جسور - الحلقة الأولى
شهر يونيو طويل جدا - ككل عام - ، تبدو بعض الأشهر أطول من غيرها رغم أن الفارق قد يكون يوما واحدا .. مفارقة عجيبة أن تمر السنين على عجل و تطول الأشهر و الأيام ، لينا التي ولدت سنة 1996 قد بلغت بحلول 2020 أربعا و عشرين سنة ، لكنها لم تشعر بها إلا و هي على أعتاب تخرجها من الجامعة .. حلم شائع لا يسقط بالتقادم أن تصل إلى نهاية ذلك الطريق و إن كان القادم بعده مجهول المعالم .. كانت لتصنع حفلا بهيجا يضيء سماء حيها في أطراف مدينة الجسور المعلقة ، كانت لتتمايل على أنغام تمجد مسيرها كل صباح في تلك الأحياء العتيقة بحقيبة ظهر مثقلة ، كانت لتصنع كعكة بقبعة تتسدل منها خيوط ذهبية لولا أن وباء قاتلا قد داهم الأرض و جعل كل شيء مؤجلا إلى حين .
»»»»»»»»»
كانت الساعة تشير إلى الثانية زوالا ، لا شيء كالمألوف ، الحياة التي اعتادت أن تتنفس في الأجواء قد أرخت قبضتها ، كأنه ارتخاء تعب ، كأنها قد أفلتت بعض حبالها لتقابل الموت عن قرب ، إنهما متقاربان جدا ، بل إن الموت يكاد يبسط أجنحته مسيطرا ، الطرقات تبعث صداها من فراغ إلا من المضطرين ، الأفواه و الأنوف مكممة خشية أن يتسلل ذلك الزائر الذي أتى ضخما مريعا إلى الأجساد ، لقد كان خطيرا بدرجة أولئك الأشخاص الذين يدسون الكيد في ثنايا الكلمات الطيبة ، لقد كان يتسلل مع الأنفاس و النسمات .
كانت لينا تنتظر الحافلة التي ستقلها إلى البيت في إحدى الشوارع التي يتخذها سائقو الحافلات كمحطات ثانوية ، لم يكن المكان مكتضا كعادته ، أربعة أشخاص فقط متفرقين بمسافة تقارب المتر ، يشك كل واحد منهم في إمكانية أن يكون البقية يحملون الوباء ، إلا تلك العجوز الطاعنة في السن ، يبدو أنها لا تقيم للقصة وزنا و تضرب جميع التوصيات عرض الحائط ، عجوز هرمة تنتظر الحافلة هي الأخرى بدون أي احتياطات وقائية ، تتكئ على عكاز معوج مدبب في نهايته ، ينسدل بعض من شعرها الأبيض على جوانب جبهتها و يحجب الباقي منه ستار أسود من دورتين و ترتدي فستانا أسودا بدون تفاصيل . لا يظهر جليا إن كانت قصيرة القامة أم أن عمرها قد صنع فيها انحناء و تقوصا بتر بعضاً من علوها . مدت لينا يدها إلى حقيبتها و تناولت قناعا واقيا جديدا و أشارت إلى السيدة العجوز أن ضعيه ، لكن العجوز ردت طلبها يمرح و ابتسام : ليبق عندك ، كم بقي لنا من العمر كي نخشى أن نموت ؟
جاءت الحافلة ، صعدوا واحدا تلو الآخر ، كان السائق ممتعضا بعض الشيء ، فهذا الوضع قد خيره بالعمل إما مع قلة من الركاب و إما ألا يعمل أبدا ، و هو الذي اعتاد ألا يجد سعادته المالية إلا في الازدحام ، حتى يكاد قابض المال الذي يعمل لديه لا يجد مكانا يقف فيه .. جلست لينا في مقعد في الوسط و جلست السيدة العجوز خلقها تماما و تفرق البقية في المقاعد الخلفية و الأمامية متباعدبن . أشار السائق إلى السيدة العجوز بوضع القناع الواقي كي لا يتم تغريمه في الحاجز الأمني لكنها ردت كالمرة الأولى ، إنها لا تضعه أبدا و لا يهمها ما قد ينحر عنه ، كأنها لم نختبر رهبة أن يتم الإعلان عن أول مصاب في الحي ، كأنها لم تجرب تلك القشعريرة و هي ترى الأخبار العاجلة تتوالى في التلفاز و تعلن عجز العالم بكل جنونه العلمي و غطرسته التي بلغت عنان السماء عن كبحه ، كأنها لم تفقد قريبا و لم تخش موت عزيز ، كأنها لا تملك ضميرا يغرس أنيابه في عنقها إن أصبحت سببا رئيسا في موت أحدهم ، كأنها شيء من الهامش لا تأبه بما يحدث داخل عرض المشهد .
كرر السائق طلبه فرفضت مرة أخرى ، فما كان منه إلا أن خيرها بين وضع القناع الواقي أو النزول ، تناولت لينا القناع الواقي من حقيبتها مرة أخرى و ناولتها إياه طالبة منها بلطف أن تضعه كي لا تعرض حياتها و حياة البقية للخطر ، و كي لا تضع السائق في مشكلة مع رجال الأمن ، حضرت قناعتها الراسخة بعناد المسنين الذي يشبه نرجسية عمرية تتغذى على الثقة المفرطة من خبرات السنين الغابرة ، فضاعفت لطفها حتى قبلت بشرط ألا تضعه إلا عندما يقتربون من الحاجز ، بدا الأمر مقنعا بعض الشيئ للينا التي توسطت الأمر مع السائق فتقبل الأمر باستياء شديد بعد مد و جزر .
كان يوم السائق سيئا ، فقد بلغه صباحا أن شقيقه الذي يقطن بمدينة أخرى مصاب و حالته غير مطمئنة أبدا ، لذلك بدا حقده جليا على الوباء و زاد حدة مع رفض السيدة العجوز وضع القناع الواقي ، و أخذ يتمتم كلمات غير مفهومة يخرج بها بعضاً من الضغط الذي يخنقه ، حتى مروا بحي أسدل الموت ستائره عليه ، جنازتان في حي واحد ، سيارتا اسعاف متوقفتان أمام بيتين متجاورين ، لا كراسي مصطفة ولا حشود معزية تخفف ما يذبح أهل الجرح ، لا أكتاف تسند الرؤوس المثقلة و لا أنامل تمسح العيون الدامعة حد الثمالة . الوباء الذي فرق الأحياء المتراصة و جعل المتر يبدو ميلا ربما قد يلم شملا هذه المرة بأن يرقد الجاران متجاورين في المقبرة .
نظر السائق في المرآة فإذا بالسيدة العجوز ترشق عيناها هي الأخرى نحوه، كأنها قد خبرت حديثا مؤجلا لمحته في نظراته المتكررة ، خاطبها بتذمر :
“ ما ترينه هراء أليس كذلك ؟ ذلك الألم هناك هراء ؟نحن نتقاسم هذا المصير شئنا أم أبينا ، القليل من الجهل قد يقتلنا جميعا ”
تنهد بعمق و أرفق التنهيدة زفير طويل ، خاطب فيه نفسه عنها حتى بانت على وجهه لغة الملامح الفاضحة :
“ إن كان لأحد نصيب من جهلك فأتمنى أن يكون أبنك بدلا من شخص آخر لتختبري نتيجة عنادك .. ”
تمالك نفسه سريعا و هو يرى انسلاخه عن طبيعته المسالمة ، كأن مسافة الإنسلاخ قد امتصت الغضب الذي قاده إلى ذلك الرجاء الكاذب ، استمر في حديثه الداخلي متعوذا من الأيام التي يقابل فيها أشخاصا بلا أبعاد إنسانية .. حتى قاطعته السيدة العجوز :
“ لو لا أن لي شيئا لا أستطيع تركه لما ركبت حافلتلك ، أما أطفالي فقد فقدتهم ، أنا ابنة التراجيديا ، يمكنك أن ترتاح ”