آلام وأحزان فتاة يتيمة (قصة قصيرة)

آلام وأحزان فتاة يتيمة (قصة قصيرة)

0 المراجعات

   اليتيمة

جَلَسَت فوق سرير عند نافذة محطمة إلا جزءا يسيرا منها ، أمامها طاولة من الخشب المستورد القديم ، فوقها شمعة على وشك الانتهاء والأفول ، ترسل ضوءا خافتا في أنحاء الغرفة المظلمة ، طورا تنظر إلى هذه الشمعة المنتهية ، وتنظر طورا آخر إلى صورة أبويها البعيدين .

  كل ما في هذه الغرفة يوحي بالرثاء والألم حقا .  تقول في نفسها :

 ما أشبه حالي بحالك أيتها الشمعة؛ أليس هذا اللهيب الذي يَعْلُوكِ حرقةً، فيأخذُ منك جزءاً جزءاً، هو نفسُه لوعةُ الفراق التي تَشُبُّ في قلبي، فتأكلُ منه شيئا فشيئا.. إلى أن ينتهيَ إلى العدم ...

وهذه الهوامّ التي تدور حولك فتتساقط هضيمةَ الجناح ، أليست هي أنفاسي المترددة، تدخل بردا وسلاما، فتخرج زفرات وأَنيناً... وهذا الظلام المتربص بالغرفة، منتظرا زوالك حتى يغشى، أليس هو ..... 

ثم تتأمل صورة والديها، فتمر في ذهنها صور من الزمن الجميل، يوم كانت تتدلل فتحضنها أمها، وتطلب، فيُجاب إلى طلبها، وتبكي، فَـيُهرع إلى ترضيتها، وتنصت فتسمع أحاديث الحياة صادحةً من الغرفة عالياً .... 

إيهِ لله درك يا فتاة ... تناجي نفسها ثم تستلقي على سريرها مستغرقةً في البكاء الصامت المؤلم ...

وفي صباح اليوم التالي، لبست حذاءها أو ما تبقى منه ، وألقت عليها معطفا رثا بعد أن أكلت كسرة خبز في عجالة، وحملت محفظتها ، وخرجت إلى المدرسة مسرعة ... 

 كان البرد شديدا، والسماء ترسل دفعات من المطر، وفي الأفق سحاب أسود يتراءى من بعيد كأنه يحدث عما يكتنف قلبها الكسير .

  رأت في طريقها الأعلام معلقة، بعضها ممزق ، وبعضها سليم، والسيارت تجوب الأزقة جيئة وذهابا ، تنبعث منها موسيقى صاخبة كأنها النهيق، والناس مسرعون كأشباح فرَّق شملَها ترتيلُ آية ، تظهر عليهم أمارات الجد والاهتمام ...

  كانت تحضر كل الحصص التي تلقى في المدرسة جسدا لا روحا ؛ بينما يهم المعلم في شرح الدرس تستغرق هي في الشرود إلى عالم غير عالمها، حيث دفء الحياة، وحيث حنان الأم وعطف الأب .. ولا يوقظها من حلمها الجميل إلا المعلم الثقيل بأسئلته التي لا تنتهي ..

  لكن اليوم مختلف عن باقي الأيام، فالسماء تمطر بلا توقف كأنها تبكي لها، والأعلام المعلقة في الطرقات، والتلاميذ ومن معهم من الناس لا يملون من الحديث عن كرة القدم، هي شغلهم الشاغل، فاليوم يوم المباراة ..... والشيء الوحيد الذي لم يخالف العادة هو وجوه المعلمين التي ازدادت وجوما، كأنها قدت من الجلد المدبوغ ... 

  دق جرس الخروج، وازداد معه انهمار الأمطار؛ اصطفت الآباء والأمهات في الخارج لانتظار أبنائهم، ثم تفرق الجميع لانهمار المطر الغزير ...

  لم تبقَ في الشارع المهجور إلا الفتاة ، تصارع سيولَ المطر المتدفق وطريقاً طويلا إلى بيتها ... لقد قطعت السيول الجارفة معظم الطرق ، فماذا تفعل الآن ؟ أتعود أدراجها إلى المدرسة ؟ أم تبقى جاثمة في مكمنها ... ؟  نظرت حولها ، وفكرت .. فلم يهدها تفكيرها إلى حل ، ولم تجد أمامها سوى المجازفة ... أن تعبر السيل ...

 حركت قدميها المرتجفتين باتجاه السيل، وتأكدت من قوته بعد أن تحسسته ... لكن لا بد من المجازفة ...

 تقدمت خطوة أخرى، لم تقدر خطر الإقدام ... فإذا بالتيار يجرفها .. صرخت مستغيثة، تطلب النجدة ، ولاَتَ حينَ مطلب ... لقد رمى بها السيل حيث الوحل والطمي .. تشبثت بأغصان مكسورة ، وحاولت الزحف إلى شجرة السرو مستعينة ببعض غثاء السيل ... أجهدها الزحف، وأخذ من طاقة جسمها الصغير الهزيل، ونال منها البرد، وزاد من مصيبتها ... 

  وصلت أخيرا إلى تلك الشجرة بشق الأنفس ، وتمسكت بفروعها محاولة الصعود إلى أعلاها اتقاء للبرد ، وطلبا للنجدة... ثم شرد ذهنها إلى ماضيها السعيد.. حيث الحياة ، حيث كانت تطلب فتجاب ، وتتدلل فتحتض ... هنالك ارتسمت على شفتيها المتجمدتين ابتسامة ، ولم يوقظها إلا أهازيج الشيب والشباب تهز الأرض بفرح تأهل المنتخب الوطني... ثم سرعان ما عادت إلى غفوتها، تحلم بمضجعها في الغرفة، بينما تعدم الشمعة ويتلاشى ضوؤها في الظلام البهيم .

 طلعت شمس اليوم التالي كاشفة عن جثة هزيلة هامدة متشبثة بشجرة السرو ، ترتسم على شفتيها ابتسامة عريضة ...

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

articles

1

followers

1

followings

1

مقالات مشابة