العرافة - قصة خيال علمي

العرافة - قصة خيال علمي

0 المراجعات

 سأل " إمجي " صديقه " أوو" و هما يتمشيان على قارعة الطريق في أمسية يوم خريفي : " هل رأيت الفيلم الوثائقي الذي يتحدث عن حياة الديناصورات ؟ لقد عرض في التلفاز ليلة البارحة " ، رد عليه أوو قائلاً باندفاع : " أجل رأيته ، و كيف أفوت فيلماً كهذا ؟! لقد كان رائعاً حقاً ! شعرت أنني سافرت عبر الزمن إلى العصر الطباشيري " كان أوو متحمساً دائماً و يهوى المبالغة في الوصف ، و على الرغم  من إدراك إمجي لهذا الأمر ، إلا أنه قد وافقه الرأي تماماً بشأن روعة الفيلم الذي شاهداه . هبت نسمات الهواء العليلة التي ترطب الجو ، فاهتزت أفرع الأشجار الكبيرة التي تحف الجانب الأيمن من الطريق ، ملتصقة بالمنازل و النوافذ و متعلقة بالأسقف ، في حين كان الجانب الآخر من الطريق خالياً من تلك الخضرة و النباتات الكثيفة ، لا ترى فيه إلا بعض الأبنية القديمة و المتاجر المغلقة ، كان إمجي يوجه تركيزه إلى الجانب الأيمن و هو يقول بتأمل في أفكاره : " ما يجعلني أشعر بالحيرة  هو كيف عرف العلماء كل ذلك عن الديناصورات بمجرد عثورهم على بعض العظام المتهالكة ؟ كيف تمكنوا من فهم طبيعتها و فهم حياتها و إدراك العصر الذي عاشت فيه بل و طريقة حياتها أيضاً ؟ عندما تشاهد فيلماً وثائقياً عن الديناصورات ، فإنك تشعر بأن العلماء قد عثروا على دفتر مذكرات قديم لديناصور في ذلك الوقت  ، و قد أخبرهم ذلك الديناصور بكل شيء يتعلق بحياته و العصر الذي عاش فيه ، و لكنك تتعجب حين تدرك أن كل ما يعرفه العلماء عن الديناصورات قد تأتى فقط من هياكلها العظمية الرثة و أحافيرها " صمت إمجي و هو ينتظر رداً من أوو ، فتحدث الأخير قائلاً : " ما من شيء يدعو للعجب ، فالعلماء لديهم كل ما يجعلهم قادرين على فهم الطبيعة و خفاياها "

 لم تكن إجابة أوو دقيقة للغاية ، فسأله إمجي مستفسراً : " تقصد أن لديهم أسلوباً في ربط المعلومات و الآثار التي يعثرون عليها ببعضها البعض ، و من ثم استنتاج شيء ما ؟ "

لكزه أوو في كتفه و قال بسذاجة : " لا أيها المغفل ، بل إن لديهم قدرات خارقة و عجيبة ، و لهذا يستطيعون إدراك الأشياء التي يعجز عن إدراكها البشر العاديون أمثالك " أدار إمجي رأسه بامتعاض و تمتم قائلاً : "أنا الملام ،ما  كان علي أن أطرح سؤالاً معقداً كهذا على أحمق مثلك " و حين كانا يواصلان السير ، أبصر أوو على الجانب المقابل مبنى صغيراً و قديماً ، و قد علقت عليه لافتة كتب عليها بخط عريض و واضح ( العرافة سوزي ) ، شد صديقه من قميصه و قال بحماس : " يا فتى ، هل ترى ما أراه ؟ " توقف إمجي و حدق عن كثب إلى حيث يشير أوو ثم رد عليه بلا مبالاة : " إن كنت تعني هذا المبنى المتهالك المتداعي ، فنعم أستطيع رؤيته ، و لكن ما الذي يثير اهتمامك فيه إلى هذا الحد ؟ " أجاب أوو قائلاً  و أعينه تلمع تشويقاً : " انظر إلى اللافتة الكبيرة ، إنها تقول أن هذا المكان مخصص لعرافة ، لم يسبق أن تعاملت مع عراف حقيقي من قبل ، ما رأيك أن ندخل و نجرب الأمر ؟ أرجوك "  لم يكد أوو ينهي حديثه حتى تندت ضحكة ساخرة من إمجي و أتبعها بقوله : " عرافة ؟ إن كنت تعتقد أنني قد أدخل معك إلى مكان كهذا ، فلابد أنك قد فقدت عقلك تماماً يا صاحبي ، أنا لا أتعامل مع هؤلاء المخادعين الدجالين " و لم يكف أوو عن محاولة إقناع إمجي و الإلحاح عليه كثيراً ، حتى وافق الأخير على مضض أن يدخلا معاً إلى مبنى العرافة ، الذي كان يتألف من غرفة ضيقة و مظلمة ، و ما إن خطوا أولى خطواتهما إلى الداخل حتى سمعا صوتاً مفاجئاً يصيح باندفاع : " مرحباً بكم في وكر العرافة سوزي ! " انتفض كل منهما مذعوراً بما سمعه ، كان صوتاً غليظاً و عالياً بالرغم من أنه بدا كصوت امرأة ، و لما التفتا إلى مصدره تمكنا من رؤية امرأة ترتدي عباءة سوداء و برقعاً خفيفاً ، و كانت تجلس إلى طاولة صغيرة عليها كرة زينة بيضاء و أباجورة خافتة الإضاءة ، و على طرفها يقبع صندوق خشبي مغلق ، أخذ أوو أنفاسه برهبة و خوف ، و قد سرت في أنحاء جسده قشعريرة غريبة ، بخلاف إمجي الذي هز كتفيه استهانة و لا مبالاة ، ثم اقتربا من العرافة ، و ما إن وصلا إليها حتى سألتهما بنبرة بطيئة و ثقيلة : " ماذا تريدان أيها الشابان ؟! لما دخلتما إلى مقر العرافة سوزي ! " رد عليها إمجي باستهزاء : " المعذرة ، أنا لا أدري ، ألا يفترض أنك العرافة هنا ؟ ألست على علم بكل شيء ؟ " دهس أوو على قدم صديقه بتوتر و همس له قائلاً : " يا رجل ، لا تتصرف بوقاحة فقد تؤذينا " أجابه إمجي بخفوض مماثل : " دعني و شأني ، سأكشف لك كذب هذه المرأة المخادعة " و ما إن أتم جملته حتى عاد بتركيزه إلى العرافة و خاطبها قائلاً بتحد : " انصتي يا أختاه ، إن كنت عرافة كما تزعمين فأخبريني ما لون الجورب الذي أرتديه تحت حذائي الطويل ، خمني لونه و سأقر الآن بأنك عرافة حقيقية "  رفعت المرأة سبابتها فوراً و أشارت إلى إمجي  قائلة بنبرة لا تخفي الانزعاج : " أرى أنك تهزأ بي أيها الشاب ، هل تشك في قدراتي ؟ " ضحك إمجي ضحكة صامتة و ساخرة اهتزت لها أكتافه العريضة ،  و من ثم رد عليها متهكماً : " قدرات ؟ أتقصدين قدراتك الفائقة في الكذب و خداع الحمقى ؟ " شهق أوو بخوف من جرأة صديقه و قال ليلطف الأجواء : " أنا آسف سيدة عرافة ، تجاهلي صديقي فهو مجنون و لا يعني أياً مما قاله ، إنه يهلوس لا غير " دفع إمجي أوو و قال بعنف : " لست مجنوناً و لا مهلوساً ، و أؤكد لك بأنني أعني كل ما قلته أيتها المرأة ، و أتحداك أن تثبتي لي خلاف ذلك " ، كان من الواضح أن العرافة قد شعرت بالإهانة من أسلوب إمجي و سخريته منها ، فقد  لمعت عيناها المكحلتان لمعاناً يعبر عما في جوفها من غضب و استياء ، امتدت يداها تجاه الصندوق الخشبي و فرغته على الطاولة أمامها ، و قد كان يحتوي على بطاقات ورقية كتبت عليها أرقام و أعداد ، رتبتها المرأة باصطفاف فبدت واضحة تحت ضوء الأباجورة الخافت ، و ما إن انتهت من ذلك حتى رفعت رأسها و خاطبت إمجي بحدة : " اختر عدداً من بين هذه الأعداد المرصوفة قبالتك ، و سأخبرك حالاً بكل ما يخص حياتك ، ميولك ، مسكنك ، و العائلة التي تنتمي إليها ، سأخبرك بكل شيء عنك أيها الشاب ، هل تقبل هذا التحدي ؟ " ، اقترب إمجي أكثر و أسند يده على الطاولة ثم رمق البطاقات بنظرة استهتار و قال : " حسناً ، سأقبل هذا التحدي السخيف فقط كي أثبت لصديقي الساذج أنك مخادعة " تسمر قليلاً ليقرر الرقم الذي يود اختياره ، ثم تحدث بعدها ليقول : " اختار العدد اثني عشر" ساد الصمت لدقائق ، انتظر خلالها كل من إمجي و أوو رداً من العرافة ، و لكنها أغمضت عينيها و ظلت صامتة و مستكينة و لم تنطق بكلمة  ، و بقي الوضع على ما هو عليه لفترة من الزمن ، فشعر إمجي بالضجر و قال : " أيتها الآنسة ، هل غفوتي أم ماذا ؟ " لم ترد العرافة و ظلت على ما هي عليه من صمت و سكون ، فشد إمجي صديقه أوو من ذراعه و قال له : " أرأيت ؟ أخبرتك بأنها مجرد مخادعة ، إنها تحاول التفكير في كذبة سخيفة ترويها لنا ، هيا بنا لنذهب و لا نضيع المزيد من الوقت " ، مع أن أوو كان متحمساً للفكرة في البداية ، و لكنه قد مل مثل صديقه تماماً ، و سارا معاً ليغادرا المكان ، و حين كانا على وشك الرحيل سمعا المرأة تقول بصوتها الغليظ : " إلى أين ستذهب أيها الشاب ؟ إلى منزلك الذي يقع في الدور الثالث في العمارة الثانية على يسار شارع تيبل الرئيسي ؟ "         صعق كل من الشابين ، و بدا إمجي على وجه الخصوص و كأن أحداً قد سكب فيه دلو ماء بارد ، فقد وصفت له المرأة عنوانه بدقة ، تبادل هو و رفيقه نظرات مليئة بالرعب و الخوف ، اقترب إمجي بعدها من العرافة و تمتم بتعجب : " و لكن كيف ؟ كيف عرفتي أين أعيش ؟ هل كنت تراقبينني قبل الآن ؟ " ردت عليه بثقة و بشيء من الشماتة : " مالك تبدو مذعوراً هكذا ؟ إنني أعرف عنك أكثر من هذا بكثير "  أدارت كرتها الزجاجية اللامعة ، و من ثم أردفت قائلة : " أعرف أنك تنتمي إلى عائلة عريقة و معروفة ، إنها عائلة القلويات الأرضية ، و أنت الابن الثاني لهذه العائلة ، و لديك خمسة إخوة يشبهونك كثيراً ، كل منهم يعيش في دور مخصص له في عمارتكم التي تتألف من ستة طوابق ، ألست محقة ؟ " كانت مقلتا إمجي تتسعان أكثر مع كل كلمة تبوح بها المرأة ، و كانت نبضات قلبه تزداد تسارعاً ، ضحكت منه و هي تتأمل منظره ، ثم قالت بخيلاء : " هل صدقتني الآن ؟ دعني أخبرك بشيء آخر أعرفه عنك ، إن لديك ميولاً فلزية صرفة ، و هذا ما يجعلك دائماً تبحث عن أصدقاء من اللافلزات كي تقضي الوقت معهم ، لأنك ترى أنهم يختلفون عنك و يضيفون إليك خبرات جديدة ، و أنت تغار من النيون غيرة فاحشة و تسعى بكل الطرق لتصبح مثله ، إنه غريمك و مثلك الأعلى في الوقت ذاته ، وليس غريباً عليك أن تغار من الآخرين و تسعى دائماً لوضع أفضل ، فأنت نشط و غيور بطبعك الذي جبلت عليه ، أليس كذلك أيها الماغنسيوم ؟ أو دعني أقل إمجي " أنهت العرافة حديثها الذي سكبته كتيار كهربائي اخترق جسد الفتى المسكين و عقله ، كان واجماً كالتمثال مع ملامح تصف ذعره و خوفه ، و لا يلام الفتى على كل ما أبداه من صدمة و استغراب ، فلم يكن معتاداً على أن يقابله غريب و يحكي له كل شيء عن نفسه و يفضح جميع أسراره ، و لم يكن صديقه أقل رعباً منه ، أخرج إمجي محفظة من جيبه و وضعها على الطاولة ، ثم أطرق رأسه بخجل و قال مخاطباً العرافة : " لا أعلم كيف عرفتي كل ذلك عني ، و لكن الاتفاق هو الاتفاق ، أنا آسف على سخريتي منك ، أيتها العرافة الحقيقية " ، و بعد أن اعتذر إمجي انصرف هو و أوو ليتركا العرافة لوحدها ، وحينما تيقنت من مغادرتهما ، قامت بجمع البطاقات و وضعها في صندوق الأعداد الذرية ، ثم أزاحت كل شيء من على الطاولة ، فيما عدا الأباجورة الخافتة ، انحنت و فتحت بعض الأدراج لتخرج منها كومة أوراق و كتباً ثقيلة ، ثم ارتدت نظارة طبية و انكفأت على قراءة الكتب بتمعن و تركيز ، لم تكن سوزي عرافة في حقيقة الأمر ، بل إنها كانت عالمة .

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

articles

4

followers

2

followings

3

مقالات مشابة