صرخة من الظلام
في أعماق قرية نائية، حيث تلفّ الضباب الجبال، وتغفو البيوت تحت سِحر القمر، عاشت عائلة "آل محمود" حياة هادئة، بسيطة، لم يعكر صفوها سوى همسِ حكاياتٍ قديمة عن منزلٍ مسكونٍ على أطراف القرية.
كان المنزلُ غامضًا، ذا نوافذ سوداء كعيونِ الليل، وجدرانٍ متصدّعةٍ كأنّ الزمنَ قد نحتَ عليها أسرارَهُ الدفينة. يُقال أنّ أرواحًا شريرةً تسكنُهُ، وأنّ صرخاتٍ مخيفةً تصدرُ من داخلهِ في منتصفِ الليل.
في ليلةٍ من ليالي الشتاءِ الباردة، هبتْ عاصفةٌ هوجاء، هزّتْ أرجاءَ القريةِ وأغرقَتْها في الظلامِ الدامس. وفجأةً، انقطعَ التيارُ الكهربائيّ، وعمّ السكونُ المطبقُ كلّ مكان.
في منزلِ آل محمود، اجتمعَ أفرادُ العائلةِ حولَ موقدِ النار، يتبادلونَ أطرافَ الحديثِ للتغلبِ على خوفِهم من العاصفة. وفجأةً، سمعَتْ ابنةُ العائلةِ الصغرى، "نور"، صوتَ صرخةٍ مُخيفةٍ قادمةً من الخارج.
تجمدّ الدمُ في عروقِ الجميع، وتملّكهم الخوفُ والفزع. لم يجرؤْ أحدٌ على الحركةِ أو النطقِ بكلمة. ازدادتْ حدةُ العاصفةِ، وتطايرتْ الأغصانُ اليابسةُ في الهواءِ، بينما ازدادتْ أصواتُ الصرخاتِ غموضًا ورعبًا.
قررَ الأبُ، شجاعًا، أن يخرجَ للتحققِ من مصدرِ الصرخات. حذّرَ ابنتهُ نورًا من الخروجِ من المنزلِ مهما حدث، وأمسكَ بيدهِ مصباحًا كهربائيًا قديمًا وانطلقَ في الظلامِ الدامس.
لم يمرّ وقتٌ طويلٌ حتى عادَ الأبُ إلى المنزلِ، شاحبًا وجههُ، مُرتجفًا جسدهُ. لم ينطقْ بكلمة، لكنّهُ أشارَ بإصبعهِ نحو النافذةِ.
نظرتْ نورٌ من النافذةِ فرأتْ مشهدًا مُرعبًا: كانَ جسدُ الأبِ ملقىً على الأرضِ أمامَ المنزلِ المسكونِ، والدماءُ تسيلُ من جسدهِ، وصراخُ الأرواحِ الشريرةِ يملأُ المكان.
صرختْ نورٌ صرخةً مدويةً، وفقدتْ الوعيَ من شدّةِ الرعب. وعندما أفاقتْ في الصباحِ، لم تجدْ أثرًا للأبِ، ولم يصدقْ أحدٌ حكايتها عن الأرواحِ الشريرةِ والمنزلِ المسكون.
لكنّ نورًا ظلتْ تُعاني من كوابيسٍ مُخيفةٍ تُظهرُ لها تفاصيلَ تلك الليلةِ المرعبة، وتُسمعها صرخاتِ الأبِ المُستغيثة. وازدادَتْ عزلتُها عن أصدقائها وأهلِ قريتها، الذين اعتبروها مجنونةً بسببِ خيالاتِها.
ومع مرورِ السنين، تحوّلتْ نورٌ إلى امرأةٍ شابةٍ حزينةٍ، مُنكسرةِ الخاطر. عاشتْ وحيدةً في منزلِ العائلةِ القديمِ، مُطاردةً بأشباحِ الماضي وصرخاتِ الأبِ التي لا تُفارقُ أذنيها.
ظلّتْ قصةُ نورٍ لغزًا غامضًا يُحكى في أزقةِ القريةِ، مُحذّرًا الجميعَ من الاقترابِ من المنزلِ المسكونِ، أو التحدثِ عن صرخةِ الظلامِ التي تُمزّقُ هدوءَ الليلِ.
