاشه. بقي السؤال الذي يطارده كل ليلة: هل كان هروبه حقيقيًا، أم أنه مجرد وهم سمح له الكيان بالعيش فيه؟ هل هو حر طليق، أم أنه لا يزال محاصرًا بطريقة ما داخل جدران "بيت المعقود"؟

أما البيت، فبقي على حاله، شامخًا ومنسيًا. زادت الشائعات حوله بعد "اختفاء" الصحفي الذي تجرأ على دخوله، وأصبح الناس يتجنبون حتى المرور من الشارع الذي يقع فيه. يقول البعض إنهم في الليالي الصافية، يرون ضوء مصباح يدوي وحيد يومض من إحدى نوافذه العلوية، كأن شخصًا ما لا يزال يبحث عن مخرج.


 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
LW is تقييم 4.67 من 5.
المقالات

2

متابعهم

0

متابعهم

1

مقالات مشابة
-
إشعار الخصوصية
تم رصد استخدام VPN/Proxy

يبدو أنك تستخدم VPN أو Proxy. لإظهار الإعلانات ودعم تجربة التصفح الكاملة، من فضلك قم بإيقاف الـVPN/Proxy ثم أعد تحميل الصفحة.