
✨ "الظل الذي أحبني"✨
بين الحب والظل
الليل في الحارة القديمة كان له طابع مختلف. الشوارع ضيقة، والأبنية متلاصقة كأنها بتحمي بعضها من الزمن. لكن في نص الحارة كان فيه طريق واحد مهجور، طريق بيعدي جنب المقابر. محدش في المنطقة كان بيحب يمشي فيه بعد المغرب. كبار السنّ كانوا يحكوا قصص عن أصوات غريبة وأشباح تظهر هناك، والجيل الجديد كان يضحك ويقول: "خرافات". ومع كده، مفيش حد كان عنده الجرأة إنه يختبر بنفسه.
ليلى، بنت في بداية العشرينات، كانت معروفة بفضولها وشجاعتها الغريبة. بتحب الحكايات المرعبة، تسمعها وتتخيّلها كأنها عايشة جوّا فيلم. في يوم، اضطرت ترجع من عند صاحبتها متأخر، ولما وقفت قدام مفترق الطرق، شافت الطريق القديم. وقفت لحظة، قلبها بيتردد. كان عندها اختيار: تمشي في الطريق الطويل المضيّء، أو تختصر من الطريق المهجور. ووسط هدوء الليل، قررت تخوض المغامرة.
الهواء كان بارد، والغيوم مغطية نص القمر. الشجر على الجنبين بيتمايل وكأن الريح بتهمس أسرار ما حدش قادر يفهمها. كل خطوة كانت بتعمل صدى خفيف، يزيد شعورها بالوحدة. حاولت تمشي بسرعة، لكن فجأة سمعت وقع خطوات وراها.
اتجمدت في مكانها. قلبها بدأ يدق بسرعة. استجمعت شجاعتها، لفت بسرعة… لقت شاب واقف تحت عمود نور قديم. ملامحه كانت غامضة، بس في عينيه لمعة غريبة، لمعة مش مألوفة. ابتسم وقال بصوت هادي:
– "ما تخافيش… أنا كمان محتاج حد يشاركني الطريق."
في اللحظة دي، المفروض تحس بخوف أكتر، لكن العجيب إنها حسّت براحة. كأن صوته عنده قدرة يهدّي قلبها. مشي جنبها، وكلامه كان بسيط لكن فيه دفء. حكالها عن الوحدة، عن إحساس إنك تكون قريب من الناس بس في نفس الوقت بعيد جدًا. كل كلمة كان بيقولها بتحرك حاجة جواها.
لكن اللي أربكها، إنه يعرف عنها تفاصيل ما قالتهاش. عرف إنها بتحب الكتب، وعرف إنها بتخاف من العزلة، حتى ذكر لها موقف من طفولتها. ارتبكت وقالت:
– "إزاي عرفت؟!"
ابتسم ابتسامة غامضة وقال:
– "يمكن أنا عارف أكتر مما تتخيلي."
لما وصلوا لنهاية الطريق، رفعت عينيها تدور عليه… ملقتهوش. اختفى. مشي قدامها بخطوات، لكنها ملحقتوش. كأن الهوى شاله.
رجعت بيتها، والارتباك ما فارقهاش. طول الليل فضلت تتقلب في سريرها، مش قادرة تنسى ملامحه ولا صوته. ولما صحيت الصبح، لقت على شباكها وردة حمرا. لونها كان أعمق من أي وردة شافتها قبل كده، والريحة كانت قوية جدًا كأنها لسه مقطوفة.
افتكرت إنها يمكن تكون صدفة. لكن الليلة اللي بعدها… نفس الوردة. وبعدها… نفس الشيء. كل يوم، في نفس الوقت، تلاقي وردة حمرا على شباكها.
بدأت تحس إن فيه رابط غريب بينها وبين الشاب ده. مش عارفة اسمه، ولا منين، ولا إزاي بيظهر ويختفي. لكن قلبها كان بيشدها للطريق القديم كل ليلة.
وفي مرة، جمعت شجاعتها وسألت جارها العجوز "عم زكريا"، اللي معروف بحكاياته عن المنطقة. حكتله كل اللي حصل. سمعها بهدوء، وبعدين ابتسم ابتسامة باهتة وقال:
– "الطريق ده يا بنتي مليان أرواح. في ناس بيمشوا منه، بس مش بيرجعوا. واللي بيرجع… بيرجع حامل سرّ. يمكن إنتِ قابلتي روح من اللي لسه قلوبهم متعلقة بالدنيا. ساعات الروح بتستنى حد يحس بيها… عشان ترتاح."
الكلام ده زوّد فضولها أكتر. مين هو؟ ليه اختارها هي بالذات؟ وإيه قصة الورود اللي بتظهر؟
ليلى بقت تعدي من الطريق كل ليلة. أوقات تشوفه واقف بعيد، مستنيها بابتسامة نصها حزن ونصها حنان. وأوقات تسمع صوته بين الشجر، يناديها باسمها بهمس، رغم إنها عمرها ما قالتله اسمها.
وفي يوم، قررت تواجهه. لما شافته، وقفت قدامه وقالت:
– "إنت مين؟ وليه بتظهرلي؟"
اتغيرت ملامحه للحظة، وبص لها بعينين فيها وجع عميق. قال:
– "كنت إنسان زيك. كنت بحب… وحبي ضاع مني قبل ما ألحق أعيشه. موتي كان فجأة، لكن قلبي لسه مربوط بالدنيا. يمكن عشان كده لقيتِني. إنتِ الوحيدة اللي قدرتِ تسمعيني."
عيونها دمعت. لأول مرة، حسّت إنها مش بتخاف منه. بالعكس، حسّت إنها عايزة تسمع حكايته، عايزة تفهمه. ومن الليلة دي، بقت تروح مخصوص عشان تحكيله عن حياتها، عن أحلامها الصغيرة، عن خوفها، عن أمانيها. وهو كان يسمعها باهتمام، كأنه عايش معاها كل التفاصيل.
الغريب إن ليلى بدأت تحس بحاجات جديدة. قلبها بيتعلق بيه، رغم إنه مش إنسان حي. كانت تعرف إن ده مستحيل، لكن في كل مرة يشوفها فيها، تلاقي نفسها بتتمنى اللحظة ما تخلصش.
الأيام عدّت، وحياتها بدأت تتغير. بقت بتحس بالوحدة أكتر لما يكون بعيد. بقت الوردة الحمرا رمز لحاجات أكبر من مجرد لقاء. كانت بتحس إنها دليل إن فيه رابط حقيقي بينهم.
لكن في يوم… الوردة ما ظهرتش. قلبها انقبض. نزلت الطريق القديم بسرعة، دورت عليه في كل ركن، ما لقتوش. قعدت تصرخ باسمه، رغم إنها ما تعرفهوش. وفضلت تبكي وسط الظلمة.
وفجأة، سمعت صوته وراها:
– "ما تبكيش… وجودك معايا كفاني."
لفت بسرعة، شافته واقف مبتسم. بس المرة دي كان مختلف. ضوء غريب محاوطه، كأنه بيستعد يختفي للأبد.
جريت عليه، قالت:
– "لا! متسيبنيش… لسه ما حكيتليش كل حاجة."
ابتسم وقال:
– "الحب اللي بيننا مش لازم يكون زَيّ باقي الناس. أنا لقيت راحتي… عشان إنتِ حسّيتي بيا. ده كل اللي كنت مستنيه."
وببطء، بدأ يختفي. مد إيده كأنه بيودعها، والهواء برد أكتر حوالين ليلى. حاولت تمسك إيده… لكن فضلت ماسكة الفراغ.
فضلت واقفة في نص الطريق، والدموع على خدها، وإيدها ماسكة آخر وردة حمرا لقيتها على الأرض.
ومن الليلة دي، ما شافتوش تاني. لكن كل ما تعدي من الطريق القديم، تشم ريحة الورود، وتفتكر نظرته وابتسامته. عرفت إن الحب ساعات مش محتاج وجود جسدي، كفاية إن الروح تلاقي روح تانية تفهمها.
ليلى فضلت تحكي قصتها بصوت منخفض لكل اللي يجرؤ يسمع. قصة بين الحب والظل… قصة خلتها تصدّق إن فيه مشاعر بتتجاوز الموت نفسه.