
إيلافييرا _مرآة المعنى
الفصل الثالث:
ما وراء الحرف المحرَّم
في فجر اليوم التالي، استيقظت "إيرثالون" على هدوءٍ خادع، هدوءٍ يشبه الغطاء الذي يخفي تحته عاصفة. السماء بدت صافية، لكن النجوم بقيت مضاءة رغم اقتراب الشمس، وكأنها ترفض الانسحاب من المشهد. كان الليل قد ابتلع الحقيقة، وترك فقط صوت الريح يحذّر من شيءٍ لا يُرى.
في قاعة المرآة، حيث الضوء يتراقص على الجدران البلّورية، وقفت أليانور أمام المرآة النجمية. كانت ملامحها شاحبة، لكن عينيها مشتعلة بعزمٍ غامض. رفعت يدها، ورسمت بأطراف أناملها دائرة حول المرآة على الأرض، ثم بدأت تهمس بلغاتٍ لا تُدرَّس في أي مدرسة، ولا تُدوَّن في أي كتاب. كانت تلك اللغات تولد من الدم النقيّ فقط، تنتقل في الأرواح لا في الصفحات.
وفجأة… اشتعلت الرموز حول الدائرة، ألسنة ضوء أزرق وأحمر ارتفعت كأنها نيران حية. ثم انبعث صوت لا يُشبه صوتًا بشريًا ولا إلهيًا. لم يكن قريبًا ولا بعيدًا، بل كان يملأ الفضاء كأنه يسكن داخل كل حجر وكل ذرة هواء. كان الصوت أقدم من الزمن ذاته.
“أيتها الوارثة… إن النور فيكِ ليس لكِ وحدك، بل هو تذكير بأن الظلال لم تمت.”
جثت أليانور على الأرض، رأسها يدقّ كطبول الحرب، وعيناها تحترقان كأنهما تحملان شمسين صغيرتين. داخل عقلها، اخترقها صوت آخر، أكثر خصوصية، يهمس باسم لم تسمعه من قبل: “رالفوس.”
المكتبة المحرّمة
في مكتبة القصر السفلى، حيث الأبواب محكمة بالشمع الأسود والحديد الصدئ، نزلت أليانور وهي تحمل اسم "رالفوس" كمن يحمل شظية من القدر. المكتبة كانت مكانًا لا يُسمح بالدخول إليه إلا في حالات قصوى، إذ قيل إن الكتب هناك لم تُكتب بالحبر وحده، بل بدماء الملوك وأسلافهم.
تقدّمت بين الرفوف المظلمة، مصابيح الزيت تتراقص بلهيبٍ ضعيف كأنها ترتجف من وجودها. الغبار عالق في الهواء مثل سحابٍ ساكن، والكتب القديمة تتنفس كأنها كائنات حيّة. مدت يدها إلى مجلد ضخم، غلافه من جلدٍ متحجّر، عليه ختم المرآة المكسورة.
لم يفتح المجلد عند لمسه، بل ظلّ مغلقًا كأنه يرفض الانصياع. أدركت أليانور أن الكتب المحرّمة لا تُقرأ إلا بثمن. دون تردد، سحبت خنجرها الفضي وقطعت إصبعها، ثم تركت قطرة دم تسقط على الغلاف. حينها فقط اهتزّ الكتاب، وتنفس كأنه استيقظ من سباته، وفتح نفسه على صفحة لا تشبه أي صفحة أخرى.
"رالفوس":
الظلّ الأول، ابن النسيان، حامل لعنات الممالك السبعة.
كان أول من طمع في المرآة النجمية، فأراد أن يبتلع نورها ليصنع عالمًا من ظلاله.
لكن النور رفضه، فانكسرت روحه إلى شظايا، ونُفي إلى الغابة الخاوية.
منذ ذلك اليوم، صار ينتظر عودتها… ليكتمل بما حُرم منه.
أغلقت أليانور الكتاب بقوة، يديها ترتجفان. أدركت الحقيقة المرعبة: المرآة ليست هبة كما ظنّت، بل قيد قديم. من يملكها لا يتحرّر، بل يُصبح محور لعنةٍ وامتحانٍ وميزان.
لكنها لم تكن من أولئك الذين يهربون.
رحيل إلى الغابة الخاوية
حين حلّ المساء، غادر القصر صمتٌ ثقيل. ارتدت أليانور عباءة الليل السوداء المطرّزة بخيوط فضية، كأنها تحمل قطعًا من السماء على كتفيها. علّقت المرآة على صدرها كسيفٍ خفيّ، وأخذت معها خريطة قديمة مصنوعة من جلد التنين، لم تُرسم بحبر بل بدمٍ جفّ منذ قرون.
خرجت وحدها، دون حراس ولا مرافقين. لم يكن في نيتها أن يشاركها أحد هذه الرحلة. كانت تعلم أن الغابة الخاوية ليست مكانًا يعود منه المسافرون. الأرض نفسها هناك تبتلع الخطوات، والأشجار تلتف حول الغرباء لتسجنهم في دوائر لا تنتهي.
لكنها لم تتراجع. كل خطوة كانت تثقلها، ومع ذلك كان قلبها يضيء في الظلام.
في الظل المقابل
في مكان آخر، على بُعد قارات، فتح رالفوس عينيه. كان جالسًا في وسط دائرة من الرماد، تحيط به أشجار سوداء ميتة، وأرض مشققة تفوح منها رائحة العفن. جسده طويل، مغطى بمعطف أسود ممزق، وجهه مخفي خلف قناع رمادي، لكن عيناه… عيناه كانتا بئريْن من السواد، بلا قاع.
حين نطق اسمها، ارتجفت الغابة كلها:
“أليانور…”
ثم ابتسم ابتسامة مشقوقة، وقال:
“لقد اختارت الطريق. فليبدأ السقوط.”
مع كلماته، بدأ الظل يتحرّك. خرجت من حوله أشباح لا أسماء لها، أصواتٌ كالعواء، وأشكال كالضباب، تحيط به وتنتظر إشارته. لم يكن وحده، فقد كان هو سيد كل من نُفي ونُسي عبر التاريخ.
ما وراء الحرف المحرَّم
بين المرآة النجمية وبين المرآة المشقوقة، بدأ خيط القدر يشتدّ. الكلمات التي كُتبت بالنار في قاعة القصر لم تكن تحذيرًا فقط، بل إعلانًا أن الظلال والنور يتقابلان مرة أخرى.
أليانور تحمل النور، لكنها لم تعد متأكدة إن كان النور خلاصًا أم فخًّا.
ورالفوس يحمل الظل، لكنه لم يعد مجرد عدو، بل ظلّ ناقص يبحث عن نصفه الآخر.
في تلك اللحظة، لم يكن أحد يعلم: هل كانت بداية حرب الممالك، أم بداية كشف سرّ النفس البشرية، حين ترى نفسها في المرآة وتدرك أنها ليست نورًا وحده… ولا ظلًا وحده.
خاتمة الفصل الثالث
هكذا خطت أليانور نحو الغابة الخاوية، تحمل مرآةً تقيّدها كما تمنحها، بينما على الجانب الآخر، نهض رالفوس ليبدأ مطاردة لم تُكتب نهايتها بعد. بينهما يقف التاريخ صامتًا، ينتظر الصفحة التالية.
فالمرآة لا تعكس الحقيقة فقط… بل تخلقها.