عماد الحق في ممالك الجن

عماد الحق في ممالك الجن

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

بداية القصة 

 

عماد الحق في ممالك الجن 

مقدمة الكتاب

في زمانٍ طواه النسيان، وأخفته القرون خلف ستائرها الثقيلة، وُجدت أسرارٌ لم تُكتب في الكتب، ولم تُروَ في المجالس، بل تناقلتها الألسنة همسًا بين من شهدوا آثارها… ثم ماتوا قبل أن يبوحوا بحقيقتها.

هي حكاية بدأت قبل أن يُولد أبطالها بقرون، يوم اختلّ ميزان العالم، وتسلّل الشر من فجوة بين الإنس والجن، فسقطت لعنة على جبلٍ من جبال اليمن، لعنةٍ ما زال الناس يذكرونها في الليالي الباردة، حين تهبّ الريح من ناحية الجبل فيُسمَع معها صدى لا يُعرَف أهو صراخٌ أم أنين.

وما بين شيخٍ صالحٍ آلمه الفقد، وطفلٍ جاء إلى الدنيا بقدرٍ لا يشبه أقدار البشر، وساحرٍ يسعى إلى ملكٍ لا يليق إلا بجبابرة الجن… بدأت الخيوط تتشابك، وبدأت القرية السعيدة تعرف معنى أن يكون الإنسان في قلب معركةٍ لا يرى أطرافها.

هذه الحكاية ليست رواية عن السحر فحسب، ولا قصة عن الجن وحدهم، بل هي قصة بشرٍ واجهوا ما لا يُواجه، وساروا في طريقٍ لم يختاروه، لكن القدر ساقهم إليه… لتُكتب لهم أدوارٌ سيذكرها من تبقّى من أهل تلك الأرض.

فإن كنت من محبّي العجائب، ومن عاشقي أسرار الأزمنة الغابرة، فاقلب الصفحة…

فما ستقرؤه الآن، ليس إلا بداية اللعنة.

 

يُحكى ــ والله أعلم ــ أنه في سالف العصر والأوان، كان في

 الأرض رجلٌ جمع أسرار السحر والشعوذة، بعد أن وقعت في يده كتبٌ من علوم السحر اليهوديّة القديمة. وما لبث أن اشتدّ سحره حتى تمكّن بقوّته من أسرِ شدّاد ملك ملوك الجن، فحبسه داخل خاتمٍ من حديدٍ أسود، ونقش عليه طلاسم تمنع الجن من الاقتراب، فكلّ من يمسّه منهم يصير رمادًا تذروه الرياح.

وأطلق الرجل على نفسه لقب الساحر الأعظم، وكان يرتكب الفواحش ليزيد سحره قوّة، حتى خضعت له بضع ممالك من الجن. ثم أمر أحد رجاله أن يحمل الخاتم إلى مكانٍ مهجور لا تطأه أقدام البشر. فسافر الرجل أيّامًا وليالي، حتى بلغ جبلًا من جبال اليمن، قريبًا من قرية تُسمّى القرية السعيدة، وهي على مسيرة نصف يوم من مدينة الوالي.

وفي الليلة التي ظنّ فيها الساحر أنّه بات قادرًا على غزو البلاد، تنبّأ ــ بما عنده من السحر ــ أنّ مقتله سيكون على يد أحدٍ من ذريته. وكان له سبعة أبناء، لكن قلبه لم يطاوعه على قتلهم، فعزم على نفيهم إلى بلادٍ بعيدة.

غير أنّ أحد أبنائه كان حافظًا لكتاب الله، شيخًا في جامعٍ كبير، زاهدًا في الدنيا. تبرّأ من أبيه وقاطعه، فلما بلغه أن الساحر نفى إخوته، ذهب إليه يريد نصحه لوجه الله.

دخل عليه فرأى المصحف موضوعًا تحت قدميه، وأمام الساحر نفرٌ من المتعلمين، يُعلّمهم السحر، ويأمرهم أن يكتبوا الآيات على أوراقٍ دنّسها بالنجاسة. فلمّا رأى الابن ذلك، اشتعل قلبه غضبًا لله، واقترب من أبيه.

سأله الساحر عن سبب مجيئه، فقال الشاب إنه جاء ليودّعه بعدما علم بما صنع بإخوته. فنهض الساحر يعانقه، وإذا بالخنجر يغوص في صدره. فسقط الساحر صريعًا.

نظر الابن حوله، فرأى كتب السحر التي خطّها أبوه. حاول تمزيقها فلم تتمزق، وأراد إحراقها فلم تمسّها النار. ففرّ هاربًا حتى بلغ أرض اليمامة، وهناك حفر قبرًا ودفن الكتب فيه، لئلا تصل يد بشر إليها.

لكن بين تلاميذ الساحر رجلًا يهوديًا يُدعى عزّار، وهو أمهرهم. ولم تمضِ إلا أيام حتى علم بمكان الكتب بمعونة الجن، فاستخرجها، وأعلن نفسه خليفة للساحر الأعظم، ووضع على رأسه تاج شدّاد الأسير. ومع ذلك لم تخضع له إلا قلّة من ممالك الجن.

غير أنّ عزّار كان يخشى شيئًا واحدًا: أن يتحرر شدّاد من الخاتم. فهو يعلم أنّ الجن يهلكون إن مسّوه، أما بني آدم فلا يصيبهم ضرر. ومن لَبِسه صار ملك الجن مملوكًا له، وهذا ما يخشاه عزّار.

فأرسل أتباعه إلى اليمن، يعينهم الجن، للبحث عن الخاتم.

---

وفي القرية السعيدة، بعدما خرج الناس من صلاة العشاء، اشتعل الجبل نارًا عظيمة، أضاءت ليلته حتى صار كأنه نهار. ظنّ الناس أن النار بغير سبب، ولم يعلموا أنّ تلك كانت ليلة بداية اللعنة.

ظلّ الجبل يحترق حتى الفجر، ثم انطفأ فجأة، كأن لم يكن. صعد بعض أهل القرية لاستطلاع الأمر، فلمّا عادوا أصابتهم أمراضٌ غريبة، ومات منهم كثير. وانتشرت الأساطير، وقال بعض الأئمة إن ذلك عقابٌ من الله لكثرة الفواحش بين الناس.

 

---

وفي تلك القرية كان رجلٌ يُدعى عطيّة.

كان عطية حافظًا لكتاب الله، قد أودع في صدره نور القرآن، زاهدًا لا يطلب من الدنيا متاعًا ولا جاهًا. وقورًا سمح الوجه، إذا نظرت إليه ظننت أن السكينة تحفّه من كل جانب، وإذا تلا القرآن خشعت القلوب، كأن آيات الرحمن تجري على لسانه كالماء العذب.

كان يعين الفقير، ويواسي الملهوف، ويردّ الظالم بالحكمة واللين، ولا يطلب أجرًا إلا ما عند الله. وقال عنه أهل القرية:

"هذا رجل يعيش بيننا ببدنه… أمّا قلبه فمعلّقٌ بالسماء. لم يرزقه الله ولدًا، وقد ماتت زوجته وهي شابة في مقتبل العمر. وكان عطية، لما في قلبه من تعلّق بالله ورسوله، قد آثر ألا يتزوج بعدها، خوفًا أن تشغله النساء عن العبادة، وأن يُفرّق حبه بين خالقه وخلقه.

وفي ذات ليلةٍ حالكة، بينما كان الشيخ جالسًا في بيته وقد هدأ السكون، إذا ببابه يُطرق طرقًا غريبًا، كأنه يأتي من عالمٍ آخر. فتح الباب، فإذا برجلٍ لا يعرفه، يحمل بين يديه رضيعًا كأنه فلقةُ قمر، لم يمرّ على ولادته إلا ساعات.

مدّ الغريب الطفلَ إلى عطية دون كلمة، وما إن ضمّه الشيخ إلى صدره حتى اختفى الرجل كما يختفي السراب على أديم الصحراء. فعلم عطية — بما فتح الله عليه من فراسة — أن ذاك لم يكن بشرًا من عامة الناس.

وبكى الطفل بكاءً شديدًا، فدبّ في قلب عطية خوفٌ ألا يقدر على رعايته وحده، فذهب إلى جاره وصاحبه الحطّاب، وكان رجلاً كريمًا له زوجةٌ وثلاث بنات، وقد رزقته امرأته حديثًا طفلة، فلن تمانع أن تُرضع معه الصغير. فقبِل الرجل، وأسكن الله في بيته رحمةً لهذا الغلام.

وسمّى عطية الطفل عماد الحق، ومنذ أن وقع نظره على محيّاه، سقط حبه في قلبه سقوطًا لا يعرف سببه إلا الله.

ومرت أيامٌ قلائل، وخرج الحطّاب كالعادة إلى الجبل يجمع الحطب، فإذا به يُصاب بالداء الذي سُمّي في تلك الأيام لعنة الجبل. حاول عطية إنقاذه، ولكن الرجل قضى نَحبَه، فلم يجد عطية بُدًّا من أن يحمل مسؤولية زوجته وبناته، مكافأةً له على إحسانه إلى عماد الحق.

وأما عَزّار الساحر، فإنه ما زال عاجزًا عن امتلاك الخاتم، إذ إن الجبل محرّم على البشر، وكل من أرسلهم إليه أصابتهم اللعنة، والخاتم محرّم على الجن لمسه، فلو مسّه واحدهم صار رمادًا. وهكذا ظلّ شداد أسيرًا داخل الخاتم سنين بلا حد. لكن عَزّار تمكن من أسر ابن شداد، فسجنه في قمقمٍ من نحاس، وختم عليه بطلاسم، وتركه في الجبل، وأمر الجن بحراسته.

 

---

ومضت الأعوام كلمح البصر، حتى بلغ عماد الحق ست سنوات، وقد نشأ نشأة الغلمان في القرية تحت عين عطية، يحفظ القرآن، ويتعلم القراءة والكتابة، وكان تميّزه الأكبر حبّ عطية له، يعلمه صنعة أبيه: قطع الحطب وبيعه.

وكان الفتى يظن أن المرأة التي ترعاه هي أمه، وأن البنات أخواته.

وكان كل يوم، بعد صلاة الفجر، يخرج يجمع الحطب على ظهر حماره، ويبيعه في المدينة، كما علّمه عطية، الذي نهاه مرارًا أن يقترب من الجبل أو يصعد إليه.

 

---

وفي يومٍ من الأيام، دخل عماد الحق المسجد كعادته، فلم يجد الشيخ عطية يؤمّ الناس، وكان ذلك أمرًا لم يحدث قط. فلما انتهت الصلاة أسرع إلى داره، فوجده مريضًا، فسهر عنده حتى أشرقت الشمس. فلما رأى عطية أن رزق أهل البيت متوقف على الغلام، أذن له بالخروج.

خرج الفتى وحده، وظل يجمع الحطب حتى وجد نفسه عند قدم الجبل، فلم يشعر بالخوف، وقال في نفسه:

> “ما السر في أن يمنعني الشيخ وأمي من الصعود؟”

 

وتقدّم قليلًا، فإذا بالحطب وفيرٌ لم يره مثله قط، فانشغل به حتى توسطت الشمس كبد السماء.

وأما الأم، فلما علمت أن عطية لم يخرج معه، خافت عليه، فارتدت ثيابها وخرجت تبحث عنه، ولم تجده في المواضع التي حدّدها عطية، فقيل لها إنهم رأوه متجهًا نحو الجبل، فسارت خلف آثار الحمار مرغمةً، وقلبها يرفّ كالطير من الخوف.

ولما همّ عماد الحق بالعودة، بعد أن حمل ما استطاع على الحمار وعلى ظهره، فإذا بأمه تلقاه في الطريق. فعاتبها لخروجها وحدها. وبينما هو يحدثها، ظهر رجل أمامه فجأة كأنه خرج من الهواء، فسأله من يكون، فلم يُجب.

أما الأم فلم تر شيئًا، فلما رأت ولدها يجفل ويشير إلى الفراغ، اضطرب قلبها واضطربت أطرافها.

وتكلم الرجل، ولم يسمعه إلا الغلام، وقال بصوتٍ كصدى الجبال:

> “لقد دخلتما أرضي بغير إذني، وصار لي حقّ قتلكما.”

 

وهمّ بقتل الغلام وأمه، لكنه ما إن رفع يده حتى صار رمادًا يتطاير. ثم ظهر غيره خلفه، كل ذلك أمام عين الفتى.

حاولت الأم جرّ الحمار فلم يتحرك، ووقع من يد عماد الحق ما جمعه من حطب، وبدأ العرق يتصبب منه كأنه يغتسل بماء بارد. وقرأَت الأم ما تحفظه من القرآن، ترتعد فرائصها، وولدها يكاد يقع من شدة الخوف.

ثم تقدم الجني الثاني إلى الفتى، وأمسك بيده، ووضع فيها حجابًا مكتوبًا فيه آيات وطلاسم، وقال:

> “يحميك هذا من شر الأشرار، فلا تُفارقه أبدًا، حتى عند نومك، إلا إن دخلت الخلاء. واجعل لسانك لا يفتر عن ذكر الله.”

 

لم يفهم الغلام كلامه، لكنه حفظه.

ورأت الأم الحجاب، فكدتُ — تسمع خفقان قلبها من الهلع، ومدّت يدها لتأخذه وترميه، لكن يد ابنها أمسكت به رغمًا عنه، فلم تستطع نزعه.

فتركت الحمار، وحملت الغلام، وهربت تعدو إلى القرية السعيدة تستنجد بالشيخ عطية.

فلما سمع عطية الخبر، اضطرب قلبه، وقال لهما:

> “اكتموا الأمر ولا تُخبِروا به أحدًا.”

 

 

ولكنّ عمادَ الحق، على ما كان عليه من صدق الفطرة وسلامة الطبع، لم يقوَ على كتمان ما جرى له؛ فحدّث أقرانه بما لاقاه في الجبل، غير أنّ أحدًا منهم لم يصدّقه، وظلّ الأمر بين تكذيب وسخرية، حتى شاع الخبر بين الناس، فلم يؤمن بحديثه إلا الشيخ عطية. ولذلك أوصاه الشيخ أن يكتم الأمر ولا يذيعه، مخافة أن يجرّ على نفسه البلاء.

ولم تغرب شمس ذلك اليوم حتى ألمّ بالوالدة داء غريب، سمّاه الناس لعنة الجبل، فطُرحت في الفراش، لا هي من الأحياء ولا من الأموات، وبقيت على حالها سنين طوالًا، لم يأذن الله لها بفرجٍ ولا نهاية.

وبلغ عماد الحق مبلغ الرجال، واشتهر في القرى والبوادي بأنّه الرجل الوحيد الذي يدخل الجبل ويخرج منه آمنًا لا يمسّه سوء. وإن كان لهذا الفتى صاحب، فهو منذر، رجلٌ زكاه الشيخ عطية يوم عرّفه به. وكان منذر من رجال جيش الوالي، متزوجًا لم يرزقه الله الولد، يساعد عماد الحق في بيع الحطب لرئيس مطابخ القصر.

وفي تلك السنوات، كان الشيخ عطية كثير الغياب عن القرية، إذ صار من المقرّبين عند الوالي، لا يفارق مجلسه إلا ليعود إلى داره.

وفي يوم من الأيام شاع في القرية أنّ بضع أبقار لتاجر من المدينة قد ضاعت، وأنّ من رآها قال إنها صعدت نحو الجبل لترعى، وأن لا أحد تجرّأ على تتبعها. فسأل عماد الحق لمن تكون تلك الأبقار، فقالوا: لتاجر من المدينة يُدعى سعيد الجواهري، وهو من خاصّة الوالي.

فأشاع عماد الحق أنّه إن كانت الأبقار حقًا في الجبل، فسوف يعيدها إلى صاحبها. وبلغ الخبر صاحبه منذر، فذهب إلى رماح بن سعيد الجواهري وأخبره أنّه يعرف رجلًا يقدر على إعادة الأبقار الضائعة. فسأله رماح:

“أوَلا يخشى صاحبك لعنة الجبل؟”

فقال منذر: “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، ثم إن صاحبي يدخل الجبل منذ سنين لم يمسّه أذى.”

فطلب رماح لقاء هذا الرجل ليرتب له مقابلة أبيه والاتفاق على المكافأة.

فذهب عماد الحق إلى المدينة، وسأل عن دار سعيد الجواهري، فدلّه الناس عليها. وهناك استقبله رماح، وهو الولد الوحيد بين إحدى عشرة أختًا من ثلاث زوجات.

وقال رماح لعماد الحق أن ينتظر دخول والده. فلما دخل سعيد وألقى التحية، سأله عن حاجته. فحدّثه عماد الحق عن الأبقار، وأنه قادر على إعادتها إن كانت في الجبل. فقال سعيد:

“إن أنت أعدتها يا فتى، فلك دينار من ذهبٍ عن كل بقرة.”

فخرج عماد الحق من ساعته، وعاد إلى القرية السعيدة، ولما انقضى الفجر انطلق نحو الجبل.

وفي تلك الأثناء، وفي قصر الوالي القريب من الجبل، بلغ علاء الدين ابن الوالي حديث لعنة الجبل وما يصيب من يجرؤ على صعوده. فطلب من جلسائه أن يقصّوا عليه ما يعرفونه، فلما حدّثوه ضحك وسخر مما قالوا، ثم رتّب رحلة صيد يصحب فيها حرسه وجنده وبعض أصدقائه. وكان عدد من معه ثلاثة عشر رجلًا، أذعنوا لأمره خوفًا وهيبة، وإن كان بعضهم قد رأى بعينيه ما يقع لمن يقترب من الجبل.

ولما وصل الخبر إلى الوالي أن ابنه خرج نحو الجبل، أرسل وراءه من يأمره بالرجوع، ولكنّ علاء الدين كان قد بلغ سفح الجبل قبل وصول رسول أبيه.

ومضى يوم كامل ولم يصل خبر عن الفتى، ثم مضى يومان وثلاثة وأربعة، فلا أثر ولا رسول. فاستبدّ الخوف بقلب الوالي، وأعلن غلمانه أنّ الوالي يبحث عن أشجع الرجال لصعود الجبل، ومن يأتيه بخبر عن ابنه فمكافأته وزنه ذهبًا مرّتين.

ولما سمع منذر بذلك، طلب الإذن بالدخول على الوالي، وحدثه عن عماد الحق وأنه الوحيد الذي يصعد الجبل سالمًا، وأنه قادر على جلب الخبر. لكن الوالي ظنه يكذب، إذ لم يسمع قط أن رجلًا نجا من الجبل. فاتهمه بالكذب، غير أن منذر قال:

“شاهدُ صدقي هو الشيخ عطية.”

ولما كان الوالي يعلم مكانة الشيخ وصدقه، أمر بإحضاره، وسأله عن عماد الحق وما يعرفه عنه، فقال الشيخ:

“يا مولاي، كل ما بلَغَك عنه حق، وأنا من ربّاه صغيرًا.”

 

صدّق الوالي كلامَ منذر، لأن الشيخ عطية كان شاهدًا 

على صدقه، أمره أن يذهب على الفور إلى القرية السعيدة ويعود منها بصاحبه عماد الحق. لكن منذر طلب الاذن من الوالي ان يرافق صاحبه في تلك الرحلة فلم يجد الوالي مايمنع وفي تلك الأثناء، كان خبر مكافأة الوالي ينتشر في القرى والمدن انتشار النار في الهشيم، حتى صار حديث الناس كلهم، وامتلأت القلوب بالطمع، ونسِي الرجال خوفهم القديم من لعنة الجبل، إذ رأوا أن الذهب يستحق المغامرة، ولو كان الثمن أرواحهم.

فلما بزغت شمس ذلك اليوم، انطلق أكثر من مئة رجل نحو الجبل، كلٌّ منهم يطمع في أن يكون هو الذي يأتي بخبر ابن الوالي فينال وزنه ذهبًا.

أما عماد الحق، فكان قبل ذلك الوقت قد صعد الجبل يبحث عن بقرات سعيد الجواهري، فإذا به يسمع ضجيجًا بين الأشجار، وصوتَ حوافر خيل تمشي على الصخور. اضطرب قلبه، فهو يعلم أن لا أحد يجرؤ على دخول الجبل غيره، فظنّ أنّ الذين سمعهم جماعةٌ من الجن، فاختبأ بين الأحجار، ولم يكن يعلم أن ذلك الموكب هو موكب علاء الدين ابن الوالي.

ولمّا ابتعدت الأصوات، خرج من مخبئه، وهو يشعر أن الخوف يلاحقه كالظل، فقد كانت تلك أول مرة يسمع فيها أصواتًا في الجبل منذ سنين يوم نال الحجاب من يد الجني.

ثم مضى يبحث بين الوديان والشعاب، حتى عثر على خمس عشرة بقرة، ورأى أيضًا بقراتٍ ممزقة قد افترستها الوحوش. فقاد ما وجده وعاد به إلى القرية السعيدة، ولم يكن يعلم عدد البقرات الضائعة.

فرح أهل القرية فرحًا شديدًا، إذ أيقنوا أن عماد الحق سينال مكافأةً عظيمة من سعيد الجواهري. لكن بعض الشباب امتلأت صدورهم حسدًا، فوسوس لهم الشيطان، فاتفقوا على أن يدبّروا له مكيدة.

فأسرعوا إلى المدينة، ودخلوا على رماح ابن سعيد، وقالوا له كذبًا:

“لقد رأينا عماد الحق يخرج البقرات من مكان مهجور خارج القرية، وما كان بالجبل شيء.”

فصدّق رماح كلامهم، وحرّكت الغيرة والغضب قلبه، فعاهد نفسه أنه إن وجد عماد الحق سيقتله بيده.

ولما علم سعيد بما قاله أولئك الشباب، حذّر ابنه رماح من القيام بأيّ أذى لعماد الحق. وكان لسعيد أخٌ أصغر يُدعى عبدالله الجواهري، قد تزوج قبل أشهر من امرأة من القرية السعيدة. وكانت زوجته تقسم له أن عماد الحق شابٌ صالحٌ ربّاه الشيخ عطية، وأن كل ما قيل عنه كذبٌ وبهتان. فنقل عبدالله كلام زوجته لأخيه سعيد، وزاد عليه أنه هو نفسه يصدّقه، لكن سعيد كان يقول في نفسه: “هؤلاء الرجال لن يكذبوا دون سبب.”

أما عماد الحق، فلما صلّى الفجر، أخذ الأبقار وتوجّه بها إلى المدينة كما أمره سعيد الجواهري. وهناك استقبله غلمانُ سعيد وأخذوا منه البقر، ثم قصد هو قصر الجواهري.

استقبله رماح، وكان الغيظ يشتعل في صدره، وما منعه من قتله إلا أمر أبيه. فقال له عماد الحق إنه أدّى ما عليه وأعاد البقرات، وأن على سعيد أن يفي بوعده.

لكن رماح لم يقدر أن يكتم غضبه، فلطمه لطمةً طرحته أرضًا، وكاد يُغمى عليه. ولم يجرؤ الخدم على التدخل، فظلّ رماح يضربه حتى وصل سعيد وعبدالله، فانتزعا رماح عنه.

وتفاجأ عماد الحق حين رأى بعض رجال قريته بين الحاضرين، فالتفت إلى سعيد وقال:

“أهذه مكافأتي على ما فعلت؟”

فأجاب رماح:

“سرقت مالنا، وتريد أن نكافئك؟”

فقال عماد الحق:

“معاذَ الله أن آكل الحرام.”

فردّ سعيد:

“هؤلاء الرجال يشهدون أنك سرقت البقر وخبأتها لتساومني.”

فالتفت عماد الحق إلى جيرانه وسألهم:

“أصحيحٌ ما يقول؟”

فلم ينكروا، بل وصفوه بالسارق، وقالوا إنهم رأوه يسرق البقر بأعينهم.

فقال عماد الحق، وقلبه يتقلب من الظلم:

“حسبي الله ونعم الوكيل. لا أقول إلا كما قال نبيّ الله يعقوب: فصبرٌ جميلٌ والله المستعان.”

ووجد نفسه ضعيفًا لا حيلة له ولا نصير. فأشفق عليه سعيد، وأعطاه دينارًا واحدًا نظير تعبه، بينما لم يتوقف لسان عماد الحق عن قول: "حسبي الله ونعم الوكيل".

أما رماح، فلم يكتفِ بما فعل، بل أقسم أنه سيقيم عليه الحد، فزجره سعيد وطرده من المجلس. وكانت بنات سعيد يراقبن المشهد من بعيد، فامتلأت قلوبهنّ شفقةً على الفتى المظلوم.

وخرج رماح ومعه الشباب الذين شهدوا زورًا، وأعطاهم المكافأة التي كانت مخصّصة لعماد الحق.

فلما عاد الشباب إلى القرية، نشروا بين الناس أن عماد الحق سارق، لكن أهل القرية لم يصدقوهم، فهم يعرفون الفتى وصدقه.

أما زوجة عبدالله، فلما علمت بما جرى، أخبرت زوجها أن أخاه وابنه قد ظلموا عماد الحق ظلمًا عظيمًا.

خرج عماد الحق من قصر الجواهري وقلبه يتفطّر من القهر، ولسانه لا ينفك يردد:

“حسبي الله ونعم الوكيل على من ظلمني.”

وفي تلك الليلة، لم يُطق العودة إلى بيته، فبقي خارج القرية حتى غلبه النوم، فنام حتى طلعت الشمس وفاتته صلاة الفجر في وقتها.

أما منذر، فقد كان ينتظر رجوعه منذ علم أنه أخذ البقر إلى سعيد، ولم يشأ أن يعود إلى الوالي بدونه. لذلك ذهب إلى داره في القرية المجاورة، وهناك سمع أحد أولئك الشباب يكرر اتهام عماد بالسرقة، فهجم عليه وضربه، لأنه يعلم علم اليقين أنه يكذب، ولأن حبّه لعماد الحق في قلبه أعظم من حبّه لأخيه.

وعندما استفاق عماد الحق من نومه، أسرع لقضاء صلاته، ثم عاد إلى بيته. فتسارعت إليه أخواته يسألنه عن سبب اتهام الناس له، ولماذا غاب ليلتين عن البيت. فقصّ عليهن القصة كلها.

وبينما هم كذلك، سمع صوت منذر يناديه من خارج الدار، فخرج إليه عماد الحق، وهو مكسور الخاطر. فلما رآه، بدأ يقسم له أنه مظلوم، وأنه لم يسرق شيئًا. فوضع منذر يده على كتفه وقال:

“أنا أصدقك، وكل من في القرية يصدقك.”

ثم سأله عماد الحق بحرقة:

“إذن... لماذا جئتَ إلى هنا؟”

 

قال منذر لعماد الحق بصوتٍ يحمل شيئًا من العجلة:

“الوالي يطلبك في الحين والساعة!”

نزلت الكلمات على قلب الفتى كالصاعقة، فقد ظنّ أن سعيد الجواهري اشتكاه إلى الوالي، وأن ما فعله رماح لم يكن سوى البداية. نظر إلى منذر بخوفٍ متدرّج وقال بصوت خافت:

“وماذا يريد الوالي مني؟”

اقترب منه منذر خطوة، ووضع يده على كتفه ليطمئنه، ثم قال:

“الوالي لا يريدك في شر، بل في خير. إنه يطلب خبرًا عن ابنه علاء الدين… فقد اختفى في الجبل، والوالي يظن أن وراء غيابه أمرًا عظيمًا.”

قال عماد الحق متعجبًا:

“وما شأني أنا بهذا الأمر العظيم؟”

ابتسم منذر، وقال له:

“توكل على الله يا عماد… ففي هذا الأمر الخير الكثير.”

جلس عماد الحق وقد اشتعل الفضول في صدره، وقال:

“حدّثني من البداية ولا تُخفِ عنّي شيئًا.”

فقال منذر:

“إن علاء الدين، ابن الوالي، خرج في رحلة صيد إلى الجبل منذ ستة أيام… مع علمه بلعنة الجبل. ومنذ ذلك اليوم، لم يُعرف له أثر ولا سمع أحد صوته. وقد بلغ الوالي خبرك، وقال صراحة: إن كان بين الناس من يأتيني بالحق، فهو عماد الحق. فهو لا يثق بأحد في هذا الأمر مثلك.”

ارتجف قلب الفتى حين سمع اسمه على لسان الوالي، وقال:

“أنا رهن إشارة مولاي.”

لكن منذر أردف قائلًا:

“هناك رجال كثيرون سبقونا إلى الجبل، وقد يصلون إلى المكافأة قبلنا.”

فقال عماد:

“وما هي المكافأة؟”

ابتسم منذر وقال:

“الوالي وعد أن من يأتيه بخبر علاء الدين، فسيُعطيه وزنه ذهبًا… مرتين!”

فتغيّر وجه عماد الحق، وسارع إلى السجود سجدَة شكر لله، فهو يعرف الجبل أكثر من كل الرجال. وبدأ لسانه يلهج بالحمد، وقد نسي همومه، لعلّه إن حصل على الذهب يستطيع علاج أمه.

اتفق الاثنان أن يصليا الظهر في المسجد ثم ينطلقا إلى المدينة.

دخل عماد بيته وهو يحمد الله ويشكره، ثم أسرع إلى حيث ترقد أمه المريضة، يقبّل قدميها ويخبرها أن الفرج قريب. لكنها كانت بلا حول ولا قوّة، لا يدل على حياتها إلا صوت أنفاسٍ ضعيفة.

 

---

عند الموعد وصل الاثنان إلى قصر الوالي، وكان الوالي ينتظر عمادًا على أحرّ من الجمر. وقف عماد أمامه مرتجفًا من الهيبة، فهذه أول مرة يدخل فيها ذلك المكان.

قال الوالي:

“هل تعلم لماذا أرسلت في طلبك؟”

قال عماد:

“نعم يا مولاي… أخبرني منذر.”

قال الوالي:

“إن عدت إليّ بخبر عن ولدي، أعطيتك من الذهب ما يساوي وزنك… مرتين.”

لكن عماد رفع رأسه وقال:

“مولاي… لا أريد ذهبًا.”

تعجب الوالي وقال:

“وماذا تريد إذن؟”

قال عماد:

“أريد إنصافي. فقد أشاع سعيد الجواهري بين الناس أني سارق، وشهد عليّ جيراني زورًا، وأنا بريء.”

طلب الوالي أن يسمع القصة كاملة، فحكاها عماد من أولها إلى آخرها.

عندها قال الوالي بصرامة:

“اعلمْ أيها الشاب، أنك إن كذبت وثبتت عليك السرقة، فسأقيم عليك حدّ السارق.”

ثم أمر بإحضار الشهود، وطلب من عماد أن يجلس في مجلسه ذلك اليوم، لينظر في أمره مع سعيد ورماح.

قبل بدء المجلس، أعطى الوالي لعماد زجاجة ماء، وأمره أن يضعها أمامه عند حضور الخصوم.

 

---

جلس الوالي مع وجهاء البلاد، ومن بينهم الشيخ عطية. حضر الشهود الذين شهدوا زورًا على الفتى، وحضر سعيد الجواهري. ارتبك سعيد عندما رأى عمادًا في مجلس الوالي، وكذلك الشيخ عطية الذي كان يعلم براءة عماد.

طلب الوالي من عماد أن يضع الزجاجة أمامه، ثم قال له:

“اذهب الآن لشأنك… وسأنصفك إن كان لك حق.”

قال عماد:

“وهل صدقتني يا مولاي؟”

فقال الوالي:

“إذا كان معشرُ الجن يصدقونك، فكيف لا أصدقك أنا؟”

ولم يفهم عماد قصد الوالي، لكنه لم يجرؤ على السؤال.

ثم رمى الوالي إليه بصُرّة فيها عشرة دنانير، وأمره ألا يعود إلا ومعه خبر عن علاء الدين.

لكن أحد الشهود قال:

“يا مولانا، إنه سارق! أتتركه يهرب؟”

فقام الشيخ عطية غاضبًا وقال للرجل:

“كذبتَ والله! ولدي ليس بسارق.”

فارتعد الرجل، ولم يجرؤ على الرد، خاصة بعد أن علم بمكانة عماد لدى الشيخ عطية.

كذلك خاف سعيد، فقد أدرك أن الشيخ يعرف عمادًا حق المعرفة.

صفّق الوالي بيديه، فدخل الخدم ومعهم كؤوس زجاجية بعدد الشهود، ووضعوها أمام الزجاجة. أراد الخدم سكب الماء، لكن الوالي أمرهم بالانصراف.

نهض الوالي بنفسه، وسكب الماء في الكاسات، وأمر الشهود أن يشربوه. ترددوا، لكن الوالي أجبرهم.

بعد أن شربوا، قال الوالي:

“الآن وقد شربتم ماءً أعطاه الجن لعماد الحق…”

لكن حديثه قُطع، لأن بعض الحاضرين ضحك، فسكتوا حين رأوا غضب الوالي.

كان الوالي يريد أن يوقع بهم، ليكشف الكاذب من الصادق.

فقال أحد الشهود محتجًا:

“إن قال عماد إنه قابل الجن، فهو كاذب… لأنه سارق!”

ثم التفت يطلب المعذرة من الشيخ عطية.

فقال الوالي بصرامة:

"عماد الحق عاش في الجبل، ولم يمسّه سوء… لأنه صديقٌ لكثير من الجن. وهم الذين أعطوه هذا الماء. والآن… سأطرح عليكم سؤالًا: لماذا شهدتم عليه بالزور؟

واعلموا أن من يكذب… سيهلك في مكانه، لأن الماء مسحور!"

فارتجف الرجال، فهم جميعًا كذبوا، وكذلك سعيد.

فسألهم الوالي السؤال، فلم يتجرأ أحد على الرد، وطأطأوا رؤوسهم.

وأخيرًا قال أحدهم:

“شهدنا زورًا لنأخذ المكافأة التي وعد بها سعيد الجواهري عماد الحق.”

من ساعتها أمر الوالي بجلد كل واحد منهم خمس عشرة جلدة، وحبسهم تسعين يومًا.

أما سعيد فاعتذر للشيخ عطية، وقال إنه لم يتوقع أن يكذب أولئك الرجال جميعًا، لكن الشيخ قال له:

“الاعتذار يكون لِمَن ظُلم… وليس لي. انتظر عودة عماد الحق واعتذر منه.”

وتعجب الحضور مما فعله الوالي، فهو لم يُعرف عنه الخوض في أمور السحر والجن من قبل.

نهاية. الجزء الأول image about عماد الحق في ممالك الجن

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
هيثم نبيل الشرجبي تقييم 0 من 5.
المقالات

1

متابعهم

0

متابعهم

1

مقالات مشابة
-
إشعار الخصوصية
تم رصد استخدام VPN/Proxy

يبدو أنك تستخدم VPN أو Proxy. لإظهار الإعلانات ودعم تجربة التصفح الكاملة، من فضلك قم بإيقاف الـVPN/Proxy ثم أعد تحميل الصفحة.