سنة أولى صيام

سنة أولى صيام

0 المراجعات

بضعة أيام ويحلّ شهر رمضان. أهالي القرى والأحياء الشعبية أكثر احتفاءا بالشهر الكريم.الصغار على الأخص: فيصوموا عن اللعب والمرح، وينشغلوا بتعليق الزينات ترحيبا بالضيف العزيز. إنهم يبتكرون الزينات كل عام عن سابقه، ولعلهم يطبّقون المثل القائل: "الحاجة أم الإختراع"؛ ولا يشترونها بالطبع؛ فجيوبهم خاوية دوما، أو بالأحرى جيوب أهليهم. وهم لا يبكون فقرهم، فلا يعرفون غيره !، ومع ذلك، يغمر الرضا محياهم، ولا تخطئ الفرحة السبيل إلى قلوبهم. 

   اليوم: التاسع والعشرين من شعبان . تُرى الغد غرة رمضان، أم المكمّل لشهر شعبان ؟. أمرٌ من السماء: أن يُرى الهلال ليبدأ شهر الصوم. الجميع فى انتظار. 

 كان الصغير "زيْد" مندمجا في رسم "فانوس رمضان"، لعله كان يعبّر عمّا يداعب أحلامه !. دخلت عليه أخته متهللة الوجه، هاتفة: 

ـ زيد. زيد. غدا: غرة رمضان.. 

ويردد “زيد” مستفسرا: 

ـ غرة ؟!  

ـ يعني أول رمضان.

ـ صحيح ! و.. وكيف عرفت يا "منال" ؟!.

ـ ثبت رؤية الهلال كما أعلن المفتي. 

ـ الـ.. يا له من خبر سار !. 

 شرد قليلا؛ ثم همس:

ـ الليلة تتحقق أمنيتي.

 وتسأله "منال":

ـ أ تصوم حتى الظهر كالعام الماضي ؟. 

ـ بل سأواصل الصوم حتى العصر. 

 وتتدخل الأم هاتفة:

ـ لقد كبرتَ يا "زيد"، ويجب أن تتمّ الصيام حتى أذان المغرب. 

ـ كيف ؟!. لا أقدر يا أمي.

ـ يجب أن تجرّب يا حبيبى. أول يوم يكون صعبا، وبعدئذ يسهل الصوم. 

ـ وكيف أصبر على الجوع والعطش كل هذا الوقت ؟! .

ـ بالعزيمة والإرادة والصبر. أعانك الله يا ولدي. هيا إلى النوم يا بنيّ و..

ـ أيّ نوم يا أمي ؟. سأتسلى بمشاهدة التلفاز حتى موعد السحور. 

ـ أعرف ما تريد يا "عفريت". سأوقظك قبل موعد "المسحراتي". 

أ ليس هذا ؟.

  تعلو "زيد" ابتسامة خجلى، ثم يقول معبّرا:

ـ إنها أمنيتي منذ صغري. لا أعرف كيف أشكرك !.

ـ يا حبيبي !.

  قطع الشقيقان شوطا من النوم، وأقبل موعد السحور، فأيقظت الأم ابنتها لكي تساعدها فى إعداد طعام السحور، ثم راحت لتوقظ "زيد": 

ـ اصح يا "زيد". لقد حان وقت السحور. "زيد".

 يُسمع دقات طبلة "المسحراتي":

ـ تم ترم تم تم !. تم ترم تم تم !. تم ترم تم تم !. 

ـ هل تسمع الطبلة يا "زيد" ؟. 

ـ ماذا ؟!.

ـ إنها طبلة "المسحراتي".

ـ المسحراتي !. 

 ويُنصت "زيد" لصوت "المسحراتى":

ـ اصح يا نا يم. وحّد الدايم. اصح يا نعسان. وحّد الرحمن.

 ويعلق "زيد": 

ـ الله !. ما أجمل أنشودته !. 

 وما يلبث أن يندفع إلى الشرفة، حيث تقف "منال". أطلّ إلى "المسحراتى"، الذي يحتضن الطبلة كأنها ابنته، ويدق عليها: 

ـ تم ترم تم تم !. تم ترم تم تم !. تم ترم تم تم !. 

 يا له من لحن جميل يتردد صداه في القلب !. كم غمرت السعادة قلب الصغير، ليقول معبّرا: 

ـ لكم اشتد اشتياقي لرؤية "المسحراتى". وها أنذا أراه. كان حلما وبدا حقيقة. وينادي المسحراتى:                             

ـ يا محمد. يا مصطفى. يا حسين. يا منال. يا حاج عبد التواب. سحورك وصل على النبى.

 ويٍسأل "زيد" في لهجة اعتراض: 

ـ عجبا. إنه لم ينادي باسمى !. 

 وتردّ عليه "منال":

ـ كيف ينادى باسمك وهو لا يعرفك ؟!.

ـ ماذا ؟!.. 

ـ أجل. إنه لا يعرف سوى الصائمين.

ـ الصائمين !. و.. وأنا ؟!. 

 قطع الحوار نداء الأم: 

ـ زيد. منال. السحور جاهز. هيا. 

 وتجلس الأسرة حول "الطبلية"، بينما يهتف "زيد":

ـ السحور رقم واحد.

 ويضحك الجميع، ثم توجّه الأم كلامها لـ "زيد": 

ـ تناول طعامك وشرابك كفاية يا "زيد".

 وتعلق "منال": وأنا يا أمي ؟.

ـ أنت قديمة، ولكن "زيد" مستجد. 

 ويضجّون بالضحك، ثم يقول الأب:                                                             

ـ بعد السحور بإذن الله؛ سنصلي الفجر جماعة بمسجد "سيدى فارس" المجاور. 

 ويعلق "زيد":

ـ وهذه الأولى أيضا، وليست الأخيرة بإذن الله. 

 تتناول الأسرة طعام السحور، ويحمدون الله على رزقه ونعمه، ويقوم الجميع ليتوضأوا، ويصطحب الأب ابنه، ويسعيان إلى المسجد، بينما يُرفع الأذان:

ـ اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ. اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ ..

 ويعلق "زيد":

ـ ما أجمل الأذان، وصلاة الفجر !.

ـ وصلاة الجمعة، وكل الصلوات؛ خاصة صلاة الجماعة. 

 وفى حصة الدين، كان الدرس: "فضائل الصوم"، ويقول المعلم: 

ـ لقد فرض الله الصيام لكي نشعر بالفقراء الذين يصومون طول العام.

 ويردد "زيد" دون عمد:

ـ يصومون طول العام !. 

  ويشرح المعلم العبارة التى ألقاها على مسمع التلاميذ. وفي رحلة

 العودة إلى المنزل، صادف "زيد" عجوزا. جعل يتأمله: إنه يسير زاحفا، ويتكئ على عصاه. تذكر "زيد" قول المعلم: 

 ـ "الفقراء يصومون طول العام !".

  تأثر "زيد"، بينما انحدرت الدموع من عينيه، وما لبث أن خطا نحو العجوز المسكين، وأخرج مصروفه من جيبه، ثم انحنى عليه، وناوله النقود قائلا: 

ـ تفضل يا عمّاه.

 ردد العجوز الكلمة، وكأنه يسمعها لأول مرة:

ـ عمّاه !. أ.. أ تقول عمّاه !. بوركتَ يا بُنيّ.

ـ ليتني ألقاك كل يوم فى هذا المكان !.

ـ سنلتقي بإذن الله. رمضان كريم يا بنيّ. أحمدك يا رب !.

 ومع فرحة "زيد" لسعادة العجوز، إلا أنّ دموعه لم تجفّ، وجعلت تتقاطر من عينيه. ورجع إلى البيت، وعبارة المعلم تطرق سمعه:

ـ "الفقراء يصومون طول العام !".

 مضت الساعات، وسمعتـْه "منال" يقول: 

ـ كم أشعر بالجوع والعطش !.

ـ اصبر يا "زيد". لم يبق إلا القليل. 

 وجاء إلى سمعهما صوت المؤذن: 

ـ الله أكبر الله أكبر..

  فتهتفُ "منال":

ـ أذان العصر.. 

ـ سأتوضأ حالا، وأصلي بالمسجد. 

 وفى طريقه إلى المسجد. نظر إلى السماء وتمتم:

ـ يارب صبّرني وقدّرني على الصوم !.

 وحين عاد إلى البيت؛ علته الدهشة، حين رأى أخته مشغولة بالمذاكرة، فسألها: 

ـ كيف تذاكرين وأنت صائمة ؟!. 

ـ وماذا يمنع؟. رمضان شهر الصوم والعمل وليس شهر النوم والكسل. 

ـ عندك حق يا "منال"، أبونا، وكل الناس يذهبون إلى العمل.

 وما لبث أن أحضر "زيد" كتبه، وراح يقطع الوقت فى استذكار الدروس.

  لم يتبق سوى نصف الساعة. وكان الجوع والعطش قد بلغ مداهما، ويتمتم "زيد" بالدعاء: يارب امنحن الصبر وقوة الإرادة !.

 يمضى الوقت، ويعلو صوت المؤذن؛ ليهتف "زيد" متهللا: 

ـ هيه. هيه !. نجحت. نجحت !.

 وتدعوه أمه إلى الفطور، ليعبّر "زيد":

ـ ما أجمل الصيام !. بإذن الله سأصوم كل أيام رمضان. 

 وفي أعماق الليل، يأتي إلى سمعه، الإيقاع الآسر: 

ـ تم ترم تم تم. تم ترم تم تم !.

 وصوت "المسحراتي":

ـ يا أبا محمد. يا محمد. يا حسين. يا منال. يا زيْد.

ويهتف "زيد" فى تعجب: لقد نادى اسمى !.

 وتقول له "منال":

ـ أبشر يا "زيد"، فقد كتب اسمك في سجلّ الصائمين !. 

                                                                                                                                                           تمت       

                                                                                                                                                                                                                                                                              حمدي عمارة             

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

19

متابعين

181

متابعهم

1

مقالات مشابة