رواية: ظلال على نافذة المطر

رواية: ظلال على نافذة المطر

0 المراجعات

 


ظلال على نافذة المطر

كان المساء يقترب بخطوات ثقيلة، والسماء تتوشح بلون رمادي قاتم، كأن الغيم قد تعاهد على أن يحجب عن المدينة كل خيط من خيوط الضوء. جلست ليلى قرب نافذة غرفتها، تراقب قطرات المطر وهي تتسابق على الزجاج، تنساب بخفة ثم تلتقي في خطوط متعرجة، وكأنها تحكي قصة لا يفهمها سوى من يجلس وحيداً في هذا الوقت.

في الخارج، كانت الشوارع شبه خالية، والمصابيح تضيء ضباباً خفيفاً يرقص مع أنفاس الريح. كانت ليلى تحب المطر، لكنه هذه الليلة لم يكن يمنحها ذلك الإحساس الدافئ المعتاد؛ كان المطر هذه المرة ثقيلاً على قلبها، يشبه ذكرياتها التي تحاول عبثاً دفنها.

مرّت سنتان منذ أن غادر عمر حياتها، تاركاً وراءه فراغاً بحجم العالم. لم يكن فراقهما صاخباً ولا مليئاً باللوم، بل كان صامتاً، كأنه النهاية الطبيعية لشيء كان على وشك الانطفاء. لكنها في أعماقها كانت تعرف أن الحب لم يمت، بل ظل معلقاً في مكان ما، ينتظر لحظة خاطفة ليعود.

رفعت ليلى يدها ببطء، ورسمت بإصبعها على بخار النافذة دائرة صغيرة. تذكرت حين كان عمر يجلس في نفس المكان، يرسم أشكالاً مضحكة على الزجاج ثم يضحكان معاً. ابتسمت بمرارة؛ كانت تلك التفاصيل الصغيرة هي ما ينهش قلبها الآن.

في الطابق السفلي، كانت أمها تحضر العشاء، وصوت الملاعق والأواني يتسلل من المطبخ. لكنها لم تنزل، شعرت أن المساء أثقل من أن تملؤه برائحة الطعام. بقيت تراقب الشارع، حتى لمحت من بعيد رجلاً يقف تحت المطر، بلا مظلة، ينظر إلى المبنى المقابل. لم تكن تستطيع تمييز ملامحه من وراء الزجاج المبلل، لكنها أحست بشيء مألوف في هيئته.

لماذا يذكرها بــعمر؟ قلبها خفق بسرعة. حاولت أن تقنع نفسها بأن الأمر محض وهم، لكن الرجل ظل واقفاً، لا يتحرك، وكأنه ينتظر أحداً. ارتجفت أصابعها وهي تبعد ستارة النافذة قليلاً لترى بوضوح أكبر، لكن في اللحظة نفسها، رفع الرجل رأسه نحوها مباشرة.

تسمرت في مكانها. كان هو.

شعرت بتيار من الدفء والبرد معاً يجتاح جسدها، كما لو أن المطر اخترق النافذة ووصل إلى قلبها. ماذا يفعل هنا؟ لم تتحدث إليه منذ عامين، ولم يخطر ببالها أنه سيعود، خصوصاً في ليلة كهذه.

فتحت النافذة ببطء، واندفع هواء بارد محمل برائحة المطر، ومعه ذكريات قديمة. نادته بصوت مرتجف:
عمر؟
ابتسم ابتسامة صغيرة، تلك الابتسامة التي كانت تعرفها جيداً، وقال بصوت خافت:
هل يمكنني الصعود؟

لم ترد فوراً، بل أغلقت النافذة وأسرعت نحو الباب، وقلبها يسبقها إلى الأسفل. فتحت له، وكان المطر قد بلل شعره وكتفيه، لكنه لم يهتم. دخلا إلى الداخل، حيث الدفء، وبقيا واقفين للحظات في الصالة، يحدقان في بعضهما كأنهما يحاولان التأكد أن الآخر حقيقي.

لماذا أنت هنا؟ – سألت ليلى، وهي تحاول إخفاء ارتجاف صوتها.
اشتقت. – أجاب ببساطة.

جلست على الأريكة وأشارت له بالجلوس. لم يكن بينهما حديث منذ زمن، لكن الصمت لم يكن ثقيلاً كما توقعت. كانت نظراته تقول أكثر مما تستطيع الكلمات.

ظننت أننا انتهينا. – قالت وهي تحدق في فنجان القهوة الذي أحضرته له.
لم ننتهِ… نحن فقط ابتعدنا.

كانت تلك الجملة كافية لتعيدها إلى كل الليالي التي قضياها معاً، والمشاريع التي خططا لها، والأحلام التي لم تكتمل. لكنه بدا مختلفاً هذه المرة، كأنه عاد من رحلة طويلة تعلم فيها شيئاً لم يعرفه من قبل.

عدت لأنني فهمت أن بعض الأماكن لا يمكننا مغادرتها، حتى لو حاولنا. – قال وهو ينظر إلى النافذة حيث المطر يواصل عزفه.

لم تدري ليلى هل يقصد المنزل، أم قلبها، لكنها شعرت أن الإجابة واضحة.

خارج النافذة، كان المطر قد خفّ، وأضواء الشارع تنعكس على الأرض المبللة فتمنحها لمعاناً ساحراً. ظلال المصابيح بدت راقصة، تتحرك مع قطرات الماء، وكأنها تشاركهما تلك اللحظة النادرة.

مرت الساعات وهما يتحدثان عن كل شيء: عن الغياب، عن الأيام التي شعرت فيها ليلى بأنها وحيدة حتى وسط الناس، عن الليالي التي كان فيها عمر يحاول إقناع نفسه أن الحياة تمضي، لكنها في الحقيقة كانت تسير ببطء قاتل.

حين انتصف الليل، وقف عمر عند النافذة ونظر إلى المطر الذي عاد يتساقط بخفة. التفت إليها وقال:
ربما لا نستطيع إصلاح كل ما كُسر، لكن يمكننا البدء من جديد.

شعرت ليلى أن شيئاً في داخلها يذوب، ربما هو ذلك الجدار الذي بنته حول قلبها. اقتربت منه، ووقفت إلى جانبه، تراقب الظلال على الزجاج. كانت يداه دافئتين حين أمسكت بهما، وكأن المطر في الخارج والدفء في الداخل اتفقا على هدنة.

في تلك اللحظة، فهمت أن "ظلال على نافذة المطر" لم تكن مجرد صورة شاعرية؛ كانت حياتها كلها، بتناقضاتها بين الحزن والأمل، بين الغياب والعودة. وربما، فقط ربما، كان المطر هذه المرة يحمل بداية جديدة، لا نهاية.


التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

1

متابعهم

1

متابعهم

1

مقالات مشابة