بريق دمعة من حنايا اليُتم

بريق دمعة من حنايا اليُتم

0 المراجعات

كم جميل إسمي بين شفاه أمي "عبد الفتّاح" وكم حنون صوتها وهي تناديني، علمت من خلالها أن القدر وشّم لي هذا الإسم لأكون مفتاح فرح بحياتها، تعلمت عنها أشياء كثيرة، الحنان والطيبة و النبل والصبر وكذلك تعلمت من خلالها كيف أحب وكيف أكره، نعم أنا أكره أيضا، قلبي الصغير نشأ على كره إسم واحد، أبيت وأصبح وهذا الشعور يلازمني كما تلازم الشمس يومنا الصيفي ، "فرنسا" هذا الإسم الذي لم يسرق وطني فقط، بل سرق أبي منا و أبكاني ، كنت أراقب الحزن بعيني أمي، وحدتها و وحدتي، شرودها الدائم و ألمها، حزن جعلها تصمد وتصبر كي أبتسم، كانت تمسح دمعي كلما بكيت، تفرك شعري كل ليلة قبل النوم، تطعمني بيدها حتى أشبع غير أن كل ذلك لم يكن يكفي لأفتقد أبي، وكلما أفتقدته أكره فرنسا!
كنت افكر كل ليلة بذات الفكرة، ماذا لو لم تكن؟
ربما كان ابي الان معي يحتضنني وينام معي، ربما كان الآن هنا ليعلمني أشياء عجزت أمي عن تعليمها لي، ربما خفي عنها ما لن يخفى عنه من أشياء تخص عالم الرجال،
لو لم تكن لكان أبي الان هنا بيننا، لكان أحب أمي أكثر، ربما....
لكان يشتاق لها ولي أكثر من هذا بكثير، ربما لو لم تكن لكان الان هنا معنا يشتغل بالنجارة او النقش، او البناء او كان حائكا او فنانا او شخصا مهمّا بالدولة يسعى الى التقدم بوطننا أكثر،
ربما لو لم تكن لكانت أرضنا أكثر خصوبة، وربما ما كان لخيراتها سرّاق يتداولون حكمها ونهبها، ليتها ما كانت!
كم سيكون جميلا لو اتقمص دور المكلف بإعادة تشكيل دول العالم او رسم خارطة جديدة له، حينها سأضع نقطة نهاية جميلة لكل هذا، سأوقف الأرض عن الدوران لأجعل تحتها غربالا واسعة ثقبه ، ثم أجلس على أريكة ليست فخمة، أحتسي قهوتي الصباحية وأستمتع بتساقط رؤوس كثيرة!
اشتد عودي وكبرت ،ازداد طولي وبدأت علامات الشباب تظهر على وجهي وجسدي، كبرت معي أفكاري وأصبحت تتجاوز لعبة كرة القدم مع أصحابي او فسحة أمام منزلنا الريفي، كبرت طموحاتي و تطلعاتي و أصبحت تتزاحم داخلي أحاسيس جميلة تزرع في نومي أحلاما مختلفة و رؤى، أصبحت أنتبه أكثر لكل تغير يصيب وجهي، أنظر يوميا بالمرآة لأرى في عينيّ ذلك الطفل! نعم كبرت لكن ذلك الطفل الذي داخلي أبى أن يكبر، مازل بجلس كل مساء بعتبة البيت وحيدا يتأمّل المارّة ويفكر، مازال ينظر للعالم بذات النظرة الدامعة و ذات العين البريئة المحبّة لكل مصدر للحنان؛ عصافير تتلاعب بأغصان الشجر؛ أراقبها، حمام يتطاير أمام المسجد؛ أراقبه، غناء بلبل أقتفي أثره لأستمتع بأنغام صوته الحزين أو هكذا كان يبدو لي! 
داخلي طفل لم يكبر بعد، مازال يتأمل حركات أمه كل صباح وهي تعد القهوة، والكسرة و الشربة الشهية، يقبل جبينها  ثم ينام على  أنين غربتها ووحدتها كلّما أسدل الليل ستاره، ليكون إلى جانبها أثناء وجبة العشاء يؤنسها. داخلي مازال يعيش ذات الطفل الهادئ، الخجول الذي يلتزم الصمت كلّما حلّ ضيف على بيتنا، طفل كبير بصدقه و حذره و قدرته الرهيبة على تجاهل كلّ ما يعتبره غيره عظيم، أخذت عن أمي صفات كثيرة تجعلني أتسم بالرجولة الحقيقية وما كان عليّ إلا أن اجعلها فخورة بي أمام الجميع، رحلة عمر كامل رافقتني فيها بلا ملل او كلل جعلتني أكون طفلا بقلب رجل و عقل رجل و شخصية رجل ترى نفسها فيه.
غير أنني مازلت أتألم لفراغ داخلي، خواء ،فقدٌ جعلني أختلف عن أولاد سني من الذين يصطحبونهم آباؤهم الى المدرسة، والى الملاهي و الحدائق العمومية، كنت أراقبهم وهم يمرحون، وهم يكبرون برفقتهم يتقاسمون معهم هموم الحياة ومشاكلها، وكنت لا اعرف من أبي إلا صوته وهو يملي قراراته و أوامره، و ينهر أمي في أغلب الأحيان، مازلت أحدق بسقف الغرفة كما كل ليلة لأحمد الله أني ما ورثت منه قسوته وأني سأعمل على تربية اولادي كما حلمت أن أكون، ربما أتزوج امرأة تشبه أمي، في مثل عظمتها و صبرها و حنانها، ربما تكون لي أسرة سعيدة وبيت دافئ، لا شك أن القدر سيعمل لصالح حظي وسوف ينصفني لتكون زوجتي و أم أولادي، ذات الشعر الطويل و الوجه القمري الجميل، كنت أراقبها كل يوم أقتفي أثر خطواتها، اتأمل في شغف جمالها، مشيتها الهادئة، ابتسامتها، أحببت فيها كل شيء وبتّ أفكر بها كل لحظة غير مكترث بما قد يحصل بعد ذلك، فقدت السيطرة على مشاعري  حتّى وجدت نفسي أمامها ذات يوم، نظرت اليها بارتباك كبير وخجل وتوتر ثم وضعت رسالة عليها رقمي على الأرض، رفعت رأسي للتأكد أنها تتابعني، ابتسمت فابتسمت، توارت خطواتي الى المنزل و عيناي معلقتان بها تراقبان حركتها الخفيفة وهي تلتقط الرسالة...

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة

المقالات

2

متابعين

3

متابعهم

7

مقالات مشابة