غروب على أطراف القلب
"غروب على أطراف القلب"
في مدينة على البحر، في حتّة هاديّة كده ريحتها ملح وهوا، كانت عايشة بنت اسمها ليان. بنت هادية زيادة عن اللزوم، تمشي في الشارع كأنها عايزة تبقى شفافة، محدش يشوفها. بتحب الرسم، وتحس براحة غريبة لما تمسك القلم وتسرح. عينها لونها غامق، بس لو ركزت فيها شوية تلاقي جوّاها ليل كامل.
ليان كانت من النوع اللي كل الناس تعدّي قدامها بسهولة، بس قليل اللي يوقف. كانت بتحس إنها غريبة… مش شبه المكان اللي هي فيه، ولا الناس اللي حواليها. عمرها ما كانت اجتماعية، ولا بتحب التجمعات. البحر والورق أقرب ليها من البشر.

وفي يوم، وهي راجعة من درس، شايلة سكّتش الرسم ومشغّلة المزيكا على وِدنها، سمعت خبطة جامدة وراها. لما لفت، لقت ولد واقع جنب موتوسيكل صغير، شكله مصدوم أكتر ما هو مجروح. صوته خرج وهو بيحاول يمسك نفسه:
— "عندِك مناديل؟"
الولد اسمه عادل. ملامحه فيها هدوء غريب، وشعره بايظ كأنه اتخانق مع الهوا واتهزم. لما اتكلم، كان صوته مخضوض بس خفيف، وده خلاها تضحك من غير ما تحس. ادّته مناديل، وهو بيلف إيده لقى الجرح بسيط. شكله كان بيحاول يبين إنه تمام، بس هو بصراحة كان متلخبط.
ومن اللحظة دي… حاجة صغيرة حصلت، زي شرارة، خفيفة، بس واضحة.
عدّت أيام، وليان بقت تشوفه كتير من غير ما يقصد. في المكتبة، على البحر، حتى قدّام الكافيه اللي بتحبه. كل مرة كان يضحك الضحكة اللي نصها هزار ونصها خجل. وكل مرة كانت هي تحس بحاجة غريبة تتحرك جواها، حاجة مش فاهمة هي إيه.
وفي ليلة، وهي قاعدة على السور اللي بيطلّ على البحر، الهوا لافف شعرها، والموج عامل صوت يدوّخ، سمعت حد بيقول:
— "متخفيش… أنا عادل."
اتخضّت، بس لما شافته، قلبها هدي. قعد جنبها، وقال كلمه بسيطة بس غريبة:
— "انتي شبه الغروب… ساكته، بس وراك ألف حاجة بتحصل."
الكلمة وقعت منها مش بس في ودنها… وقعت في قلبها.
والمصادفات بدأت تبقى عادة. كل ما تشوفه، تلاقيه بيلطّف الجو بكلمة، ويقول كلمتين يبانوا هزار، بس فيهم معنى عميق، كأنه حافظ لغة هي بس اللي بتفهمها.
لكن ليان كان عندها حاجة مستخبية… حاجة مخوّفاها.
كانت بتتعب فجأة… دوخة، خفقان، ضعف. مش مرض خطير، بس بيقلّب يومها. ومش بتحب حد يشوفها كده. بتحب تبان قوية، حتى لو جواها فيه عاصفة.
وفي يوم، العاصفة حصلت.
كانت واقفة في طابور زحمة، والدنيا لفت حواليها. قبل ما تقع، لقت إيد بتسندها من كتفها.
— "ليان!"
كان عادل. شافها وهي بتدوخ، خرج بيها من الزحمة، قعدها على كرسى، ومدلها شيكولاته وقال:
— "كُلّي. السكر بيفوّق. ومش هسألك غير لما تحبي تحكي."
الكلمة دي كسرت حته كانت مقفولة فيها من زمان.
وبقى وجوده بيطمنها. ساعات يقعدوا ساكتين، البحر بيتكلم مكانهم. ساعات يرسم معاها، وهو أصلاً بيعرفش يرسم، بس بيحاول. وساعات يحكيلها عن حاجات بسيطة، زي ولاد الشارع اللي بيلعبوا قدام بيته، وصوت البحر وهو صاحي بدري.
وفي يوم، عادل جابلها علبة خشب صغيرة محفور عليها رسمة تشبهها. لما فتحتها، لقت سلسلة فيها شكل غروب. قالها بابتسامة بايخة بس صادقة:
— "أول ما شوفتك… فكرت في اللحظة اللي النهار بيحضن فيها الليل."
وقلبها ما استحملش الجملة دي بسهولة.
لكن المشاعر مش بتيجي من غير خوف. وليان كانت دايمًا ماسكة نفسها، خايفة تتعلق. خايفة حد يشوف كل اللي جوّاها… الكسر والهدوء والخوف.
وفي ليلة، البحر عالي قوي، والموج صوته مخوّف شويّة. كانت واقفة تبصّله، وسمعت صوته وراها:
— "انتي بتحاولي تهربي مني؟"
لفّت، وبصتله من غير ما ترد.
— "قوليله يا ليان… إنتي خايفة من إيه؟"
سكتت لحظة طويلة، وبعدين قالت:
— "أنا بخاف أبقى نقطة ضعف حد… وبخاف أكتر أضعف قدّام حد."
قرب منها شويّة، ووقف عند المسافة اللي تريحها، وقال بهدوء:
— "الناس اللي شبهك… نور، بس خايفين حد يطفيهم."
الكلمة دي دخلت جوّاها زي نسمة دافية بعد برد طويل.
عدّت الأيام… لحد ما جه اليوم اللي هي ما حسبتش له حساب.
عادل اختفى.
ولا مسجات، ولا مكالمات، ولا ظهور. يوم كامل… اتنين… تلاتة. قلبها اتقبض. لأول مرة تحس إنها متعلقة بحد ممكن يوجعها.
لحد ما آخر الليل جالها مسج منه:
“هستناكي بكرة عند البحر… نفس المكان.”
تاني يوم راحت. لقت عادل واقف، شكله متوتر. قالتله:
— "انت كويس؟"
مسك نفسه وقال:
— "عايز أقولك حاجة… بس كنت مستني الوقت المناسب. أنا هسافر ٣ شهور تدريب بره. فرصة مش بتيجي كتير. ومكنتش عارف أقولك إزاي."
قلبها وقع. بس مظهرتش. هو قرب بخطوة وقال:
— "مش جاي أودّعك. أنا جاي آخد وعد… إنك متبعديش. ولما أرجع… نكمل بجد."
اتلخبطت، اتوترت… بس أول مرة تحس إن الهروب مش حل.
بصوت صغير قالت:
— "هستناك."
ومشيت من عنده وهي أول مرة تحس إنها بتخاف… بس مش خايفة منه. خايفة تخسر حاجة حلوة.
عدّت الشهور تقيلة… بس غيرتها. بدأت ترسم أكتر، تفوق أكتر، وتتعلم تبقى ثابتة من غير ما تستنى حد يشيلها. بس كانت مستنياه.
ولما رجع… رجع لنفس المكان. لقت صوته وراها:
— "وحشتيني يا غروب."
لفّت وشافته. مشيت ناحيته بخوف وفرحة في نفس الوقت. هو ضحك وقال:
— "اتغيرتي."
ردت:
— "اتعلمت."
بصلها بعمق وقال:
— "تعالي… نبتدي من جديد. مش كأصحاب. كإتنين كانوا خايفين… وبطّلوا."
ابتسمت… ابتسامة بسيطة بس دافية.
ومشيت جنبه… والبحر كان ساكت، بس واضح إنه فاهم كل حاجة.
حبّهم كان هادي… مش صريخ ولا دراما. زي البحر ساعة الفجر… مفيهوش غير نور خفيف، بس طري ومريح. حبّ حقيقي… بيكبر ببطء، بس ما بيكسرش.
وبكده… كانت بداية مش نهاية. لأن القصص الحقيقية مش بتنتهي… هي بتاخد نفس طويل وتكمل.