الفريق نيكولاي راديسكو: العسكري الروماني الذي واجه الشيوعية

الفريق نيكولاي راديسكو: العسكري الروماني الذي واجه الشيوعية

0 المراجعات

 

في تاريخ الشعوب التي خاضت صراعات سياسية عاصفة في القرن العشرين، يبرز اسم الفريق نيكولاي راديسكو كرمزٍ لرجل دولة وجندي حمل على عاتقه مسؤولية الدفاع عن بلاده وسط التحولات المصيرية التي عاشتها رومانيا. من ساحات المعارك إلى رئاسة الحكومة، ومن سجون النظام إلى المنفى، جسّد راديسكو نموذجًا نادرًا للمسؤول الذي تمسك بمبادئه في وجه الصعود الكاسح للشيوعية، ودفع ثمن ذلك نفيًا وتهميشًا.
في هذا المقال الطويل، نلقي الضوء على محطات حياته السياسية والعسكرية، ونستعرض دوره في لحظة مفصلية من تاريخ أوروبا الشرقية.


النشأة والتكوين العسكري

وُلد نيكولاي راديسكو في 30 مارس 1874 في بلدة كاليمانيشت الواقعة في جنوب رومانيا، لعائلة متوسطة الحال. اختار منذ شبابه طريق العسكرية، حيث التحق بالمدرسة الحربية الملكية في بوخارست، وتخرج منها ليبدأ مسيرته الطويلة في الجيش الروماني. تدرّج في الرتب بسرعة بسبب انضباطه وكفاءته، وشارك في حرب البلقان الثانية (1913)، ثم في الحرب العالمية الأولى (1916-1918) ضمن صفوف القوات الرومانية التي واجهت الجيوش النمساوية والمجرية.

وقد أظهر راديسكو في تلك الحروب صفات القائد الحكيم الذي لا يتهور في الميدان، بل يقود جنوده بحزم واستراتيجية واضحة. وهذا ما أهّله لاحقًا لنيل رتبة فريق في الجيش الروماني، وهي من أعلى الرتب العسكرية.


بين الجيش والسياسة: رجل الدولة الوطني

بعد الحرب، ومع بداية العشرينيات، وجد راديسكو نفسه منجذبًا إلى الحياة السياسية، مدفوعًا برؤية قومية محافظة، وقلقٍ متزايد من تصاعد الحركات المتطرفة سواء من اليمين الفاشي أو اليسار الشيوعي. في الثلاثينيات، أسس حزبًا صغيرًا يُدعى "الصليبية الرومانية"، تميز بخطاب قومي معتدل نوعًا ما مقارنة بالحرس الحديدي، لكنه سرعان ما تعرّض للضغط والتهديد من قبل القوى الفاشية المتحالفة مع النظام الملكي.

وفي ظل تصاعد التوترات في أوروبا، اتخذ راديسكو موقفًا معارضًا للنظام السلطوي الذي يقوده الجنرال يون أنطونيسكو المتحالف مع النازيين، وهو ما أدخله في صراع مباشر مع السلطة، وأدى إلى اعتقاله وزجه في معسكر ترغو جيو، حيث قضى سنوات من حياته رهن الاحتجاز دون محاكمة.


رئاسة الحكومة بعد سقوط أنطونيسكو

جاء التحول الحاسم في أغسطس 1944، حين تحالف الملك ميخاي الأول مع القوى الديمقراطية وأطاح بأنطونيسكو، وأعلن انضمام رومانيا إلى الحلفاء. في خضم هذا التغيير، أُطلق سراح راديسكو من المعتقل، وعُيّن لفترة قصيرة رئيسًا لأركان الجيش، ثم اختاره الملك رئيسًا للوزراء في 7 ديسمبر 1944.

رئاسة راديسكو للحكومة جاءت في وقت شديد الحساسية؛ فقد كانت رومانيا تحت الاحتلال السوفيتي، وجيش الاتحاد السوفيتي يفرض وقائع سياسية وعسكرية على الأرض، بينما كانت الأحزاب الشيوعية المدعومة من موسكو تسعى للسيطرة على الحكم.

في تلك الأثناء، حاول راديسكو جاهدًا الحفاظ على توازن دقيق بين السيادة الوطنية والانفتاح على الحلفاء، وبين مقاومة الضغط السوفيتي والحفاظ على النظام الملكي. وقد خاض معارك سياسية ضد الأحزاب الشيوعية التي اتهمته علنًا بالخيانة والتواطؤ مع الغرب.


المواجهة مع الشيوعيين والاستقالة القسرية

بلغت المواجهة ذروتها في فبراير 1945، عندما نظّمت الأحزاب الشيوعية مظاهرة ضخمة في بوخارست وصلت إلى محيط القصر الملكي، ووقعت خلالها أعمال عنف وسقوط قتلى. استخدمت الحادثة كذريعة للضغط على راديسكو، ووجّهت له تهم مباشرة بارتكاب "مجزرة"، رغم غياب الدليل. وتحت ضغط مباشر من السوفييت، وبموافقة البريطانيين والأمريكيين الذين سعوا لتجنب التصعيد، أُجبر راديسكو على الاستقالة في 1 مارس 1945، بعد أقل من ثلاثة أشهر على توليه المنصب.

وبسقوط حكومة راديسكو، صعد الشيوعيون بقيادة بيترو جروزا إلى الحكم، معلنين بداية النهاية للنظام الملكي، وبدء الحقبة الشيوعية التي ستستمر حتى عام 1989.


المنفى والنشاط السياسي في الخارج

بعد تنحيه، لجأ راديسكو إلى السفارة البريطانية ثم خرج سرًا من رومانيا ليستقر في نهاية المطاف في الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك شارك في تأسيس اللجنة الوطنية الرومانية، وهي منظمة معارضة سعت للتعريف بالقضية الرومانية ومناوأة النظام الشيوعي في بوخارست.

رغم ضعف التأثير الفعلي للمعارضة الرومانية في الخارج، فقد بقي راديسكو صوتًا أخلاقيًا يعبر عن الضمير الوطني الروماني. كتب مقالات وألقى خطبًا ضد الاستبداد الشيوعي، محاولًا إيصال معاناة شعبه إلى الرأي العام الغربي، وإن لم تنل تلك الجهود الاهتمام الكافي حينها.


الموت في المنفى والعودة الرمزية إلى الوطن

توفي الفريق نيكولاي راديسكو في نيويورك بتاريخ 16 مايو 1953، وحيدًا وبعيدًا عن وطنه. دُفن هناك أولًا، لكن بعد سقوط الشيوعية في رومانيا، أعيدت رفاته في نوفمبر 2000 ودفن في مقبرة بيللو الأرثوذكسية في بوخارست، بحضور رمزي من الدولة الرومانية، في لفتة متأخرة لتكريمه بعد عقود من النسيان.


خاتمة: الرجل الذي قاوم فخ الانحياز

لم يكن نيكولاي راديسكو رجلًا مثاليًا أو بلا أخطاء، لكنه كان من القلة النادرة التي حاولت الحفاظ على الكرامة الوطنية والاستقلال في لحظة كان فيها الجميع يخضع للنفوذ الخارجي. وقف بوجه الفاشية في الثلاثينيات، وواجه الشيوعية في الأربعينيات، وحاول أن يبني لرومانيا طريقًا ثالثًا ديمقراطيًا، لكنه خسر معركته في وجه التيارات الجارفة.

راديسكو لم ينتصر، لكنه لم يساوم.
وهذا وحده كافٍ لأن يُسجل اسمه في سجل الشرف الوطني.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

14

متابعهم

3

متابعهم

26

مقالات مشابة