
إيلافييرا - مرآة المعنى
الفصل الأول:
حين تنفّست الأرض... وولدت “أليانور”
في سالفِ العصور، قبل أن تنبض البحارُ بأمواجها، وقبل أن تنبثقَ الشمسُ من بينِ جفونِ المدى، كان هناك عالمٌ لا يُشبه سواه… عالمٌ يُدعى: "إيرثالون".
لم تكن "إيرثالون" أرضًا تُرسم على الخرائط، ولا تُقاس بالأميال، بل كانت أنفاسًا بين النجوم، وظلالًا بين الغيوم، تراها الأرواح النقيّة التي تؤمن بالسحر، وتتجنّبها الممالك التي تهاب المجهول، وتخشى أن تنظر لما وراء الأفق. كانت كأنها أسطورة مكتوبة على صفحة الرياح، لا تُقرأ إلا بالقلوب التي تعلّمت الإصغاء لما لا يُقال.
كانت الغابات هناك تغنّي بلغات لم تعد معروفة للبشر، والجبال تنبض ببطء كأنها قلوبٌ عملاقة من حجر، والأنهار تلمع تحت ضوء قمرٍ لا يُرى في أي عالم آخر. في هذا المكان، لا تتبع الفصول ترتيبها المألوف، فقد يأتي الربيع بعد الخريف، أو يزور الشتاء منتصف الصيف، وكأن الطبيعة في "إيرثالون" تعزف لحنها الخاص بعيدًا عن مقاييس الزمن.
في قلب هذا العالم الغامض، وُلدت "أليانور بنت الوهج"، من أمٍّ غابت في الغيم، وأبٍ لم يُعرف له اسمٌ في سجلات الوجود. كانت أمها، كما تقول الحكايات القديمة، من نسل حاملي النور، أولئك الذين يملكون القدرة على مخاطبة السماء بقلوبهم، والذين اندثروا منذ مئات السنين، حتى ظنّت الممالك أنهم مجرد أسطورة. أما الأب… فلم يعرف أحد إن كان بشرًا أم كائنًا من وراء الحجاب الذي يفصل العوالم.
جاءت "أليانور" إلى الدنيا في ليلة صامتة، لم يكن فيها سوى همس الرياح وارتعاش أوراق الأشجار، وكأن الطبيعة بأسرها كانت تحبس أنفاسها في انتظار لحظة الميلاد. السماء كانت ملبّدة بغيوم أرجوانية، يختلط فيها البرق بالنجوم، والأرض كانت تفوح بعطر المطر قبل أن يسقط. في تلك الليلة، وُضعت الطفلة تحت أقدام الشجرة العتيقة في وادي "إيلمار"، وكأنها وُلدت من رحم الأرض مباشرة.
كانت بشرتها بيضاء كضوء القمر حين يكتمل، وشَعرها أسود كسواد الليل عند نهاية الزمان، ملامحها ناعمة وهادئة، لكن في عينيها كان يسكن شيء لا يُوصَف… شيءٌ إذا نظرتَ إليه شعرت بأن قلبك يخفق مع نبض الأرض، وكأنك أمام سرٍّ قديم لم يُكشف بعد، سرّ يختبئ خلف طبقات من الزمن والنجوم.
لم تكن أميرة وُلدت لعرش، بل ملكة خُلقت قبل أن يوجد العرش نفسه. منذ لحظة ميلادها، همست الطبيعة بأصواتٍ خفيّة: “لقد عادت… لقد عادت وارثة الضوء المفقود.”
لكن… من عاد؟ ولماذا عادت؟
ذلك ما لم يعرفه أحد بعد، حتى حكماء الجبال وحُرّاس الغابات ظلّوا في حيرة، يتساءلون إن كان قد آن أوان النبوءة القديمة. هذه النبوءة، التي لم يجرؤ أحد على تلاوتها كاملة منذ قرون، كانت تقول إن وارثة النور ستأتي حين تتصدّع السماء ويهبط من الأعالي ما يوقظ الدماء القديمة.
مرت الأعوام، وكبرت "أليانور" تحت رعاية الشجرة العتيقة في قلب وادي "إيلمار". كانت الشجرة أمّها، ومعلمتها، وملاذها، جذورها تمتد في أعماق الأرض، وأغصانها تعانق السحب. تعلمت الفتاة من الطيور لغتها، ومن النهر حكاياته، ومن الرياح أسرار الطرق الخفية. كانت تتسلق الصخور كما تتسلق الفراشات أشعة الصباح، وتغفو أحيانًا على العشب وهي تصغي إلى حكايات النجوم عن العصور التي لم يُسجلها أحد.
وفي يوم بلوغها السابع عشر، تغيّر كل شيء. انشقّت السّماء فوق "إيرثالون"، وخرج منها ضوء أبيض كأنه شقّ في نسيج العالم. وسقطت المرآة النجمية من العرش الأعلى. لم يكن ذلك نيزكًا، ولا سحرًا مألوفًا، بل كان "النداء"… نداءٌ لا يُسمع بالأذن، بل يُوقظ شيئًا خامدًا في الدّم، كأن الكون بأسره يدعوها لتخطو نحو قدرها.
تقدّمت "أليانور" عبر المروج، والضوء يرسم لها الطريق. كانت تشعر بأن الأرض نفسها تمهّد لها العبور، والعشب يبتعد قليلًا تحت خطواتها. وحين وصلت إلى حيث سقطت المرآة، وجدتها تتلألأ على صخرة سوداء، تحيط بها دائرة من الرموز القديمة التي لم ترها من قبل. كان سطحها يلمع كأنه يبتسم لها، وفي أعماقه تومض نجوم صغيرة كأنها مجرّات كاملة تعيش داخل الزجاج.
مدّت يدها، وما إن لمستها حتى اجتاح روحها تيار من النور، دفأه لا يشبه دفء الشمس، بل دفء شيء أقدم… شيء يسبق وجود الزمن نفسه. شعرت بأن دمها صار يلمع تحت جلدها، وبأن قلبها صار يدقّ مع نبض الكون.
في المرآة، رأت وجهها الحقيقي لأول مرة، ولم يكن وجه فتاةٍ فقط… بل وجه ملكة تحمل تاجًا من ضوء، وعينين تتلألآن بوهج الشروق. رأت مدنًا لم تعرفها من قبل، ووجوهًا تناديها، وجيوشًا تتحرّك، وكائنات تخرج من سباتها الطويل. رأت أيضًا ظلالًا سوداء تلتف حول نورها، تحاول إخماده قبل أن يكتمل.
ومن تلك اللحظة، بدأت الممالك تتحرّك في الظل. الملوك الذين كانوا يظنون النبوءة خرافة، بدأوا يرسلون جواسيسهم نحو وادي "إيلمار". الكائنات التي نامت في الكهوف منذ ألف عام، أخذت تفيق ببطء، والبحار التي كانت ساكنة منذ قرون بدأت تعصف من جديد. في قلب كل هذه الفوضى، كانت "أليانور" تقف، تدرك أن حياتها لم تعد حياتها، وأن الحقيقة… بدأت تُكتب من جديد.
لكن الكتابة الأولى ليست إلا بداية الحكاية. فالعالم لا يمنح قدره مجانًا، والمرآة النجمية لم تأتِ لتمنحها القوة فحسب، بل لتختبرها. كان عليها أن تعبر الغابة المقلوبة، وتواجه حارس المرآة، وتجد الجسر المفقود الذي يربط "إيرثالون" بالعوالم الأخرى. الطريق أمامها لم يكن مرصوفًا بالذهب، بل بالأسرار، والأسرار أثقل من الحجارة.
ومع كل خطوة، كانت تسمع همسات النبوءة في قلبها:
“إن أشرقتِ، انكسر الظلام. وإن تردّدتِ، ابتلعك الليل.”
وهكذا… بدأت رحلة أليانور، الرحلة التي لم تكن تعرف إن كانت ستعيد النور إلى "إيرثالون"… أم ستجعله يختفي إلى الأبد.