سفير من جهنم

سفير من جهنم

0 المراجعات

سفير من جهنم

لم يكن الليل في تلك المدينة يشبه أي ليلٍ آخر. كانت العتمة ثقيلة، تُطبق على القلوب كما لو أن الهواء نفسه تحوّل إلى سوادٍ خانق. الأزقة ضيقة، والرياح تعوي كذئابٍ جائعة، والبيوت تنكمش خلف جدرانها كأنها تخشى أن يبتلعها الظلام.

في قلب هذا السواد وُلد اسمه: آدم الناري. لم يكن بشرًا خالصًا، ولا شيطانًا كاملًا، بل خليطًا غامضًا بينهما، خُلق ليكون سفير جهنم على الأرض، رسول النار إلى عالم البشر.

لم يختر آدم قدره، بل فُرض عليه كعقابٍ أبدي. كلما نظر في المرآة، أبصر خلف عينيه لهبًا يرقص، كأنه سجنٌ لا فكاك منه. وكانت مهمته واضحة: إغواء البشر، وإسقاطهم في شِراك الخطيئة. يدخل إلى القلوب فيثير أضعف ما فيها: الطمع، الشهوة، الحقد… وكلما انزلق إنسان إلى الهاوية، شعر آدم أن جدران جهنم تقترب من روحه أكثر.

في البداية، بدا الأمر له كأنه لعبة. كان يراقب الناس يسقطون واحدًا تلو الآخر بسهولةٍ مخيفة. تاجرٌ خان أمانته، صديقٌ طعن رفيقه، أمٌ باعت ضميرها في لحظة ضعف. وكان آدم يقف كظلٍّ خلفهم، يبتسم ابتسامة باردة كلما تلطخت روح جديدة.

لكن خلف هذا القناع، كان يحتفظ بذكرى قديمة لا تفارقه. في زمنٍ بعيد، قبل أن يُربط مصيره بالنار، كان طفلًا عاديًا يعيش بين البشر. يتذكر يد أمه وهي تربت على رأسه، وصوتها وهي تدعو له أن يكون صالحًا. لكنه فقدها في حريقٍ هائل، قيل إن سببه غضب السماء. ومنذ تلك اللحظة، سلِّم للظلام، وبدأ طريقه الملعون.

ومع ذلك، كلما سمع صوت مريم أو رأى وجهها المضيء، عادت تلك الذكرى لتطرق أبوابه: صورة أمه، ودموعها التي أطفأت نيران حزنه يومًا ما. أدرك أن داخله ما زال يحمل شيئًا من الإنسان الذي كان.

في ليلةٍ باردة، واجه مريم لأول مرة. حاول الاقتراب منها، لكن سهامه ارتدت كأنها اصطدمت بجدارٍ من نور. نظر إليها بدهشة، فقال بصوتٍ أجشّ:

– “لماذا لا تسقطين مثل الآخرين؟”

ابتسمت بهدوءٍ وقالت:

– “لأنني أعلم أنني لست وحدي. هناك من يمسك بيدي حتى في الظلام.”

كانت كلماتها كجرسٍ يوقظ أعماقه. عاد إلى مقره المظلم، حيث تنتظره العروش السوداء وأصوات الزفرات. سألوه بصوتٍ كالرعد:

– “كم روحًا جمعت الليلة؟”

ظل صامتًا، والعار يثقل صدره. رأى وجوه الضحايا في ذاكرته: عيون دامعة، قلوب مكسورة، وأحلام ضاعت. ثم تذكّر وجه مريم المضيء، المختلف عن كل الوجوه.

منذ تلك الليلة تغيّر. صار يتجول في شوارع المدينة كغريبٍ ضائع، يسمع أنين البشر ويشعر بضعفهم، لكنه لم يعد يجد لذة في إسقاطهم. كان يرى نفسه مرآةً مشروخة: نصفها يحترق بنار الجحيم، ونصفها يحاول التشبث بشعاعٍ ضعيف من النور.

وفي آخر مواجهة، وقف أمام مريم مجددًا، مُثقلًا بذنوبه. قال لها بعينين مرهقتين:

– “أنا خُلقت سفيرًا لجهنم، فكيف أستطيع أن أكون إنسانًا؟”

أجابته بابتسامة حزينة:

– “حتى في قلب النار يمكن أن تُزرع بذرة. قد تحترق، لكنها قد تُنبت يومًا ما.”

عادت كلماته إلى ذاكرته حين كان طفلًا يسمع دعاء أمه. دمعت عيناه لأول مرة منذ قرون، وشعر أن جدران جهنم من حوله تتصدع. عاد إلى مرآته الملعونة، ورأى النار في عينيه تتراجع، لكنها لم تختفِ. همس لنفسه:

– “ربما لن أنجو… لكنني لن أكون عبدًا للظلام بعد الآن.”

ثم اختفى من المدينة كما جاء، تاركًا وراءه أسطورة يتناقلها الناس: أسطورة رجل نصفه شيطان ونصفه إنسان، حاول أن يتمرد على قدره. أسطورة تقول:

حتى في أعماق الجحيم… قد تشتعل شرارة صغيرة تغيّر المصير.

 

 

 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

1

متابعهم

0

متابعهم

1

مقالات مشابة