الفرصة والحظ والإشارة

الفرصة والحظ والإشارة

0 المراجعات

شبرا .. المهندسين .. الدقى يا أسطى .. لاظوغلى ..

كلمات تقتحم أذنى بتوسل غاضب يمتزج فيه الرجاء بخيبة الأمل وأنا أنطلق بالتاكسى لا أتوقف لأى نداء .. وكأننى مشغول بمطاردة شئ ما ، أنا لا أقصد تعذيب الناس ولا تجاهلهم ولكننى أود أن أختار المكان الذى أذهب إليه .. شعور بالملل والكسل ينتابنى أحيانا فيجعلنى لا أجد ما يضطرنى لأن ألبى كل إشارة من يد .. أو هتاف من صوت مبحوح.

كانت الساعة توشك أن تدق العاشرة صباحا .. وفى الراديو أغنية رديئة لمغنية لا يختلف صوتها كثيرا عن صوت ( شكمان ) سيارتى .. وفجأة توقفت أمامى سيارتان كاد أن يحدث بينهما تصادم ولم يحدث .. ومع ذلك لابد من وقوع شجار يعطل الطريق بضع دقائق  ولا مانع من أن ينزل كهل أنيق جدا من إحدى السيارتين ليبرهن لصاحبة السيارة الأخرى ويبدو أنها طبيبة أن ألفاظه ليست أنيقة كملابسه ، انطلقت بعيدا عن المشاجرة وأنا أتجنب الإنفعال.

كنت أعلم أن الإشارة التي وقفت فيها قد تمتد ربع ساعة واكتشفت أن السيارة التى على يسارى تماما هى سيارة الطبيبة ، كان واضحا أنها ما زالت منفعلة وتجنبت تماما أن أنظر إليها أو أن أكلمها .. ولم أشغل نفسى هل كانت هى المخطئة أم لا ، ولكننى تذكرت فجأة مشاجرتى هذا الصباح مع علا .. كم سئمت من مقارنتها لى بزوج أختها فهمى الذى خرج من مصر جائعا وعاد بعد سنوات وقد انتفخت جيوبه كما انتفخ وجهه وجسمه من كثرة الأكل ، فوجئت بها تطلب منى مائتين وسبعين جنيها .. كتمت غيظى وسألتها عن السبب السعيد لهذا الطلب المتواضع .. فتنهدت كأنه ليس لى الحق فى هذا السؤال .. ثم قالت بهدوء : قسط الغسالة يا أبو شهد .

فتحت الباب وخرجت بسرعة حتى لا يتعكر دمى .. ولكنه كان قد تعكر ، فأنا لا أعرف سببا للإصرار على شراء هذه الغسالة الكبيرة التى لا نحتاجها ولا نجد لها مكانا نضعها فيه .. السبب الوحيد الأكيد هو أن أختها قد اشترت هذه الغسالة بعد أن عاد فهمى الجائع بالألوف ... والسؤال الذى لا يخرج أبدا من رأس علا هو لماذا تكون هي أقل من أختها ؟ وهذا هو ما يفسر شراء نصف محتويات شقتى إن لم يكن أكثر.

تظاهرت أبواق عدة سيارات ضد الإنتظار ثم بدأنا نتحرك من الإشارة .. كانت هناك رعشة مزعجة تنبض بداخلى .. تذكرت أننى لم أتنازل أبدا عن عادتى التي ورثتها عن أبى وهى أن أتصفح الجريدة في الصباح وأن أقرأ باب ( حظك اليوم ) .. ولم يكن حظى اليوم مبهجا .. فهو يقول : كن حذرا فيما يتعلق بعملك .. ولا داعى للانفعال.

إتسع الطريق أمامى فانطلقت بسيارتى فى سرعة هارب مطارد .. شعور غامض يراودنى أن حادثة ما سوف تقع أو أن اليوم لن ينتهى وجميع فوانيس سيارتى سليمة.

المعـــــادى ...

فرملت فجأة .. أذهلتنى نغمة الكلمة .. دخل فى قلبى مباشرة هذا الصوت الناعم فأحيا صورة مدفونة به منذ سنوات ...فى شك أشبه باليقين نظرت فى نفس اللحظة فى المرآة لأرى صاحبة الصوت ... وعرفتها ... وتأكدت أنها هى .. هى ..

عندما فرملت كنت قد إبتعدت عنها حوالى عشرة أمتار .. كنت أملك الفرصة لأن أتركها وأمضى لو أننى أرفض الذهاب إلى المعادى .. وربما كان على أن أرجع إلى الوراء قليلا لو أننى قررت أن أوافق .. لكننى لم أفعل شيئا ، فقط وقفت فى مكانى .. وانتظرتها .. وجاءت .. وفتحت الباب وركبت ، وأغلقت الباب في عنف يكاد لا يحتمله باب سيارتى الضعيف .

قالت بهدوء : صباح الخير .

صباح النور ... قلتها وأنا أرتجف .. وعيناى تنظر إليها رغما عنى 

شرحت وجهتها في كلمات قليلة .. وهززت رأسى صامتا منطلقا بالسيارة وأنا ما زلت أرتجف .. تحسست ذقنى التى لم أحلقها منذ يومين .. وتساءلت : هل هى لم تعرفنى بعد ؟ هل هذا ممكن ؟ .. هل يمكن أن تؤثر بضع سنوات قاسية فى البشر إلى هذه الدرجة ؟ إلى الحد الذى يجعلها لم تكتشف بعد أن السائق الصامت الذى تجلس خلفه الآن هو نفسه محمود جارها الذى نشأ معها كأنهما من عائلة واحدة  وقضيا معا كل سنوات الطفولة والشباب السعيد لا يفترقان ولا تفصل بينهما سوى حوائط متهالكة لبضع بيوت قليلة ؟

زدت من سرعتى كى أطوى طريقنا الطويل .. إصطدم الهواء البارد بوجهى .. لكنه لم يصل إلى قلبى الدافئ الثائر .. قلبى أصبح كسجين متمرد أدرك فجأة أنه يريد حريته .. وأنه لا يحتمل الصبر على أثقال قيوده. 

فتحت الراديو وأنا أتذكر كم مرة إعترفت لها عيونى بما أريده قبل أن يجرؤ لسانى فيصارحها بحبى ورغبتى فى الارتباط بها .

أخذت أدير مؤشر الراديو وأنا أتذكر كم مرة إعتذرت لى عيونها عما تمنيته بعد أن نطقت شفتاها برفضها لهذا الإرتباط.

ورغما عنى ثرت وقتها .. ولم أجعل الموقف يمر فى سلام فقد كان جرحا فى الصميم .. جرح ظل ينزف أياما وأعواما قبل أن تشاء الظروف وأرحل إلى حى بعيد .. وبيت بعيد .. أخفيت به ألما لا ينطق ولا يئن.

حتى عندما أعود إلى الحى القديم أحيانا .. وأمر على منزلها .. أظل أنظر إليه بعتاب مستتر .. وفى داخلى رغبة خفية أن ألقاها .. ولا ألقاها .. وربما لو لقيتها فسوف ينزف جرحى من جديد .

لم أفكر أن أخفض صوت عبد الوهاب أو أغير المحطة عندما تنبهت إلى أنه يخاطبنى قائلا : أنا والعذاب وهواك .. وكأنه يعرف مشكلتى .. وكأنه يصر على أن يواجهنى بها.

لم أفكر فى أن أسألها إن كان الراديو يضايقها .. لم أكن أريد أن أتكلم .. رغم أننى أتمنى أن أسمع صوتها .. ولكن كلا .. لن أعطيها الفرصة كى تعرفنى ما دام قلبها الغافل لم يتذكرنى منذ اللحظة الأولى .. ربما كان هذا ألطف بى وأرحم .. فمن يدرى لو أنها تذكرتنى ماذا كنت سأفعل ؟ .. ربما كنت سأفشل فى أن أخفى عنها أننى ما زلت أحمل بين ضلوعى جرحا فى الصميم.

ومع ذلك لم أمنع عيناى من أن تختطف نظرة إليها كل بضع دقائق .. أما هى فلم تكن تنظر إلا إلى الطريق أو إلى هاتفها المحمول.

أشعر أن فى عينيها حزن باهت .. فلا أجد فيهما الصفاء القديم .. هل بدأت هموم السنوات تزحف إلى أجمل عيون عرفتها ؟ وجهها لا يزال شابا جميلا .. لكنه أيضا ينبئ أنها لم تعد طفلة .. أذكر أننى قد عرفت أنها قد تزوجت .. ولعلها أيضا تكون قد ...

هنــــــــا مــــن فضلــــــك ..

قالتها فارتعشت كل حواسى كمن كان نائما فأفاق ليجد نفسه تحت سماء ممطرة باردة لا يملك غطاءا يستره ولا دفئا يحميه.

هنـــا مــــن فضلــــك ..

كررتها هي بسرعة .. فأوقفت السيارة على الفور .. مهلا يا سيدتى .. فهناك ألف سؤال يثور في رأسى وألف جملة على لسانى تتمنى الانطلاق .. أحسست أننى أريد أن أصرخ فيها : أما زلت لا تعرفيننى ؟ .. انظرى من فضلك إلى وجهى جيدا .. هل تغير وجهى .. أم هل تغيرت عيناك ؟ هل فقدت الذاكرة ؟ .. أرجوك .. لا ترحلى قبل أن تتذكرينى .. هل فقدت الإحساس تماما ؟ ... ألا ترتسم على وجهك مجرد ابتسامة ... ابتســـامة ؟ .. حاولى أن تشعرى بقلبى المشتاق إليك .. قلبى الذى لا أعرف كيف أمنعه من أن يقفز من صدرى .. ويتمنى أن تضعينه فى حقيبتك التى تفتحينها الآن .

أخرجت يدها من حقيبتها .. ومدتها لى بالنقود فى هدوء .. أخذتها فى ذهول وقلت شيئا .. كنت أريد أن أقول شكرا .. لكننى لا أدرى ماذا قلت على وجه التحديد .. ربما قلت مع السلامة أو بعض حروف مبعثرة .. لكننى إنطلقت ولم أنظر إليها .

سارت هي مبتعدة متعجلة .. تأملتها من المرآة كأنها شبح من الفضاء وأحسست بالاختناق بضع لحظات لكننى بعد ذلك شعرت براحة غريبة .. وكأننى قد عدت حرا من جديد .. وحشة باردة راودتنى لكننى تجاهلتها .. جففت عرقا لم أكتشفه قبل نزولها .. كان الراديو ما زال يهذى .. أغلقته بسرعة فلم تكن أذناى تسمع شيئا فى هذه اللحظة.

فى المساء .. بعد أن أعطيت علا المبلغ الذى طلبته .. ولعبت قليلا مع طفلتى .. فوجئت وأنا أشرب الشاى بعد العشاء وأتصفح الجريدة .. أننى لم أقرأ اليوم حظى الصحيح .. بل قرأت فى الصباح السطر الذى يليه .. أما حظى اليوم فكان يقول : 

فرصة عظيمة قد تضيعها .. ولكن لا داع للندم !   

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

4

متابعين

6

متابعهم

1

مقالات مشابة