ظلّ فوق المدينة

ظلّ فوق المدينة

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

رواية: ظلّ فوق المدينة 

كان “آدم” يسير في الشارع الضيّق الذي يفصل بين ناطحتين من الزجاج والحديد. السماء كانت رمادية، والهواء مثقلاً برائحة المطر الذي لم ينزل بعد. في جيبه رسالة صغيرة، كُتبت بخطّ أنيق: “عد إلى البيت قبل الغروب، فهناك ما يجب أن تعرفه.” لم يكن يعرف من أرسلها، لكن قلبه أخبره أنّ الأمر لا يمكن تجاهله.

منذ عام، اختفت أخته “ليلى” بلا أثر. الشرطة قالت إنّها سافرت طوعًا، والجيران قالوا إنّها هربت مع رجل غريب، لكن آدم لم يصدق أياً من ذلك. كانت ليلى تحب مدينتها وتخاف من البحر، فكيف تغادر فجأة دون أن تترك حتى دفترها المفضل؟

وصل إلى الحي القديم عند طرف المدينة، حيث المنازل الحجرية القديمة التي تقاوم الزمن. هناك، أمام بيت طفولته، رأى الضوء يخرج من نافذة الطابق الثاني. تجمّد مكانه. لم يكن أحد يسكن هناك منذ وفاة والديه. رفع رأسه ببطء، فرأى ظلًا يتحرك خلف الستارة.

صعد الدرج بصمت، وفتح الباب بمفتاح قديم ما زال يحتفظ به. في الداخل، كل شيء كما تركه: الأثاث المغبرّ، الصور القديمة على الجدران، رائحة الخشب الرطب. الخطوات الخفيفة فوقه جعلت قلبه ينبض بسرعة.

صعد نحو الطابق العلوي، حيث كانت غرفة ليلى. الباب كان مفتوحًا قليلاً. دفعه برفق، فصرّت المفاصل الصدئة، وانفتح الباب على مشهد لم يكن يتوقعه: فتاة تجلس إلى الطاولة، تكتب في دفترٍ مغطّى بالغبار. رفعت رأسها نحوه. كانت هي… ليلى، أو على الأقل، وجهها نفسه.

“ليلى؟” قالها بصوت مرتجف.
ابتسمت بهدوء وقالت: “أنت تأخرت، آدم. كان يجب أن تعود قبل الغروب.”

اقترب منها بخطوات مترددة، لكن شيئًا في عينيها لم يكن طبيعيًا. كانتا تلمعان ببرودة لا تشبه الحياة. أراد أن يعانقها، لكن عندما مدّ يده، مرّت عبر جسدها كأنها ضباب. تراجع مذهولًا.

قالت وهي تنظر إلى النافذة: “البيت تذكّرني… لا أستطيع الرحيل حتى يعود كل شيء كما كان.”
سألها: “ماذا تقصدين؟ هل أنتِ… ميتة؟”
أجابت بصوت خافت: “لست ميتة تمامًا… لكني لست حية أيضًا. هناك من أخذ مكاني.”

قبل أن يسألها أكثر، سمع باب المنزل يُفتح في الأسفل. وقع خطوات رجل يرتفع في السلم. نظرت ليلى نحوه وقالت بسرعة: “اختبئ، لا تدعه يراك. هو السبب.”

اختبأ خلف الباب، بينما دخل رجل غريب يرتدي معطفًا أسود ويحمل في يده شيئًا يشبه المفكرة القديمة. نظر حوله، ثم قال بصوت هادئ: “الطيف عاد، أليس كذلك؟ كنت أعلم أنها ستجذبك يا آدم.”

خرج آدم من مخبئه غاضبًا: “من أنت؟ ماذا فعلت بأختي؟”
ابتسم الرجل وقال: “لقد حاولت إنقاذها. لكنها اختارت البقاء بين العوالم.” ثم فتح المفكرة، وأضاء منها ضوء أبيض ساطع غمر الغرفة كلها.

حين استعاد آدم وعيه، كان واقفًا وحده في الغرفة. لا ظلّ لليلى، ولا أثر للرجل. على الطاولة، بقيت ورقة واحدة فقط، كُتب فيها بخطّها:
“أعيش في الذكرى، لا تنساني.”

خرج إلى الشارع والمطر بدأ يهطل بغزارة. رفع رأسه نحو السماء، فشاهد لحظة البرق وجهها ينعكس على الزجاج البعيد، تبتسم كما كانت تفعل في طفولته. أدرك حينها أن بعض الظلال لا تزول، بل تبقى تحرس من نحبّهم من بعيد.

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

0

متابعهم

0

متابعهم

1

مقالات مشابة
-